سراب جنيف وكذبة الحل
الجمل ـ محمد صالح الفتيح: يقترب مؤتمر جنيف 2 ليضيف موضوعاً آخر إلى المواضيع التي يتجادل فيها السوريون والآخرون المهتمون بالشأن السوري: هل سيكون هناك حل وهل سيتم الوصول إليه غداً الأربعاء في جنيف؟ يدافع المتفائلون والمتحمسون لجنيف عن اعتقادهم بنجاح المؤتمر بأن المؤتمر سيعقد بتوافق دولي وإقليمي ومادام الحال كذلك فمن المستحيل أن يفشل! قد يكون هذا الكلام منطقياً وصحيحاً في خطه العام. ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل ولايمكن الإجابة على سؤال بحجم الأزمة السورية دون أن يخوض المرء في التفاصيل حتى عنقه.
في هذه المقالة أحاول أن أحلل وأقدم بعض التفاصيل التي تفسر لماذا لن يكون جنيف نهاية الأزمة أو حتى بداية نهايتها. سأناقش وفق محورين: الأول يتعلق بمحدودية الوضع الراهن في سورية والثاني ينظر للأزمة السورية من منظور يقارنها بأزمات إقليمية مشابهة.
محدودية الوضع الراهن
من هم أطراف الأزمة السورية الحالية؟ أحد الأطراف هو كيان واضح المعالم ومتماسك ومتناغم وهو الحكومة السورية أما الطرف الثاني فهو مجموعة واسعة الطيف ومتباينة الأهداف تختلف فيما بينها أكثر بكثير مماتتفق. يضم ذلك الطرف كيانات سياسية على رأسها الائتلاف السوري المعارض وهو كيان أثبت أنه متناقض المواقف وتناقض مواقفه إنما يعكس بالدرجة الأولى تناقضات الآراء في المحور الذي رعى ولادة الائتلاف. وبالرغم من أن الائتلاف قد قرر المشاركة في مؤتمر جنيف فإن أكثر من 60 من أعضائه كانوا قد انسحبوا من صفوفه حتى هذا الصباح بمافيهم أعضاء المجلس الوطني المعارض. إضافة إلى ذلك، تشير حقائق الميدان والصراع المسلح إلى أن الائتلاف هو أضعف أركان الطرف المعادي للحكومة السورية. فهو لم يستطع حتى الآن أن يمارس نفوذه على أي جزء – ولو كان بحجم كومة حجارة في هضبة اللجاة في أقصى الجنوب أو كثيب رمال في بادية دير الزور. من يملك السيطرة على الأرض ويمسك البندقية في وجه الجيش العربي السوري هم – بحسب آخر إحصاء – أربعة فرقاء: الجيش السوري الحر والجبهة الإسلامية وجبهة نصرة أهل الشام والدولة الإسلامية في العراق والشام. الفريق الأضعف بين هؤلاء – وإن كان أقوى من الائتلاف المعارض وبقية المعارضة السياسية – هو الجيش السوري الحر، ولعله الكيان الوحيد الذي يحمل راية غير دينية – أو هكذا تحاول الولايات المتحدة أن تصوره. بقية الفرق الثلاثة، وهي الأكثر قوة، تحمل جميعها دمغة إسلامية. أقوى هذه الفرق وأكثرها تطرفاً هو الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). هناك كيانات متعددة أصغر حجماً تنقل ولاءها بين الحين والآخر بين هذه الفرق الأربعة؛ أخر مثال على هذه الكيانات هو مايعرف بلواء داود الذي بايع منذ فترة قائد الدولة الإسلامية في العراق والشام وعاد البارحة وسحب بيعته. مايميز الدولة الإسلامية وجبهة النصرة – وربما الجبهة الإسلامية المُحدثة - هو استيعابهما لمئات – وربما ألوف – من المجاهدين العرب والمسلمين الذين ينضوون تحت راية مشروع جهادي يشمل سورية فقط في جزء من أجزائه.
هذا التذكير بهذه التفاصيل التي أصبحت معروفة لجميع السوريين هو فقط لإظهار كيف أن من يحضر جنيف 2 لايملك القدرة على فرض أي اتفاق على الأرض السورية مادامت القوى المسلحة ترفض الحوار أصلاً إما بسبب صراعات القوى داخل المحور الأمريكي-الأوربي-الإسرائيلي-الخليجي-التركي (فتفجير الضاحية الجنوبية هذا الصباح وهو الثاني منذ بداية هذا العام يثبت أن السعودية ماتزال تمارس "النشوز"؛ كما أن دعم الولايات المتحدة في أخر لحظة لطلب الائتلاف سحب دعوة إيران يثبت أن التوافق مازال بعيداً) أو بسبب عمل تلك القوى – الجهادية تحديداً – في أجندات لاتستفيد مطلقاً من الحوار مع الحكومة السورية. فهل يمكن أن تستفيد – مثلاً – الدولة الإسلامية في العراق والشام من أي اتفاق مع الحكومة السورية بما يسمح لها بإقامة تدريبات لمجاهديها في معسكرات الصاعقة السورية في الدريج أو بدمج "مؤسسة سحاب للإنتاج الإعلامي" مع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون؟ عزيزي القارئ إذا ما شعرت بسخافة الجملة السابقة فلابد أن تشعر إذاً بسخافة الكلام عن نجاح لمؤتمر جنيف مادام من حضر لايملك قراره ومن غاب لايكتمل نجاح مشروعه إلا بهزيمة الآخرين جميعاً. ستستمر المواجهة العسكرية بقيادة الجهاديين على الأقل.
ماذا لو ناقشنا تصوراً بالغ التفاؤل تضغط فيه الولايات المتحدة على السعودية لكي تضغط هذه الأخيرة على الجبهة الإسلامية لتقوم بحل نفسها؛ وفي نفس هذا التصور لنتخيل أن الجيش السوري الحر سيقرر أيضاً حل نفسه أو أن يقاتل أفراده إلى جانب الجيش العربي السوري ضد الفريقين الباقيين: النصرة وداعش. حتى هذا التصور المتفائل للغاية يعني مواجهة ألوف الجهاديين العرب والأجانب الذين نبذتهم بلدانهم والذين لايمكن تطبيق الحل اليوغسلافي عليهم أي توطينهم في البلد الذي قاتلوا فيه – كما في البوسنة سابقاً أو سورية حالياً. هذا التصور لا يختلف في نتائجه عن التصور السابق ولايوجد في هذا التصور مايقدم أي شيء مشجع للحكومة السورية أو الجيش السوري. فهذا التصور يعني – بنظر كثيرين – مجرد تقديم مكافأة لمن كان يخوض حتى الركب في دماء أفراد الجيش السوري وأي فائدة ستأتي من هؤلاء إن كانوا قد هربوا أساساً في الفترة الماضية من المواجهات مع النصرة وداعش؟ تسويق الحل وفق الوصفة السابقة بين مؤيدي الحكومة السورية سيكون صعباً إلى حد بعيد – إن لم يكن مستحيلاً. يمكن القول إذاً أن لا حل سياسي يظهر في الأفق نتيجة المحدودية التي تم توصيفها أعلاه.
الأزمة السورية من منظور مقارن
قد يتسائل القارئ بعد قراءة الجزء السابق إن كانت الأزمة السورية مستحيلة الحل إذاً. لابد أن أزمات مشابهة قد نشأت واحتدت ووجدت أطرافها حلاً ما في نهاية المطاف؛ فالأزمات لاتستمر إلى الأزل. هذا، أيضاً، كلام صحيح ومنطقي في الخط العام. ولكن كل أزمة تجد لها – بطريقة أو أخرى – رعاة إقليمييين أو دوليين يعملون على إطالتها بما يخدم مصالحهم ويصبح بالتالي نهاية الأزمة مرهوناً بتحقيق أهداف هؤلاء الرعاة أو حصولهم على مكاسب ما. تطول الأزمات من هذا النوع إذا ماكان رعاتها قوى كبرى لاتتضرر من طولها أو اتساع نطاقها؛ فالنيران لن تصل إلى تلك القوى الكبرى وغالباً لن تتضرر مصالحها الإقليمية. قد يكون من المفيد هنا المقارنة بأزمة الحرب الأهلية اللبنانية. تلك الحرب، التي اندلعت منذ منتصف السبعينات وبدت – في البداية – أزمةً محليةً محدودةً سببها الحساسية من الوجود الفلسطيني، كان لها أيضاً رعاة دوليون عملوا صراحة ومواربة وتحت شعارات مختلفة على زيادة حدة الأزمة وإطالتها – كما هو الحال اليوم في الأزمة السورية.
كان لدى رعاة الأزمة اللبنانية في البداية قائمة طويلة من الأهداف تبدأ من إضعاف القوى الفلسطينية مروراً بسحب الإجماع العربي حول سورية بحجة أن سورية تحارب الفلسطينيين ولاتنتهي عند إضعاف سورية وجيشها وجرها إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل. لو أرادت سورية وحلفاؤها في لبنان إنهاء الأزمة بسرعة لكان توجب – غالباً – دفع ثمن مرتفع؛ ولكن رفض دفع هذا الثمن تم ترجمته في إطالة مدة الحرب حتى دمر لبنان وخطف ألاف الأرواح بمافي ذلك أرواح 12 ألف جندي سوري. صحيح أن طول أمد الحرب سمح بالقضاء على العديد من القوى المناوئة وتحجيم بعضها الآخر ولكن طيف الحل بقي بعيداً وزئبقياً؛ فحتى الاتفاقيات التي كانت توقع بين حين وآخر بين بعض الأطراف (مثل الاتفاق الثلاثي 1985) لم تعش طويلاً. في نهاية الثمانينات وبعد 14 سنة من الحرب الأهلية لم يبق على الساحة من قوى كبرى سوى ميليشيا القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع والحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون. وسرعان ما اندلعت الحرب بين هاتين القوتين فيما عرف باسم حرب الإلغاء في نفس الوقت الذي توجهت فيه القوى الأخرى إلى الطائف. ومع نهاية العام 1989 كان المجتمعون في الطائف قد توصلوا إلى اتفاقية تنهي الحرب الأهلية اللبنانية وكان ميشال عون قد خرج منتصراً على جعجع ولكنه كان أيضاً رافضاً لبنود اتفاق الطائف ومنكراً لشرعية الرئيس الجديد، الياس الهراوي. كانت نهاية الحرب الأهلية وتطبيق اتفاق الطائف مرهونةً باقناع ميشال عون بالانضمام إلى جوقة الموقعين أو بالقضاء عليه عسكرياً. كان التلاعب الخارجي وخصوصاً الدعم العسكري القادم من عراق صدام حسين والدعم السياسي الذي يحصل عليه ميشال عون من فرنسا والولايات المتحدة يعرقل التوقيع ويقدم غطاء وحماية لميشال عون وبالتالي يطيل الأزمة.
استمرت المراوحة في المكان والمواجهات المحدودة بين الجيش السوري وقوات ميشال عون إلى أن غزا العراق الكويت وتغير الوضع الدولي حيث أصبح من الضروري خلق تحالف دولي يحظى بشرعية عربية لمواجهة العراق وتحرير الكويت. لم يكن التصويت حول الحل العسكري في الجامعة العربية (والذي تم تمريره بفارق صوت واحد) ليتم لولا موافقة سورية. فجأة، أصبح الرعاة الدوليون مستعدون للتخلي عن ميشال عون ورفع الغطاء عنه بعد أن أعلنت سورية انضمامها إلى التحالف العسكري الدولي. في 13 تشرين الأول 1990، تم ضرب ميشال عون عسكرياً وقصف القصر الرئاسي في بعبدا وأبيدت قواته ليهرب ميشال عون إلى فرنسا. وهكذا أزيلت العقبات وتم تمرير اتفاق الطائف.
استلزم الأمر إذاً في حالة لبنان "الضئيل الحجم" حدثاً بحجم الغزو العراقي للكويت لكي يمسي من الممكن إنجاز التوافق اللازم لإنهاء الحرب. الآن، لابد لنا من التساؤل منطقياً: أين هو ذاك الحدث المساوي في الحجم في الحالة السورية والذي يمكن أن يكون الدافع إلى انجاز الحل والتسوية؟ لايبدو – حتى الآن – أنه يوجد مثل ذاك الحدث في المدى المنظور وخصوصاً أن حجم الأزمة السورية، وحجم التورط الدولي فيها، أكبر بكثير من حجم الأزمة اللبنانية.
هناك من يجادل بأن الولايات المتحدة وبعض القوى الأوربية ستسارع إلى حل ما خشية انتشار الخلايا الإرهابية. هذا الاعتقاد فيه الكثير من التبسيط في الحقيقة. الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان والمستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن تقدم ماينقض الرأي السابق. ففي أفغانستان لم تحرص الولايات المتحدة على القضاء على الإرهاب بل ركزت على إقامة حكم موالي وتنصيب كرزاي رئيساً على أفغانستان ليقوم بتمرير اتفاقيات مرور أنابيب النفط والبحث عن الموارد الطبيعية دون القيام بأي معالجة جدية للإرهاب والتطرف حتى وإن كان هذا الإرهاب يكلف الألاف من أرواح الجنود الأمريكيين وجنود الناتو. ماذا لو ازدادت قوة الإرهاب في سورية؟ الولايات المتحدة وحلفاؤها تعلم جيداً بأن الجهاديين الموجودين في سورية اليوم – أو الناجيين منهم – هم أقل بكثير من أولئك الذين وفدوا إليها؛ سورية إذاً هي محرقة للجهاديين أكثر مما هي أرض خصبة لهم ليتكاثروا وبالتالي لايوجد مايدفع الولايات المتحدة لإنهاء الوضع الحالي. وحتى إن ساء الوضع في سورية وبدا أن الجهاديين قد تمددوا وتوسعوا وأصبح صعباً على الجيش العربي السوري الاستمرار في استنزافهم فالحل قد لمحت له الولايات المتحدة مرات عدة وهو الحل اليمني الـ"بدون طيار"!
ما الحل إذاً؟
إذا ما أردنا تجنب سراب الحلول السياسية والاجتماعات الشكلية وفي الوقت نفسه عدم الخضوع لشروط المحور الأمريكي، فالحل الوحيد الممكن سيكون على نمط الحل في لبنان: أي الاستمرار في تحجيم الفصائل المعارضة وإزالتها الواحد تلو الآخر. فاليوم، الجيش السوري الحر على وشك الفناء وداعش والنصرة والجبهة الإسلامية قد دخلوا في حرب الإلغاء التي لايمكن أن يخرج منها إلا منتصر واحد – وسيكون منهكاً حتماً. هذا المنتصر – وهو غالباً داعش – سيكون من الممكن تحجيمه والقضاء عليه لاحقاً وإن كانت هذه العملية ستستغرق فترة قد تصل إلى عدة سنوات. يدعم هذا التصور أن الخط البياني للأزمة قد تجاوز ذروة الصعود وبدأ في الهبوط في منتصف شهر أيلول 2013 عندما تأكد الجميع أن العمل العسكري الخارجي ضد سورية هو مستحيل – أو خط أحمر إذا أحببتم – وبالتالي فإن عناصر الأزمة والمنخرطين على الأرض قد تم تحديدهم ولن يزيد عددهم. إضافة إلى أن الجيش العربي السوري قد أظهر عودة قوية لعمليات التطهير ولاسيما في مناطق قد بقيت لفترة طويلة جداً خارج نطاق عملياته. هذا الحل يحتاج الكثير الكثير من الصبر ولكنه الحل الذي سيقترن بأقل درجة من الندم في المستقبل مقارنة ببقية الحلول.
الجمل
إضافة تعليق جديد