الهوية السورية بين الطموح الفردي والوطنية الرمزية
نقلت تصريحات صحافية منذ أسبوعين عن لاعب كرة القدم السوري المرموق عمر سومة بأنه تلقى عروضاً بالجنسية من ثلاث دول خليجية، هي السعودية ودولة الإمارات وبالطبع قطر، بغرض الانضمام لأحد منتخباتها.
اللاعب الذي نال لقب هداف الدوري السعودي هذا الموسم رفض اللعب مع منتخبه الوطني في تصفيات كأس آسيا، وساق حججاً عدة، بينها سوء طريقة التعاطي الرسمي معه من قبل اتحاد كرة القدم السوري، رغم أن الأخير اعتذر في رسالة رسمية عن «عدم احترامه» سابقاً لأصول التراسل بين الاتحاد ولاعبيه الوطنيين.
التفاصيل ربما تكون مهمة في محاججة المقاهي، وأيضاً في المحاكمات الصورية لمعايير الوطنية المجروحة، حين يجري الجدل بين السوريين، حول لاعب موهوب بالفطرة مستعدّ للتخلي عن هويته الوطنية للارتقاء بمجد شخصي، إلا أن هذه التفاصيل ليست سوى الصورة الموسعة لوطن جريح يبحث مواطنوه عن المخارج الفردية.
ليس سومة طيراً خارج السرب، إذ تشكل نسب اللاجئين السوريين في العالم أعلى نسبة وقد بلغت أربعة ملايين وفق تقديرات الأمم المتحدة أخيراً، ومن الطبيعي أن يبحث المتميزون بين هذا الجمع المهول عن أفضل الفرص الممكنة، في محاولة للاندماج بمجتمعات جديدة.
وبيع الموهبة مقابل الجنسية والتخلي عن الهوية الوطنية، وبالتالي إقصاء تمثيلها وأحياناً ربما منافستها، هي مسألة لا تعاني منها سوريا فقط بل مجتمعات دول أخرى تعرضت للتمزيق، وانحسار هويتها أو تضيقها.
في مقعد الطائرة الملاصق للنافذة تحدثت لاعبة منتخب من دولة «الجبل الأسود» (حفيدة يوغوسلافيا الأصغر) لكرة اليد من دون اكتراث عاطفي، بأن ثلاثة لاعبين أساسيين في منتخب قطر الوطني لكرة اليد هم من «الجبل الأسود» قبلوا الجنسية الجديدة ومبالغ كبيرة من المال لارتداء قميص المنتخب العنابي، وتمثيل دور اللاعب القطري، وهو ما أوصل المنتخب إلى نهائي كأس العالم الذي أقيم في الدوحة الشتاء الماضي، لكن أيضاً عبر الاستعانة بلاعبين آخرين من 11 جنسية، بينهم اللاعب السوري السابق آمان زاكار. وبتشجيع ليس من المواطنين القطريين فحسب، وإنما من فرق تشجيع اسبانية متعاطفة مع نادي محلي استبدلت اسم النادي بكلمة «قطر»، وذلك مقابل «مصروف جيب» لم يحدد، وإقامة وجبات مجانية خلال كامل فترة البطولة.
وتقول اللاعبة المحــترفة ابنــة العشــرين عاماً إنها تتفهم أن يتخذ أبناد جلــدتها هذا القرار، لدرجة يضطرون فيها لمواجهة أشقائهم في منافسة ما.
ويصبح الفهم أسهل حين يجري تصور العكس فيما لو كانت يوغوسلافيا، أو الاتحاد اليوغوسلافي، في أيام عظمته، فيبقى تمثيله رياضياً مصدر كبرياء وتفاخر، وهو ما لا يمكن قبوله حين نتحدث عن الدول الثماني الضعيفة التي أصبحها. تقول اللاعبة الشابة إنها ربما تفعل أمراً مشابهاً لزملائها مقابل مليون دولار على سبيل المثال.
ورغم أن حالة قطر كحقيبة مال متخومة مهووسة بالظهور يمكن أن يفهم ضمن شذوذه الذي صار طبيعياً بقوة المال وحده، لكن هذا لا يلغي الشق الثاني من المشكلة التي تتمثل في ضيق بعض الهويات الوطنية على الطموحات الفردية. في الأشهر الأخيرة منحت السلطات التركية جنسيتها لسوريين عديدين، بينهم عازف البيانو الشاب تامبي اسعد (17 عاماً) وعالم الرياضيات جمال أبو الورد، ولاعبة كرة الطاولة تسنيم نبهان (14 عاماً)، ولن يكون غريباً أن تجر هذه الأمثلة نماذج أخرى مشابهة وراءها.
هؤلاء تمكنوا من «شراء خلاصهم» إلا أن كثراً من السوريين، احتاجوا لابتداع طرق مبتكرة مختلفة، للحصول على اللجوء، سواء جاؤوا في القوارب أو في صناديق شاحنات أو على مقاعد طائرة تجارية. ووصل الأمر ببعض الساعين للهجرة إلى تطليق زوجاتهم، وتقديم ادعاءات بالعنف المذهبي ضمن الأسرة الواحدة، وذلك لغاية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأسرة، فيبني كثر تكتيكهم هذا على قاعدة السياسة السورية المستأصلة بأن «الوقت وحده دوماً كفيل بتغيير الوقائع والموازين»، فيمكن أن يلتئم شمل الأسرة مجدداً بعد حين، ولكن في المهجر.
