انفجار المجتمع وانفجار الدين
أحدثت سيرورة ما عرف بـ «الثورات العربية» انزياحات وتحولات كبرى، أفضت إلى تنامي العنف الديني والمجتمعي، ووطدت القوة البقائية للبنى الطائفية والمذهبية الراسخة في تاريخنا وموروثنا ووعينا. يمكن اعتبار التصدعات الراهنة ذات طبيعة هيكلية فرضتها مجموعة من العوامل السياسية والمجتمعية والدينية المتراكمة منذ عقود.
وفي ضوء الفشل الذي تمرّ به الدول العربية المأزومة التي يتحكم بها «ستاتيكو الخراب»، مع ما تتعرض له المؤسسات الرسمية من انهيارات متتالية في سوريا وليبيا واليمن والعراق، كشفت الأحداث في السنوات الأربع الأخيرة عن عمق أزمة الدولة العربية. ساهم الاقصاء السياسي وسيطرة الأنظمة الاستبدادية وتغييب العدالة الاجتماعية وقمع الحريات وسطوة مفهوم الرعية على مفاهيم المواطنة وافشال التحديث الديني والمجتمعي في تسريع انفجار المجتمع والدين.
يطرح البعض سؤالاً بديهياً: كيف يمكن تفسير تمادي العنف الديني المنتشر في الأقطار العربية، وهل الإسلام في طبيعته وتكوينه عنفي وغير قابل لاستيعاب قيم الحداثة؟ فجرت الحركات الإسلاموية التكفيرية المسكوت عنها في تاريخنا، فأخرجت الطائفية المتجذرة في البناء الاجتماعي والثقافي والسياسي. يخوض الإسلام اليوم أعنف معاركه مع الحداثة، ما يذكرنا بمقولة فؤاد عجمي تعليقاً على أطروحة هنتنغتون «صدام الحضارات» حين قال: «الإسلام ليس خطيراً لتشرذمه وانهياره في وجه عواصف الحداثة». يتحمل الموروث الديني الطائفي والمذهبي المسؤولية الأساسية عن الانهيارات التي يشهدها الإسلام المعاصر، بعدما طغى «علم البدع» (hérésiographie) وتكفير الآخر المختلف في الدين. تحتفظ الطائفية بقوتها الكامنة بفعل النصوص والنفوس. لم تكن نتاج العقود الأخيرة؛ إذ إنها ثاوية في التاريخ والوعي الجمعي بفعل الأصولية النصية والمجتمعية، وما الحديث عن العامل أو المتغير الإقليمي الذي أيقظ المارد الطائفي، إلاّ تعامياً عن الحقائق؛ فالتصادم بين مكوِّنات الإسلام وخريطته الدينية التي عرفت توترات في حقب مختلفة بقي ماثلاً، ويُعد ردة فعل على نمطين من الفشل: فشل الدولة الوطنية في تطوير المجتمع والمؤسسات المدنية، وفشل الدين الإسلامي في التكيف مع الشروط التي تفرضها الحداثة، وفي مقدمها الفصل بين الديني والسياسي.
تبرهن الهجمة غير المسبوقة للعنف الديني، برأسماله الرمزي والمادي، وبممثليه من «حماة المقدس» ـ من السلفية والإخوانية والتيارات التكفيرية وجهاديي الموت وقطع الرؤوس وبعض الإسلام التقليدي والرسمي ـ على خلاصة أولية: غياب القدرة على تجاوز الماضي التراثي كما لو أنه واقع أبدي. والحال إن الخضات التي يشهدها الإسلام وما ترتب عليها من ثورات معكوسة، تنهض على هذيان جمعي عام لا يريد الانفصال عن الأصل، وقد أتى من عوامل عدة أهمها: رفض الخروج من الدين. منذ حوالي خمسة قرون، بدأت في العالم الأوروبي ما سمّاه مرسيل غوشيه بـ «سيرورة الخروج من الدين»، وهي لا تعني زوال الدين والإيمان، بل تعني أن الدين لم يعد ينظّم كامل الحياة الاجتماعية والسياسية، أي لم يعد نظاماً شاملاً يهيكل المجتمع طبقاً لغيرية قداسية يسميها غوشيه (hétéronomie) (راجـــع: رجاء بن سلامة: نقد الثوابت في الفكر العربي، موقع الأوان، 27 تموز 2015).
رأى محمد عابد الجابري في كتابه الشهير «تكوين العقل العربي» أن «الحركة في الثقافة العربية هي المراوحة في الموضع نفسه أو «حركة اعتماد» لا «حركة نقلة»، ولا تقتصر هذه الظاهرة على قطر دون آخر ولا على مرحلة دون أخرى، إذ إن جميع الأقطار العربية قد عاشت بَعدياً العصر الجاهلي ذاك وما زالت تعيشه كجزء من تاريخها الثقافي». يبدو أن الأزمة لا ترتبط بآلية الجمود في الثقافة العربية فحسب، بل في ذهنية جمعية طغيانية ترفض الحركية والإبداع، فتكرس ثقافة الدفاع عن الماضي بوصفه مقدساً متعالياً.
تستدعي الانفجارات التي يعاصرها الإسلام في مواجهة الحداثة تسريع عملية تحديث الدين وتحييده عن الدولة ومنع توظيفه السياسي من قبل الأطراف المتنازعة عليه وعلى هويته. هذا التحييد أو الفصل بين الديني والمدني/ السياسي، يعتبر شرطاً أساسياً لأي محاولة جادة لاخراج الإسلام من أزماته المتعاقبة، أي انتقال بالإسلام من حيز الأمة / الجماعة التي تلغي ذاتية الفرد بفعل التراكمات الدينية والتاريخية، إلى سياق الإيمان الفردي. فهل وصلت فوبيا الاستعصاء الدفاعية / الجماعية إلى نهاية انحدارها بفعل وتيرة التآكل والتذرير العاملة على هدم الإسلام من داخله؟ وماذا سينتج عن هذا العنف الديني المتمادي؟ تتقدم المجتمعات العربية بسرعة هائلة نحو عصر الأصوليات التي تكتسح المجتمع والسياسة والدين.
ما إن تعرضت المجتمعات العربية لمؤثرات الضغط الخارجي والداخلي، حتى طفت على السطح كل بنى ما قبل الدولة: القبلية، العشائرية، العنف الاجتماعي، الجرائم، التمذهب... إلخ. لا تمتلك مجتمعاتنا المناعة الكافية للتصدي لثلاثية الأصولية والطائفية والمذهبية، المتأصلة في ثقافتنا العربية. تتعامى الأنظمة العربية عن هذه المخاطر عبر إنكار الواقع المذهبي والطائفي والقبلي، فسكتت عنه وغذته وطغت عليها الأيديولوجيات السياسية والحزبية والدينية، ورفضت أي تغيير أو تحديث لبنى الدولة والمجتمع والدين.
يواكب الانفجار الديني الانفجار المجتمعي؛ كلاهما يغذي الآخر. المجتمعات العربية عاجزة ومقعدة. قوى المجتمع المدني تصدعت نتيجة حرب الأنظمة عليها وانفلاش المدّ الديني الأصولي. فهل ستقوم لنا قائمة بعد سلسلة هذه الانفجارات التي باتت تهدد وجود الدول نفسها؟
طرح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي نظرية التحدي والاستجابة، فالحضارات عنده تقوم وتصعد استجابة لتحديات محددة سواء أكانت هذه التحديات مادية أم اجتماعية؛ والحضارة عندما تصل إلى مرحلة تعجز فيها عن الاستجابة للتحديات التي تجابهها، فانها تدخل في مرحلة الانهيار. إن الدول وفقاً لتوينبي: «لا تموت قتلاً وإنما انتحاراً»، وهذا ما خلص إليه المؤرخ الأميركي ويل ديورانت الذي قال: «إن الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها».
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد