العرب و«ستاتيكو» التفكك.. من العروبة إلى التمذهب

09-10-2015

العرب و«ستاتيكو» التفكك.. من العروبة إلى التمذهب

تزداد الانهيارات في العالم العربي بعدما تحوّلت خريطته الجغرافية إلى بؤر عنفية تبدل معالمها الآيات المقدسة والسيوف الدامية. ثمة حقيقة ثابتة في غد العرب: نحن إزاء «ستاتيكو التفكك». وقد فاقم التوتر السياسي والأمني من مستوى الخراب في السنوات الأخيرة. حتى بات يمكن ادراج الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج في نوعين: الأنظمة المنهارة والأنظمة القلقة.
كشفت الإرباكات المرافقة لـ «حركات الاحتجاج العربية» عن حجم العورات في السلطات الحاكمة التي هدمت بقوة الانقلابات والعسكرة والبداوة السياسية بذور الديموقراطية المأزومة، وتعاملت مع شعوبها ضمن النهج التكليفي وليس الحقوقي أو المدني.
شكّل القمعُ الرأسمال المادي والرمزي الذي أعطى للأنظمة العربية قوتها البقائية منذ عقود، عزّزه تحالف بين القوى المحافظة القابضة على الحكم والاقتصاد الريعي والمؤسسات الدينية. وقد آل التدهور الدرامي للوعي القومي الذي جمع العرب على قضايا تاريخية كبرى، في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، إلى تمدد الوعي الطائفي والمذهبي. ونجحت الإيديولوجيا الدينية المتطرفة بطرفيها السُني والشيعي في هدم العروبة وكسر بيضة الإسلام في مجال عربي منشطر على ذاته.
ظهرت ثلاثة أنماط من الحروب في ديار العرب المترامية: الحرب المذهبية بين السُنة والشيعة تقف خلفها جيوش ودول؛ حرب الأنظمة على المجتمعات بهدف الحفاظ على ما تبقى من مقومات الشرعية السياسية؛ والحرب النظامية ضد جماعات العنف الديني/ التكفيري. ويمكن ملاحظة هذا النمط في ثلاث دول على الأقل: سوريا وليبيا ومصر.
في كتاب «أوضاع العالم 2015 ... الحروب الجديدة» الصادر عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت، يشير أستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس برتران بادي في تقرير تحت عنوان «الحرب بين الأمس واليوم» إلى «المجتمع الاحترابي» متخذاً أمثلة من مناطق جغرافية عدة في العالم، بينها اليمن الذي عرف هذه الظاهرة منذ سنوات طويلة، ويبدو أن سوريا والعراق دخلا فيها.
لا ترتبط الانهيارات المتسارعة التي يشهدها العالم العربي بصراع المحاور في الإقليم فحسب، بعدما غابت سوريا ومصر عن المشهد السياسي، ما أدى إلى تبدل الأولويات القومية إلى أجندة تسعى لبناء تحالفات جعلت من المذاهب وتسييس الدين أساساً لها. ثمة معوقات ومشاكل سياسية واجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية عميقة الجذور، لم يتم التعاطي معها بمنطق الدولة منذ حقبة الاستقلالات، ما يطرح أسئلة من نوعٍ آخر: ما مدى تجذر مفهوم الدولة والديموقراطية في التاريخ العربي؟ وكيف ولماذا تمكّن العرب من تغليب دولة الغلبة على دولة المواطنين؟ وأيُّ دور للبنى السلطوية العميقة ـ السياسية والدينية - في دعم الأنظمة المتكلّسة؟ وهل وعي الجمهور العربي هو وعي مدني أم وعي ديني/ مذهبي؟
 تجلت إرهاصات التفكك السياسي والاجتماعي بصورتها الأوضح منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وقد أسست معظم الأنظمة العربية، القادرة والقلقة والمنهارة، شرعيتها على التسلط السياسي المدعوم فقهياً، ولم تفتح الباب أمام المشاركة السياسية الفعلية والتعددية السياسية وتمثيل الأقليات الإثنية والدينية، وسيطر عليها الاقتصاد الريعي من دون استثناء، ودعمت الحركات الإسلامية المتطرفة: الإخوانية والسلفية والجهادية/ التكفيرية في لعبة الصراع على الإسلام وهويته، بدل إرساء إسلام مدني جامع متصالح مع الحداثة؛ إسلام خارج آلهة المذاهب وحروبها الدامية منذ 1400 سنة.
الكارثة الكبرى أن العالم العربي المستهدف بعروبته وإسلامه من أعداء الداخل، يشهد ولادة جيل جديد - جيل الحرب والهزائم والعنف الديني - ينبذ العروبة كقاعدة حضارية جامعة، ويبني وعيه على أسس مذهبية وجهوية وطائفية بامتدادها الداخلي والإقليمي. هذا الوعي المذهبي لا يعود إلى السنوات الأخيرة. أصله ومنشؤه إلى جانب «الأحقاد الدينية القديمة» بين السُنّة والشيعة، تغييب ثقافة المواطنة عن الجمهور، وتعامل الدولة معه على أساس منطق الرعية، ما يفسر أسباب فشل الدمقرطة وتفاقم الطائفية والمذهبية واضطراب علاقة المجتمع بالدولة، فغلبت الهويات الفرعية التي تتخطى الحدود الوطنية، وجعلت ولاءها ليس للدولة وإنما ولاء إقليمياً/ مذهبياً.
إن التفكك السياسي والمجتمعي وتراجع نمو الاقتصادات العربية وارتفاع نسبة الفقر وتقلص دور الطبقة الوسطى وتآكلها والانفجار المضطرد للهويات الدينية والعنف الديني والسياسي المتنامي في السنوات الأخيرة، أنتجت كلها يأساً عاماً لدى الشعوب العربية دعمه عاملان أساسيان: الأول، سلطوية الطبقات الحاكمة وطغيانها ورفضها لأي تحديث يؤدي بالدرجة الأولى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان العربي؛ والثاني، نجاح الخطاب الديني في توطيد اليأس لدى الجماعات بعدما استطاع ممثلوه ورموزه تأطير الوعي الديني وتوطيد الأصولية في دواخله. لعل خلاصة الروائي السوري نبيل الملحم تسهل علينا فهم العلاقة الترابطية بين اليأس الديني والتطرف والفقر حين قال: «المسألة الدينية لا تواجه بالخطاب ولا بالفكر وحدهما، المسألة الدينية والتشدّد الديني في بعد من أبعاده هو منتوج اليأس، هو الابن الشرعي لمستوطنات اليأس، هو درب اليائسين، خفّف من وطأة اليأس تخفّف من وطأة الفكر الديني. المطلوب زرعاً آخر لا ينبت التشدّد الديني، ما حدث في بلادنا ليس بفعل قوّة العقيدة الدينية وتماسكها، هو نتاج سقوط وعد الحياة الذي يحيل الناس على وعد الآخرة. الفكر الديني لا يواجه بالحوار وحده، ليس حلبة صراع ما بين فكرين، علماني في مكان وآخر في المكان المقابل من الحلبة، هاتي تنمية وطنية طيبة، هاتي شيئاً من أسباب الحياة تتحوّل الآخرة الى حلم فردي، الى تأمل وليس إلى ساطور. اليأس، افتقاد الأمل، الخيبة، هذه هي أذرعة التشدد الديني وأقدامه وسواعده ورئته».
لا يواجه العالم العربي تحوّلات تاريخية كبرى. يقتضي التحول عملية التأسيس والبناء. نحن إزاء اختلال عام وتفكك وفوضى عارمة ترسمها الحرائق الدائرة في الإقليم. أصبحت الميادين جاهزة لمذابح أخرى. فهل إذا توقفت الحروب على الذات والآخر سيتمكّن العرب من ترميم ما تمّ تدميره إنسانياً وحضارياً وسياسياً؟

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...