الشمال السوري… حرب المشاريع وتحولاتها
منذ بداية الحرب في سوريا، شكل الشمال السوري عموماً، وحلب على وجه الخصوص، هدفاً تركياً واضحاً، ونقطة ارتكاز للمشروع التركي في الداخل السوري، سواء لأهداف أمنية أو سياسية تركية تتعلق بالأكراد من جهة واعتقاد أنقرة بـ"أحقية العثمانيين في حلب"، أو لأهداف اقتصادية أخرى، لما تمثله حلب من ثقل اقتصادي وتجاري في المنطقة، الأمر الذي بدا جلياً خلال الشهرين الماضيين، مع انطلاق عمليات الجيش السوري في ريفي إدلب وحلب لفتح الطرق الدولية نحو عاصمة سوريا الاقتصادية، وارتفاع النبرة التركية، والتدخل العسكري المباشر لعرقلة هذه العمليات، أو على الأقل محاولة ضمان حصة من "كعكة" الطريق والبقاء على حدود المدينة، والاستفادة القصوى من الصراعات الدولية بما يحقق مصالح تركيا، التي برعت في استغلال الحرب السورية على جميع الأصعدة.
لا يمكن قراءة الوضع الحالي في حلب ومحيطها، والتوتر الدولي الحاصل إثر عمليات الجيش السوري لاستعادة الطرق الدولية المؤدية إليها من دون العودة إلى بداية الأحداث في سوريا، وقراءة التطورات السياسية والعسكرية فيها، ضمن ترتيب زمني قد يغني الصورة الحالية.
مع بداية الأحداث في سوريا نأت حلب بنفسها عن الحرب، الأمر الذي لم يعجب الأطراف الدولية، وعلى رأسها تركيا التي قامت بتدريب مقاتلين من جماعات مختلفة يغلب عليها الفكر “الإخواني”، ضمن جماعة أطلقت على نفسها حينها اسم “لواء التوحيد”، حيث اقتحم المسلحون أحياء حلب الشرقية، وسيطروا على نصف المدينة تقريباً، وعلى كافة المدن والتجمعات الصناعية فيها.
في تلك الفترة برزت تصريحات قادة هذا الفصيل حول سبب المعركة وأهدافها، أبرزها ما قاله أحد قادة “اللواء” لوسائل إعلام حينها: “حلب لم تثر فجئنا بالثورة إليها”، الأمر الذي يمكن أن يلخص لب الأمر.
طوال أربعة أعوام عاشت حلب أقسى أنواع الحروب، وتغلغلت فيها الجماعات “الجهادية” التي دخلت عبر البوابة التركية، فتعرضت المدينة لحرب اقتصادية، وحصار، وتجويع، وقطع لمياه الشرب، حتى أن المسلحين الذي حاصروا القسم الغربي من حلب علقوا لافتة على معبر “بستان القصر” الذي كان يفصل بين شطري المدينة كتب عليها “يمنع إدخال حليب الأطفال”.
توقفت الصناعة في المدينة وسرقت معاملها. يقول رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية فارس الشهابي ان أكثر من ألف معمل حديث تم تفكيكه ونقله إلى تركيا، كما توقفت حركة المطار، ودمر قسم كبير من معالمها الأثرية، وحتى القلعة تعرضت لتهديد حقيقي، وحفر نفق بالقرب منها بهدف تدميرها.
مع التدخل الروسي في الحرب السورية، بطلب حكومي سوري رسمي، العام 2015، وبعد احتكاكات روسية – تركية على خلفية اسقاط أنقرة طائرة “سوخوي” روسية، وما تبع ذلك من اعتذار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن هذه الحادثة، انقلبت موازين العلاقة بين البلدين “اللدودين”، وتحول الصراع إلى شراكة سياسية ضمن حدود الجغرافية السورية، واقتصادية عابرة للحدود، ما ساهم بشكل كبير في تحرير مدينة حلب من الفصائل المسلحة، خصوصاً في ظل عدم وجود “حاضنة شعبية” للمشروع التركي فيها.
إلا أن هذا التحرير توقف عند حدود المدينة، ووضع الفصائل المسلحة على أطرافها، ما ضمن لتركيا إشرافاً مباشر عليها، بما يضمن قطع الطرق الرئيسية المؤدية إليها.
العام 2018، مثل نقطة تحول جديدة في ساحة الحرب السورية، إذ تمكن الجيش السوري، بدعم روسي، من إجلاء الفصائل المسلحة من معظم المناطق السورية ونقلها إلى إدلب، قرب الحدود مع تركيا، لتعود السيادة السورية إلى معظم أراضي سوريا من جديد، باستثناء مناطق الشمال الشرقي التي تتقاسم السيطرة عليها القوات الكردية المدعومة أميركياً، ومناطق دخلتها القوات التركية وقامت باحتلالها.
نقطة التحول الجديدة تمثلت بتوقيع اتفاق روسي – تركي في مدينة سوتشي الروسية، لرسم مسار محدد بجدول زمني لإنهاء أزمة حلب وإدلب، وإعادة فتح الطرق الدولية إلى العاصمة الاقتصادية لسوريا، تحت إشراف روسي – تركي، حيث تقع مسؤولية إبعاد الفصائل “الجهادية” وتفكيكها على عاتق تركيا، وتتولى روسيا ضمان عدم وقوع احتكاكات عسكرية.
وبينما التزم الطرف الروسي، ومعه الجانب السوري أيضاً، بالاتفاق، ماطلت تركيا، التي عمدت إلى إنشاء قواعد عسكرية في ريفي إدلب وحماة، في تعهدها، فلم تقم بإبعاد الجماعات “الجهادية” عن المسار المحدد وفق خريطة “سوتشي”، كما لم تقم بتفكيك الفصائل “الجهادية”، الأمر الذي انتظرت روسيا وسوريا لتنفيذه نحو عامين كاملين، دون أي تحرك.
تحولات جذرية
خلال عامي انتظار تركيا تنفيذ تعهداتها، تمكنت أنقرة من تحقيق مكاسب ميدانية وعسكرية عديدة قرب المناطق الحدودية مع سوريا، حيث توسعت في مناطق الأكراد الذين تخلت أميركا التي كانت تسعى للخروج من سوريا عنهم، كما بدأت مشروع توطين “سوريين مخلصين لمشروعها” في تلك المناطق، الأمر الذي يضمن لها نفوذاً مستقبلياً ويزيح عن عاتقها بشكل جزئي أزمتي الحدود واللاجئين السوريين في الداخل التركي.
استغلت موسكو الفراغ الأميركي في الشمال الشرقي من سوريا، وعملت بالتعاون مع الجيش السوري على التمدد أفقياً في تلك المنطقة، الأمر الذي وضع قدم روسيا في منطقة استراتيجية تطل على العراق والطريق الواصل منها إلى سوريا، وعلى تركيا (الناتو) من جهة أخرى.
وبينما تصاعدت الصراعات داخل البيت الأميركي حول خطة ترامب للانسحاب من سوريا، والأزمة التي سيخلقها هذا الانسحاب جراء التمدد الروسي، إضافة إلى رغبة الرئيس الأميركي ترامب في البقاء فقط ضمن المناطق النفطية لاستثمار آبار النفط السورية، وخطر انقطاع الطرق بين مواقع انتشار الجيش الأميركي، بالإضافة إلى تصاعد المواجهات الأميركية الإيرانية، وأهمية هذه المنطقة بالنسبة لطهران، وتحت ضغوط سياسية داخلية، أعاد ترامب ترتيب أوراقه في المنطقة وتراجع عن قرار الانسحاب، مشعلاً بذلك فتيل صراع مع روسيا على النفوذ في المنطقة.
بالتوازي مع هذا الصراع، برزت التطورات المتسارعة في ليبيا، والتدخل التركي المباشر ومواجهة روسيا فيها عسكريا، وقيام أنقرة بوضع ليبيا والشمال السوري في سلة واحدة، لترسم صورة جديدة للصراع بين “الجارين اللدودين”، خصوصاً مع سعي أنقرة لتوسيع نفوذها في منطقة البلقان، لتصطدم بشكل مباشر بروسيا في منطقة تمثل لموسكو جزءا من أمنها القومي.
التحولات الجذرية التي شهدتها المنطقة والشكل الجديد للصراع الدولي فيها، مهد الأرض لروسيا لبدء عملية عسكرية ينفذها الجيش السوري لتنفيذ اتفاقية سوتشي بالحديد والنار، لتبدأ بعدها سلسلة من المعارك تمكن خلالها الجيش السوري من السيطرة على كامل الطريق تقريباً، خلال فترة قياسية، وسط عجز الفصائل المسلحة عن منع هذا التقدم رغم الدعم التركي المفتوح لها، الأمر الذي وضع تركيا في مأزق الخروج بـ “خفي حنين”.
التحولات الجذرية التي شهدها الشمال السوري، والشكل الجديد للصراع الدولي فيه، مهد الأرض لروسيا لبدء عملية عسكرية ينفذها الجيش السوري لتنفيذ اتفاقية سوتشي بالحديد والنار
محاولات أخيرة..
أمام تقدم الجيش السوري، وحشر الفصائل “الجهادية” بمختلف مسمياتها قرب الحدود التركية، ووسط محاصرة الجيش السوري نقاط المراقبة التركية وسحب مبرر وجودها، وجدت تركيا نفسها تسير بخطى متسارعة لخسائر متلاحقة، الأمر الذي واجهته بطرق جديدة، بدأ بتكثيف إعلامي ذي طابع إنساني للفت الأنظار حول “خطر النزوح المتزايد قرب الحدود التركية” المغلقة أساساً، تبعها تدخل عسكري مباشر في مناطق سيطرة المسلحين وانتشار جديد للقوات التركية ضمن نقاط غير متفق عليها مع روسيا، ودفع الفصائل المسلحة لشن هجمات تحت غطاء مدفعي تركي على مواقع الجيش السوري، لإعادة رسم الخريطة الميدانية.
بالتوازي مع ذلك، أعادت تركيا فتح خطوط التواصل مع واشنطن التي وجدت في أحداث الشمال الأخيرة فرصة لمقارعة موسكو في ميدان جديد، والتضيق عليها في منطقة بعيدة نسبياً عن منطقة التوتر الحالي في أقصى الشمال الشرقي من سوريا.
أمام فشل هذه المحاولات، ومتابعة الجيش السوري تقدمه في المنطقة، والرد الفوري على مناطق إطلاق المدفعية التركية، ومقتل عدد من الجنود الأتراك، وجدت تركيا نفسها فجأة طرفاً في حرب مباشرة مع سوريا وروسيا.
الضربات السورية المتلاحقة للقوات التركية، جاءت تحت غطاء اتفاقيات “سوتشي” بين روسيا وتركيا، حيث استهدف الجيش السوري مواقع خارج نطاق خريطة توزع القوات التركية وفق هذا الاتفاق، كما أعلنت موسكو أن تركيا لم تبلغ روسيا بتحركاتها، الأمر الذي ضاعف من حجم الضغوط على أنقرة التي بدأت الحديث عن خطط جديدة وتهديد باقتحام عسكري، ومهلة محددة لانسحاب الجيش السوري إلى حدود “سوتشي” قبل نهاية شهر شباط الحالي.
ورفع الرئيس التركي إردوغان في خطابه الأخير أمام الكتلة النيابة لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا من نبرة تهديداته، معلناً أن تركيا ستستهدف الجيش السوري في جميع المناطق السرية في حال تعرضت القوات التركية لهجمات جديدة، مهدداً في الوقت ذاته جميع الدول التي تدعم دمشق، في إشارة إلى روسيا وبدرجة أقل إيران.
التهديدات التركية التي أخذت طابعاً إعلامياً أكثر منه سياسياً، خصوصاً مع الضغط الإعلامي المتزايد على إردوغان بعد أن مقتل عدد من جنوده بنيران الجيش السوري، ردت عليه روسيا بشكل مقتضب، يعيد الأمر بمجمله إلى اتفاقية سوتشي التي يطبقها الجيش السوري، والتي وقع عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان نفسه. ويبدو أن الرئيس التركي يحاول الالتفاف على الاتفاقية وتبرير التدخل العسكري بحجة “الضغط الشعبي التركي الكبير”، ومحاولة الاستفادة من مكاسب “سوتشي” رغم عدم الالتزام بها.
مشاريع في حقل ألغام
أعادت معارك الجيش السوري الأخيرة، بدعم روسي، رسم خريطة التوازنات الدولية في بقعة جغرافية مهمة تمس مدينة تشكل ركيزة من ركائز الاقتصاد السوري، وتفتح الباب أمام طرق استراتيجية تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وتفتح الباب أمام حركة تجارية عابرة للحدود، إضافة إلى أنها تضع حداً لـ “حلم العثمانية” الذي يراود إردوغان، والذي عبر عنه صراحة أكثر من مرة، آخرها العام 2016 عندما تحدث عن ضرورة تعديل اتفاقية “لوزان” التي جرى التوصل اليها بين مصطفى كمال اتاتورك والدول الغربية بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى بهزيمة دول المحور، وتضمنت الامبراطورية العثمانية ووضع حدود تركيا الحالية، حيث ركّز حينها على “العقد الوطني” الذي يكرس القومية التركية، ويعتبر الموصل وحلب جزءا من تركيا.
أعادت معارك الجيش السوري الأخيرة، بدعم روسي، رسم خريطة التوازنات الدولية في بقعة جغرافية مهمة استراتيجياً
خسارة تركيا الإشراف على مدينة حلب، ومناطق واسعة من إدلب، وتضييق الخناق على الفصائل المسلحة التي تدعمها قرب حدودها، وخطر انزلاق هذه الفصائل إلى الجانب الآخر من الحدود، بالإضافة إلى التورط التركي المتزايد في هذه الحرب بشكل مباشر وخسارة الجنود الأتراك، مجموعة من العوامل قد تشرح ردة الفعل التركية العنيفة إعلامياً، لتبقى قضية تنفيذ هذه التهديدات محفوفة بمخاطر أكبر من قدرتها على تحملها، خصوصاً أن الحرب في هذه البقعة الجغرافية باتت جزءا من حرب كبرى مباشرة وغير مباشرة بين “الصديقين اللدودين” – تركيا وروسيا، مع إدراك أنقرة أن حلف الناتو، الذي خذله بعد الصدام السابق مع روسيا العام 2015، سيخذله مجدداً، وأن الفاتورة التي قد تدفعها تركيا، سواء الاقتصادية أو السياسية، قد تكون أكبر بكثير من قدرتها على تحملها، خصوصاً أن الشريك الأميركي الذي يحاول العودة بقوة إلى الساحة السورية، أثبت مع كل اختبار له قدرته الكبيرة على “الخيانة”، وعدم وفائه بالتزاماته تجاه شركائه.
وأمام كل هذه المعطيات، تبقى دمشق المستفيد الأكبر من هذه التوترات، خصوصاً أنها تمكنت من التصدي العسكري لتركيا، ووجهت لها ضربة قوية، كما أنها تمكنت من استعادة مناطق حيوية، وحشرت ما تبقى من مسلحين ضمن حدود جغرافية ضيقة، كما ضمنت بهذا التقدم قضم “المشروع العثماني” وتقليم أظافره، وفتحت الباب على مصراعيه أمام إمكانية إعادة إحياء حلب كعاصمة اقتصادية لسوريا، ليبقى كل ذلك مرهوناً بمستجدات الصراع الدولي وما ستؤول إليه الأمور
علاء حلبي
إضافة تعليق جديد