بل إن الحنكة المحلية، والفطرة في ليّ القانون، بما فيه السويدي، سمحت لأســر مطلقة لغايات الهجرة بالحصول على سكنين منفصلين، فابتدعوا تأجير منزل للاجئين محتاجين، والعيش في المنزل الثاني.
والواقع أن السوري بطبعه يحمل هاجس السفر، إلا أن قسماً كبيراً ممن سافروا لتلقي التعليم في الخارج عادوا مع شهاداتهم للعمل في بلادهم أو مجتمعاتهم المحلية الصغيرة.
وعدا البحث عن فرص عمل مادية، كما في الخليج، تراجعت صورة سوريا في العقد قبل الأخير من هذا القرن كمنصة هجرة، كما كانت بدايات القرن الماضي، والتي أنتجت أجيالاً من المهاجرين السوريين، ولا سيما في أميركا الجنوبية حيث يقدر عددهم بـ12 مليون مهاجر من أصل سوري.
إلا أن الأعوام الأخيرة أعادت لسوريا هذا الدور، وبشكل مأساوي لم يشهده التاريخ، فصارت أسباب الهجرة تتعدى هاجس تحسين المستوى المادي، إلى فرار المرء بجلده من شتى أنواع القصف والتدمير وأشكال الإجرام المتنوعة، والأهم من هذا كله إيجاد مكان في المستقبل حيث لا يبدو هذا المستقبل في سوريا واعداً بأي شكل. ومنذ أشهر، أعلنت وزارة الداخلية السورية أنها استصدرت ما يقارب مليون جواز سفر خلال أقل من نصف عام.
ومثلما تتميّز الشخصية السورية بطابعها الاجتماعي المنفتح وقدراتها التجارية الفطرية، فإن هذا انعكس في العقود الأخيرة على الجانب التعليمي، وباعتراف، لا الحكومة السورية التي يحسب لها هذا أيضاً، وإنما الحكومة السويدية، حين أعلنت منذ شهر أن نسب التعليم والكفاءة لدى المهاجرين السورين هي الأعلى في تاريخ استقبال السويد للاجئين في أراضيها. بدورها نقلت صحف لبنانية عن مسؤول ألماني أن الحكومة الألمانية ستعلن نيتها «استقبال» آلاف اللاجئين السوريين من «النخب المتعلمة» بشكل يساهم في تقوية بعض جوانب الاقتصاد الألماني مستعينة بسمعة العامل السوري وشهادات كفاءته.
وفي أيار الماضي، اقترح باحثان أميركيان، في مقال نشرته «نيويورك تايمز» الاميركية، «استجلاب» مئات آلاف السوريين من مخيمات اللجوء في تركيا والأردن لإعادة دورة الحياة إلى مدينة الأشباح الاقتصادية ديترويت، والتي تهاوت صناعة السيارات فيها حتى هجرها ما يعادل نصف سكانها، البالغ مليوني نسمة. وطالب الباحثان الإدارة الأميركية بتأمين مبلغ 5.1 مليارات دولار للشروع بهذه الخطة، التي وفقاً للمقال يؤيدها حاكم ولاية ميشيغان ريك سنايدر وبدأ «بتهيئة الأرضية لها».
وبالطبع يحث الباحثان على جلب الأكفاء وأصحاب الحرف والشهادات بعد مقابلتهم، وهو ما يمكن تفهمه، علماً أن سوريا نزفت قسماً كبيراً من عقولها، إذ يمكن الإشارة على سبيل المثال دون الحصر لعشرة آلاف طبيب هاجروا من البلاد خلال السنوات الأربع التي مضت.
وربما تظهر أفكار أكثر درامية من الأفكار السابقة، إلى أفريقيا مثلاً، من دون أن تجد حرجاً كبيراً في قبولها من الشريحة التي يكبر طموحها بالهجرة باستمرار مترافقاً مع نموها العددي.
ورغم أن مأساة اللاجئين السوريين في الخارج والنازحين في الداخل تستحق كل تعاطف ومساعدة، إلا أنها تثير السؤال الأكبر حول مدى الانتماء إلى الهوية الأصلية والتاريخية مقابل تلك التي تؤمن لهم فرصة العيش الكريمة والآمنة؟
ومفيد التذكير والمقارنة، وذلك وفقاً لما تذكره موسوعة «ويكيبيديا»، بأنه رغم وجود عدد هائل من السوريين في أميركا الجنوبية ممن امتلكوا حق الحصول على جنسية بلد الهجرة، خلال القرن الماضي، إلا أنهم كانوا لا يهتمون بامتلاكها.
ووفقاً لما يخبرنا به مغترب سبعيني، عاش نصف عمره في البرازيل، فإنهم «كانوا يقرعون أبواب بيوتنا لحثنا على التقديم للجنسية!»، وكنا نجيب «لدينا جوازنا السوري ماذا نفعل بالثاني؟».
أما الآن فيبحث أحفاد الرجل ذاته عن خيط رفيع يوصلهم لرابطة دم مع عم أو خال هناك، تسمح بترتيب أوراق هجرة دائمة، ولو بأصعب الشروط.
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد