المؤسسة الثقافية السورية تشتتت قبل الوصول إلى الإبداع

05-11-2015

المؤسسة الثقافية السورية تشتتت قبل الوصول إلى الإبداع

جرت الحرب على سورية فوق الأرض وتحتها طوال أربع سنوات. واجهها الشعب السوري، خازن الجينات الحضارية، بوعي رفيع يحيط بأن حماية سورية، النواة التي اقتطعت منها الأطراف الشامية بالمعاهدات الاستعمارية، تصون أحلام القومية العربية والقضية الفلسطينية، وترد الوحشية عن العالم. في أربع سنوات فقط اجتاز الشعب السوري متاهات «الربيع العربي». ميز موقفه من الفساد والبيروقراطية السياسية، وتخلف المؤسسات السياسية عن مستوى الحاجات الوطنية العليا، من الثوابت الكبرى التي دافعت عنها الدولة السورية. أي شعب غيره يصبر على التلاعب بقوته وعملته الوطنية، ويتحمل استخفاف التجار بصبره، فلا ينزل رافعا سيفه على الفقر، كيلا يؤول غضبه في لحظة حرجة تقرر اتجاه المنطقة والعالم؟!

قوة المنظومات الفكرية
خلال ذلك، اكتشف السوريون وكشفوا، بالصبر والشجاعة والتفاني، أن منظومة الأفكار المظلمة قوة تستطيع أن تشعل حرباً عالمية. فالمجموعات التكفيرية التي يتوهم السياسي الغربي أنه يستخدمها، تسجل هي أيضاً، أنها تستخدم «الكفار» في مشروعها. تتجاوز المنظومات الفكرية زمن مولدها. وإلا فلماذا وجدت أفكار سيد قطب من ينفذها في أمكنة بعيدة عن منشئها وأصبحت مشروعاً سياسياً ذا بنية مسلحة؟ تعبئ المنظومات الفكرية الروح، تربي وتوجه. تجعل الموت استشهاداً نبيلا في سبيل الوطن، أو عملاً إرهابياً مجانياً. تسوق مجموعات كما تساق القطعان، أو تنظم المقاومة الوطنية بمشروع مؤسس على العقل. تسقط إلى مستوى توزيع السبايا واستعباد الرجال وتعليم الأطفال القنص والذبح، أو تسمو بالإنسان إلى مستوى أخلاقي إنساني رفيع. تنتج تعاليم قتل المخالف في الرأي والرؤية والقومية، أو تثمر قصائد الشعر التي تغني حياة البشر.
جمعت الرؤية الإستراتيجية التي تحيط بخطر الإرهاب التكفيري على العالم، أكبر سياسيي زمننا: الرئيس بوتين والرئيس بشار الأسد والسيد خامنئي والسيد حسن نصر اللـه. رأوا الخريطة السوداء العالمية التي رسمها إرهابيون يحتلون منطقة النفط والآثار، ويستولون على قوة الدين ومكانته في الوجدان ويؤسسون عليه مشروعا سياسيا، يسعون إلى أسلحة دمار شامل، ويستخدمون غازات سامة، ويربون «أشبالهم» بمهارات عسكرية، ويعلمون أطفالهم الذبح. عبر الرئيس بوتين عن بصيرة واسعة باقتراحه جبهة عالمية ضد الإرهاب، تتجاوز منافع الذين يستخدمون الإرهاب في مخطط سياسي. حاول أن يرفع السياسة الغربية إلى مستوى مسألة كبرى جامعة، قارئاً ضرورة رؤية مبدعة إلى العداوات والأحلاف. دون أن يهمل حقد الغرب على روسيا أكانت سوفيتية أم قومية، أو يغفل عن خطط منظري الهيمنة الاستعمارية مثل برنار لويس وكيسنجر وبريجنسكي.
لكن المصائر الكبرى لا تنتظر المعجزات. فمنظومة الفكر الإرهابي مسلحة بجيش عالمي يملك آلاف مراكز الاتصالات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وآلافا مثلها في الغرب، تدعو إلى القتال في سورية. تملك بنية تحتية عسكرية متقدمة، وكتائب مقاتلة وانتحارية، وحدودا مفتوحة للتموين والتسلح، ومشروعا يمتد من قاعدته السورية العراقية إلى العالم. في لحظة فاصلة، قد تكون ضرورة ميدانية، لكنها أيضاً ضرورة إستراتيجية ومعنوية، ولدت جبهة عمل عسكري سياسي فيها دولة عظمى، ودولة إقليمية كبيرة، وقوات نظامية شرعية، وقوات حليفة. ونبهت الصواريخ الروسية عابرة القارات، المسددة من البحر الأسود على مواقع الإرهابيين في سورية، إلى حقيقة جديدة: لم تعد الولايات المتحدة تملك وحدها الفضاء الدولي! لا توجد فقط أقمار تنقل المعلومات الأميركية إلى الإرهابيين، بل توجد أيضاً منظومة معلومات دقيقة تساعد الجيش السوري على استعادة المناطق التي احتلها التكفيريون وتعيد الأمان إلى المدنيين!

من سورية إلى عالم جديد
طويت آخر صفحات «نهاية التاريخ» باستعراض الساحة الحمراء يوم تسلم السيد بوتين الرئاسة! ويوم كشفت الألعاب الشتوية في سوتشي دولة عظمى ذات كفاءات فنية وتنظيمية رفيعة! لكن الطائرات الروسية التي تظلّل الجيش السوري بينت أيضاً قصور الفكر الاستعماري، على الرغم مما يواكبه من التقدم العلمي. فقد درس الخبراء الروس تجربتهم في حرب أسيتيا الجنوبية، وطوروا طائراتهم وأداءهم. فخططوا اقتلاع بنية الإرهاب التحتية والمعلوماتية واتصالاتها في عمق الأرض وفوقها. وبقي «التحالف الغربي»، في مستوى صيد «الآليات» التي تتحرك على الأرض! لذلك عبر الهيجان الإعلامي الغربي عن الوجع من نجاح الإستراتيجية الروسية، واحتفى به الوطنيون الأوروبيون واليسار الغربي الجديد. فالانتصار على الإرهاب في سورية يعني الانتقال من عالم وحيد القطب إلى عالم ملون الأقطاب.

الفراغ الفكري
لكل مشروع سياسي ثقافته. يستند كل خط في سلوك المجموعات التكفيرية إلى المنظومة الفكرية التي أسسها سيد قطب وحسن البنا وابن تيمية وابن القيم، وكررتها كتب قادة التكفيريين الجدد. شهد عليها تطبيقها في جبل سنجار، وسبي الايزيديات، وذبح الأطفال، وجهاد النكاح، ونسف الأديرة والكنائس والمساجد والأضرحة، وتدمير آثار الحضارة، ونهب أملاك المخالفين، ومؤسسات الدولة. هل فاجأتنا هذه الهمجية؟ ربما! لأننا لم نرصدها في الحرب على يوغوسلافيا، التي تقدمتها «ثورة برتقالية»، واعتمدت فيها مجموعات إرهابية سلفية. ولأننا تغاضينا عن انتشار الوهابية بالمدارس والجوامع والأئمة منذ السنوات الثمانين من القرن الماضي.
بأية منظومة فكرية واجهناها؟ بتراثنا المؤسس على التسامح، ووحدة النسيج السوري الحضاري، وإرث مقاومة الاحتلال، لا بمنظومتنا الثقافية! أوجز السيد رئيس الجمهورية ذلك بمصطلح «الفراغ الفكري». أمامنا إذاً أسئلة جدية، اقتصادية وتربوية وثقافية: لماذا حذفت القصائد العربية القديمة الكبرى من كتبنا المدرسية؟ لماذا اقتحم الفيديو كليب شوارعنا وإذاعاتنا ووسائل مواصلاتنا وغابت القصيدة التي تعبر عن الوجدان؟ لماذا أصبحت الثقافة كمالية، بعد أن كانت «الحاجة العليا للإنسان»؟ واكبت القصائد الكبرى حركة التحرر من العراق إلى سورية ومصر ولبنان. ولكن حدثا كبيراً هو مقاومة وطنية شعبية وعسكرية في الحرب على سورية لم يستولد قصيدة يرددها الناس كقصيدة الجواهري: هل تعلم أم أنت لا تعلم، أو قصيدة الشابّي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة، التي حذفتها الكتب المدرسية، أو قصيدة البدوي جلونا الفاتحينا، أو قصائد شوقي والزركلي ومردم وجبري والقباني.
كأنما منع الشعر والغناء من دورهما في تهذيب العواطف! من ناحية بانحطاط الغناء، ومن ناحية بغياب القصيدة التي تعبئ الوجدان! تباعدت أطياف أم كلثوم وفيروز الرحبانية وافتقرت جوليا بطرس إلى الاستمرار. يوم أنشدت أم كلثوم القصائد العربية الكبرى، وحدت الشعوب العربية في الشعور، نشرت عواطف القلب، وثبتت شرعية الحب! أدت مشروعاً سياسياً وطنياً واكب حركة التحرر والتنور. وخاطبت فيروز الشباب والطليعة العصرية. أليس الفراغ الثقافي إذاً من أدوات الثورة الناعمة؟
لم يرتق الأداء الثقافي إلى مستوى مكانة سورية اليوم كمنعطف بين عالم وحيد القطب وعالم متعدد الأقطاب! فليس الفراغ الفكري غياب دراسات تواجه الفكر التكفيري، فقط، بل أيضاً غياب القصيدة التي تعبر عن صمود الشعب السوري، عن أبطال جسر الشغور ومطارات الطبقة وأبو ضهور والثعلة وكويرس ودير الزور، وعن بسالة حضر وكفر نبل والزهراء وغيرها. وليس المقصود قصيدة صارخة صاخبة، متمرغة بمفردات الأمجاد، بل قصيدة تنقل الصوت الإنساني الذي تنضفر فيه البطولة بعواطف القلب وعمق الأوجاع.

أغاني سنوات الحرب الروسية
في ليالي الحرب التمست ذلك الشعر في أغاني الحرب العالمية الثانية، التي تسمى في روسيا الحرب الوطنية العظمى. وتبينت في السياق، أن الرؤية الإستراتيجية الواسعة استنهضت بتلك الكنوز الشعرية الموسيقية الروح الروسية من دمار البيريسترويكا. صاغ تلك القصائد كتاب شاركوا في الدفاع عن الوطن، فولدت في نار الحرب، وصارت أغنيات أنشدها الناس والجنود في الجبهات. منها «كاتيوشا» التي انتشرت في العالم. تعزف تلك الأغاني اليوم فرق سيمفونية، ويؤديها فنانون متنوعون منهم مغنو أوبرا. فتصحح، في السياق، مسائل ملتبسة لدينا، منها: الالتزام، وعلاقة الفن بالإيديولوجيا، وشروط الأغنية الوطنية، والكفاءة التي تؤهل لعالمية التعبير عن الروح الإنسانية. عبرت تلك القصائد عن جنود الجيش الأحمر الذي لاحق النازية حتى برلين، ولابد أنها أسست ثقافة الطيارين الروس الذين يواكبون الجيش السوري. لكن كأنما هي أيضاً عن السوريين الصامدين والموجوعين! هناك في القرن الماضي قاتل الجنود الإرهاب النازي، وهنا في هذا القرن يقاتلون الإرهاب التكفيري. هناك عبأ الفن جيش المدافعين عن الوطن، وحمله المغنون والممثلون إلى الجبهة. وهنا، وياللأسى، غيبوبة الثقافة!

على أطراف عالم واسع
عندما تنقلت بين تلك القصائد أطللت على جانب أجهله. وخلال البحث عن الشعراء الذين كتبوها لامست عالما لا يكفي العمر لفحصه. وفهمت بحزن أننا نعبر بسرعة ما نظن أننا نعرفه ولا نلمّ في الحقيقة إلا بملامحه. لا نستطيع أن نحتوي حياة مئات الأشخاص بمقطع خاطف من عمرنا! تلزمنا مئات السنوات لنتأمل كنوز متحف أرميتاج. وأولئك الشعراء مثلها! قالت أم الشاعرة مارينا تسفيتايفا وقت موتها إنها حزينة على فراق الموسيقا. ألا نقول مثل ذلك عن فراق الشعر العربي القديم وهذا الشعر المعاصر وملحمة مجنون ليلى الفارسية! يبدو أننا عندما نصبح في ذورة العمر أكثر قدرة على تذوق بلاغة الكلمة واللون والنغمة، نقترب من فقدانها.
ربما يخطر لنا، واليد على مقبض الباب، أن أغاني الحرب الوطنية العظمى ثمرة الزمن السوفييتي. لكن الاعتداد القومي يتجاوز تقدير مرحلة من التاريخ مهما كانت مهمة. فانتزاع مراحل سابقة من مكانها في الوجدان، كالجريمة! من يقرأ هذه الحقيقة يضعها في مشروعه السياسي، ويرسم بتلك الرؤية النهج الثقافي. لذلك تأخذ قصيدة «على تلال منشوريا» مكانها في الحفلات الروسية المعاصرة، مع أنها عن الحرب الروسية اليابانية. وعندما تُطرب وتُلهب الروح تثبّت الاستمرار التاريخي في روح الشعب. يؤدي مغنو أوبرا «اشتعلي، اشتعلي يانجمتي» التي صيغت سنة 1847 في الذكرى السنوية الـ700 لبناء موسكو. ومع أنها أغنية رومانسية من زمن «البيض»، غنيت في آخر الحرب، ثم أداها مغني الاوبرا الكبير بوريس شتاكالوف، وتطرب اليوم المعاصرين. ينظم إذاً سياق واحد القصائد التي تخاطب الوجدان، من قصائد «المدافعين عن موسكو» و«مدينتي موسكو» و«انهض يا وطني العظيم» و«على تلال منشوريا» و«آخر معركة»، إلى أكثر القصائد رهافة: «الغرانيق»، الجنود الذين لم يستلقوا في تراب الوطن بل أصبحوا غرانيق بيضاء، وجندي يفكر في زوجته في ليلة الحرب المعتمة، وجندي يرقص الفالس بين غارة وغارة، وأكورديون وحيد يعزف في الليل كمن يبحث عن إنسان ولا يجده.
يتيح تأمّل هذا المشروع الثقافي ملامسة نهجٍ مؤسس على دراسة عميقة في الشعر الروسي، يجمع تنوع الأساليب والنكهات، ويرتب منها باقة متناسقة. يحفظ تميز شاعر من آخر، وأداء غناءٍ شعبي، من أداء مجتهد صحيح، من أداء رفيع في مستوى الأوبرا. ويوحي بأن الغناء والشعر كانا حاجة الإنسان الأولى إلى النطق بأصوات متناسقة، وثمرة طريق طويل إلى اكتشاف ما في الصوت الإنساني من النغمات الناعمة والقوية التي تؤدي البوح الناعم والنداء.

معلومات
من أولئك الشعراء الذين تتردد كلماتهم في الوجدان كأنها قيلت لنا في هذه اللحظة من الحرب على سورية؟ تنسج حياة كاملة، شخصية وعامة، ذلك الصدق الشفاف. ولد روبرت ايفانوفيتش رجديستفينسكي من أب التحق بالجيش الأحمر وقتل في معارك لاتفيا سنة 1945، وأم روسية التحقت في بداية الحرب بالجبهة وتركت طفلها مع جدته. ماتت جدته فعادت من الجبهة في إجازة قصيرة ووضعته في رعاية خالته. وفي نهاية الحرب تزوجت من ضابط أعطى الشاعر اسمه. تناول الشاعر في قصائده أسئلة الإنسان المعاصرة وكتب غزليات جميلة. من قصائده «في مكان ما بعيد»: أرجوك يا حزني، اتركني ولو قليلاً! طر إلى البيت العزيز على غيمة زرقاء، من هنا إلى الوطن العزيز. يا ضفتي تلامحي، على خط الأفق الرقيق البعيد. يا ضفتي، يا ضفتي الحنون، آه، لو أني أبحر إليك، لو أني أصل إليك في وقت ما! في مكان ما بعيد، بعيداً جدا، ينزل المطر ويبزغ الفطر. وعلى ضفة النهر تماما، في الحديقة الصغيرة، نضج الكرز وانحنت حتى الأرض أشجاره. في مكان ما بعيد في ذاكرتي، هناك الآن دفء كما كان في طفولتي. مع أن ذاكرتي الآن مغطاة بطبقات من الثلج. أيتها العاصفة، اسقني حتى الثمالة، حتى الثمالة لا حتى الموت. ها أنا أنظر إلى السماء، كما نظرت إليها في المرة الأخيرة، كالباحث عن جواب. أرجوك يا حزني، اهجرني ولو قليلا! طر على غيمة زرقاء إلى البيت العزيز، من هنا إلى البيت العزيز.
هذا شاعر آخر، ميخائيل فاسيليفتش ايساكوفسكي، تلامس قصائده الوجدان بأسلوب آخر. تناول شعره موضوعات سياسية بأسلوب غنائي. كتب «كاتيوشا»، الصبية التي خرجت إلى ضفة النهر وغنت عن الحبيب المقاتل الذي تحفظ رسائله، فليحم تراب الوطن ولتحفظ كاتيوشا له الحب! من قصائده التي أصبحت من أغنيات زمن الحرب، الأكورديون الوحيد: «مرة أخرى سكن كل شيء حتى الفجر، لا صرير باب ولا توهج نار، يسمع فقط من مكان ما في الشارع، أكورديون جوّال وحيد، مرة يتجه إلى البساتين خارج البوابة، ومرة يرجع، كأنه يبحث عن شخص ما في العتمة، ولا يستطيع أن يجده. تهف من البساتين برودة الليل، وينتشر من أشجار التفاح لون كثيف، اعترف لنفسك أيها العازف الشاب، قل، من تحتاج، فقد تكون سعادتك في المتناول، وأنت تجهل أنها تنتظرك. لماذا تتجول طول الليل وحيدا، لماذا تؤرق الفتيات».
صادفت خلال البحث عن أولئك الشعراء صورة يفغيني دلماتوفسكي، قرب بوابة برلين، براندنبورغرتور، يقرأ لزملائه الجنود من ورقة في يده. في صورة أخرى الشاعر في استراحة محارب في بار في فيينا مع مقاتلين من كتيبته. اخترق في الحرب أوروبا من ستالينغراد إلى برلين. ولعله هناك في لحظة استراحة كتب قصيدة «فالس غير متوقع»، فوصلت إلينا بعد عقود وسط موكبها، كنقطة من حياة متوهجة بين النار والدخان والغارات، كنداء حلو على شعرة بين الحياة والموت! «الليلة قصيرة، والغيوم نائمة، وفي يدي يد لم آلفها، المدينة نائمة بعد الغارات، لكني سمعت لحن فالس وتوقفت هنا لحظة، ومع أننا التقينا الآن فقط، وبيتي بعيد جدا، أشعر كأني في بيتي مرة أخرى، وأنا أرقص معك في هذه الصالة الفارغة. أرجوك قولي شيئا، أي شيء، فلنكن أصدقاء، فلنغن ونرقص، فمنذ وقت طويل لم أغن ولم أرقص. أرجوك اغفري لي خشونتي، في الصباح عندما نرحل تاركين وراءنا مدينتك الصغيرة، سأمر ببوابتك، ومع أننا التقينا الآن فقط، وبيتي بعيد جدا، أشعر بأني في بيتي مرة أخرى، وأنا أرقص معك في هذه القاعة الفارغة، أرجوك قولي شيئا، أي شيء. الليلة خاطفة والغيوم نائمة، ويدك غير المألوفة بقيت في يدي». تلمس تلك اللمحة من شعور إنساني مثيلاتها، لذلك تدمع عيون نساء ورجال يستمعون إليها. تذكرهم بما عبروه، وربما بما تمنوه. هكذا يجعلنا الفن، وهو يصيد الخفي في ثنيات الروح، أكثر شفافية، ويشيّد التقارب الإنساني الرفيع. نحن أولئك الذين التقوا وافترقوا بين معركة ومعركة!

الطموح
بدا قبل الحرب أن المؤسسة الموسيقية العلمية التي شيدتها سورية مفيدة من الخبراء السوفييت ثم الروس، قد تشتتت قبل الارتقاء من العمل الأكاديمي إلى الإبداع الوطني. ربما لأنها افتقرت إلى إدارة قوية متفانية تستطيع استبقاء المهارات التي ربيت أكثر من ربع قرن. تحاول دار الأوبرا اليوم أن تكون واحة لما بقي من الثقافة الجدية. وتواجه فرقة حسام بريمو الموسيقية، التي غنت طول أيام الحرب، انحطاط الفيديو كليب. فهل تستطيع هذه المؤسسة أن تتخطى الغيبوبة الثقافية بمشروع يجعل قصائد شعراء الاستقلال أغنيات تروي الروح وتسند التلاحم الوطني، ويرد على التحريم التكفيري بغناء كنوز الشعر العربي القديم؟ وربما يؤهل بذلك النهج لبزوغ شعر في مستوى مكانة سورية.

د.ناديا خوست

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...