بريجنسكي يضع خارطة طريق للخروج الأمريكي من العراق
الجمل: نشرت صحيفة لوس انجلوس تايمز الأمريكية، مقالاً أعده الخبير الاستراتيجي زبيغينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في إدارة الرئيس جيمي كارتر.. وقد كان عنوان المقال الرئيسي (خارطة طريق الخروج من العراق)، وعنوانه الثانوي (قيادة الولايات المتحدة تم اختبارها في الشرق الأوسط، وسوف تفشل ما لم تغير الاتجاه).
يقول بريجنسكي: تمثل الحرب في العراق نكبة استراتيجية وأخلاقية تاريخية تم القيام بها تحت مزاعم وافتراضات خاطئة، وهي تقوض المشروعية العالمية لأمريكا، فالضحايا المدنيين الذين ترافقوا معها، والانتهاكات، أضاعت بريق الموثوقيات الأخلاقية لأمريكا، والتي –بتأثير زخم- الدوافع الجنونية والعجرفة الامبريالية، أدت إلى تصعيد وتزايد الاضطراب الإقليمي.
وبعد، فإن ثمة قرارات استراتيجية في إدارة بوش، مازال يتم القيام بها، ضمن دائرة ضيقة جداً من الأفراد –على الأرجح لا يتعدون أصابع اليد الواحدة- وباستثناء وزير الدفاع الجديد، روبرت غيتس، فإنهم نفس الأفراد الذين كانوا متورطين منذ بداية هذه المغامرة الخاطئة، والذين صنعوا القرار الأصلي الذهاب للحرب في العراق، والذين استخدموا التبريرات الكاذبة الأصلية من أجل الذهاب إلى الحرب. فمن طبيعة الإنسان أن يكون متردداً في القيام بالأفعال التي تغير وتقلب السياسة رأساً على عقب.
من وجهة نظر المصالح الوطنية للولايات المتحدة، يعتبر هذا على وجه الخصوص، شؤماً. وإذا استمرت الولايات المتحدة غاطسة وغارقة أكثر فأكثر في مستنقع التورط الدامي في العراق، فإن المحطة النهائية في مسار المنحدر، الدخول في صراع مع إيران ومعظم العالم الإسلامي.
هنا، على سبيل المثال، يوجد ثمة سيناريو مقبول عقلياً للصدام العسكري مع إيران:
• فشل العراق في تحقيق علامات التقدم إزاء الاستقرار، والمحددة –سلفاً- بواسطة إدارة بوش.
• يعقب ذلك اتهامات الولايات المتحدة حول مسؤولية إيران عن الفشل، ثم وببعض التحريض في العراق، أو العمل الإرهابي في الولايات المتحدة وتحميل المسؤولية لإيران، بما يؤدي إلى إجراء عسكري (دفاعي) بواسطة الولايات المتحدة ضد إيران.
• يؤدي هذا إلى إقحام أمريكا وحدها بتهور في ورطة أكثر عمقاً واتساعاً، قد تستمر 20 عاماً أو أكثر، ممتدة بشكل كامل تام عبر العراق، إيران، أفغانستان، وباكستان.
حقيقة، وبالفعل إن السردية التاريخية الأسطورية لتبرير القضية من أجل الحرب الطويلة والقابلة للتوسع، -هي سردية- تم بالأساس تداولها بشكل مسبق. وبدأت في أول الأمر بمزاعم كاذبة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، والآن أصبحت الحرب يعاد تعريفها وتسميتها باعتبارها تمثل النضال والكفاح الأيديولوجي الحاسم لعصرنا، ويتم شحنها وتحميل –خطاب هذه الحرب- بالذكريات الحافلة للصدامات مع النازية والستالينية. وعلى تلك الخلفية، التطرف الإسلامي و-تنظيم- القاعدة يتم تقديمها باعتبارها المعادل للتهديد الذي فرضته ألمانيا النازية وروسيا السوفييتية، وأحداث الحادي عشر من أيلول –يتم تقديمها- باعتبارها المعادل لهجوم بيرل هاربر الذي نتج عن تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
هذه السردية البسيطة والديماغوجية، على أية حال، تتجاهل وتتغافل غاضة النظر عن أن الخطر النازي كان يقوم على القوة العسكرية للدولة الأوروبية ذات التطور الصناعي الأكبر، وعن أن الستالينية ليست فقط مجرد القدرة على تعبئة وحشد موارد الاتحاد السوفييتي المنتصر والقوي عسكرياً، بل –للستالينية- ألقاً وفتنة عبر أيديولوجيتها ومذهبيتها الماركسية.
بالمقابل، فإن معظم المسلمين لا يتبعون الأصولية الإسلامية، والقاعدة –هي تنظيم- معزول –يمثل- انحرافاً وضلالاً أصولياً، ومعظم العراقيون، ينخرطون في أعمال العنف ليس نيابة عن أيديولوجية أو مذهبية إسلامية، وإنما بسبب احتلال الولايات المتحدة، الذي دمر دولة العراق. وإيران –في هذه الأثناء- برغم أنها كسبت نفوذاً إقليمياً، فإنها لا يمكن أن تشكل خطراً عالمياً، بل، وبدلاً عن ذلك، فهي منقسمة سياسياً، وضعيفة اقتصادياً وعسكرياً. وللتدليل والبرهنة على القول بأنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تتعامل وتتجاوب عسكرياً إزاء الخطر الإسلامي الواسع الذي تمثل إيران نقطة المركز فيه، هو أشبه بالتدليل والبرهنة على إعلان النبوة، لا يوجد بلد آخر يتقاسم الأوهام الخادعة الجنونية التي تتداولها بحماس إدارة بوش. والنتيجة، وبكل أسف وحزن، أقول: هي العزلة السياسية المتزايدة، والعداء الشيعي المستشري إزاء الولايات المتحدة.
مصالحنا الدولية تتطلب تغييراً رئيسياً في الاتجاه، ونحن نحتاج إلى استراتيجية، من أجل إنهاء احتلال العراق، وتشكيل وإقامة حوار أمني إقليمي، وكلا الهدفين سوف يستغرق وقتاً، ويتطلب ويستلزم التزاماً جاداً حقيقياً من جانب الولايات المتحدة، والسعي لإنجاز هذه الغايات والأهداف سوف يتضمن أربع خطوات:
أولاً: على الولايات المتحدة أن تعيد التأكيد والحزم علناً وصراحة وبوضوح، عن عزمها على مغادرة العراق في فترة قصيرة معقولة من الزمن. وحتى الآن، فقد ظل احتلال الولايات المتحدة، برغم رفض معظم العراقيين له، يخدم كمظلة للتمرد الداخلي. ولا أحد داخل أو خارج الحكومة العراقية يحس أو يشعر بأي بواعث أو دوافع حقيقية للمساومة والتنازل طالما أن الولايات المتحدة تحافظ لا أكثر ولا أقل على الموقف الجاري على غير هدى تماماً.
الإعلان علناً بأن الولايات المتحدة قررت أن تغادر هو قرار لازم وضروري، من أجل تهدئة المخاوف في الشرق الأوسط، والتي تتعلق بالهيمنة الامبريالية الأمريكية الجديدة الطويلة الأجل.
ينظر الكثيرون بغض النظر عن صواب أو خطأ نظرتهم، إلى إنشاء وإقامة هذا النوع من الهيمنة باعتباره السبب الرئيسي لتدخل الولايات المتحدة في المنطقة التي نالت استقلالها قبل فترة قليلة من السيطرة الاستعمارية. وهذا الإدراك يجب تكذيبه، وإذا كان الرئيس –بوش- غير راغب بالقيام بذلك، فإن الكونغرس بالطبع يمكن أن يمرر قراراً مشتركاً.
ثانياً: يجب أن تعلن الولايات المتحدة أنها تتعهد في المحادثات مع الزعماء العراقيين لكي يتم التحديد للتاريخ الذي سوف يتم فيه إكمال فك الارتباط العسكري للولايات المتحدة.
وباختصار فإن سنة واحدة يمكن أن تكون كافية، ولكن التاريخ يجب أن يتم الاتفاق عليه مع العراقيين ويتم إعلانه كقرار مشترك. وفي هذه الأثناء، يتوجب على الولايات المتحدة أن تتفادى التصعيد العسكري بما في ذلك زيادة عدد القوات، والتي في أفضل الأحوال سوف يكون لها –مجرد- منفعة وفائدة تكتيكية عابرة.
فقط، بإجراء محادثات جادة مع السياسيين العراقيين حول تاريخ الخروج، فإننا نستطيع أن نتحقق من الزعماء العراقيين الأصليين الذين يتميزون بالثقة بالنفس والقدرة على الوقوف على أرجلهم، بلا حاجة للحماية العسكرية الأمريكية. والواقع المؤلم هو أن النظام العراقي الحالي، تصفه إدارة بوش باعتباره ممثلاً للشعب العراقي، هي حكومة تحدد نفسها بقدر كبير بواسطة موقعها الطبيعي: قلعة أمريكية محصنة من 4 أميال مربعة داخل بغداد، محمية عن طريق حائط يبلغ سمكه 15 قدماً في بعض الأماكن، ومحروسة ومخفورة بواسطة القوات العسكرية الأمريكية المزودة بالأسلحة الثقيلة، والتي تعرف علناً بـ(المنطقة الخضراء)، وفقط الزعماء العراقيين القادرين على ممارسة سلطة حقيقية خارج المنطقة الخضراء هم الذين يمكن التوصل معهم في نهاية الأمر إلى حل عراقي حقيقي.
ثالثاً: يتوجب على الولايات المتحدة أن تشجع الزعماء العراقيين على إصدار دعوة لكل جيران العراق، وبالطبع بعض البلدان الإسلامية الأخرى، مثل: مصر، المغرب، الجزائر، وباكستان.. وذلك لمناقشة الكيفية المثلى لتعزيز الاستقرار في العراق بشكل يتزامن مع فك الارتباط العسكري الأمريكي، والإسهام في نهاية الأمر والمشاركة في مؤتمر يتعلق بالاستقرار الإقليمي.
إن مثل هذا الحوار الجاد حول الأمن الإقليمي لا يمكن أن يتم إجراؤه مع العراق أو جيرانه في الوقت الذي يُنظر فيه إلى الولايات المتحدة باعتبارها غازياً ومحتلاً لفترة غير محددة. فجيران العراق لا يخافون من أي انفجار وعنف حقيقي يجري داخل العراق عندما تكون الولايات المتحدة موجودة هناك.. والأمر الواقع الذي لا يتسم بالثبات في هذه الحالة تكون تكاليفه حسماً من حسابنا، وبالتالي لا يتطلب ذلك منهم القيام بأي خيار حقيقي.
ولكن في حالة وجود تاريخ للمغادرة والخروج، متفق عليه، فإن كل الحكومات الموجودة حول العراق سوف تكون مجبرة على مسائلة نفسها (كيف نتعامل مع مشكلة الاستقرار في العراق؟ هل نريد حقيقة أن تكون لنا حرباً إقليمية بين بعضنا البعض).
رابعاً: يتوجب على الولايات المتحدة تفعيل وتنشيط جهد يتميز بالموثوقية والطاقة الحيوية الكبيرة، وذلك من أجل التوصل إلى سلام إسرائيلي- فلسطيني نهائي. والخبرة تقول: إن الإسرائيليين والفلسطينيين سوف لن يقوموا بذلك من تلقاء أنفسهم، ومن ثم، من دون تقديم مثل هذا الحل فإن المشاعر القومية والأصولية في المنطقة سوف تؤدي لإخفاق وإفشال أي نظام عربي يُفهم بواسطة الآخرين وبواسطة شعبه بأنه نظام مؤيد للهيمنة الإقليمية الأمريكية.
بعد الحرب العالمية الثاني انهمكت الولايات المتحدة في الدفاع عن الديمقراطية في أوروبا، وذلك لأنها اتبعت استراتيجية سياسية طويلة الأجل تتعلق بتوحيد أصدقائها وتقسيم أعدائها. ومن ثم استطاعت بهدوء وواقعية أن تردع العدوان دون حاجة إلى إثارة العداوات.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد