سوريا: أسلحة «المعارضات» في أسواق تركيا
ازدحام في الجنوب التركي، وعلى الحدود مع سوريا، لبيع أسلحة «المعارضات» في المنطقة، أو تبادلها.
أحد تجار المنطقة يروي أن بعض الأسلحة بات يعبر ذهاباً وإياباً نحو وتركيا لإعادة بيعه، لا فرق، من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش»، أو من مقاتلي العشائر العراقية في الأنبار، أو حتى من بعض الميليشيات العراقية الموالية لحكومة نوري المالكي.
ويتقاطع أحياناً وسطاء عرب وأتراك وأكراد وصرب وأوكرانيون، في الفنادق التركية، مع مسؤولين سياسيين و«عسكريين» عراقيين وسوريين وسعوديين، وشيوخ العشائر، وبعض الطرق الصوفية «الجهادية»، كل يحمل لائحة مشترياته.
وتنحو مؤشرات كثيرة إلى تأكيد بدء انتقال ثقل المبادلات في سوق تجارة الأسلحة على الحدود التركية ـ السورية، في غازي عينتاب وإنطاكيا وحتى اسطنبول، من تموين الجبهات السورية وفصائل المعارضة نحو الأسواق العراقية. فمع توسع القتال في العراق، باتت الانبار خصوصاً، والعراق عموماً، يمتص أكثر موجودات السوق، وهو ما سيكون له نتائج عسكرية وسياسية على الجبهات في الشمال السوري، وعلى مستقبل المعارضة السورية عموماً، وعلى خريطة القوى المقاتلة في سوريا.
ويقول تاجر يعمل في المنطقة إن طائرات أوكرانية تحط في مطارات الجنوب التركي، حاملة مئات الأطنان شهرياً، من المعدات والأسلحة والذخائر التي يتم توزيعها على جبهات المنطقة، في العراق أولاً، ثم في سوريا. وتحظى الصواريخ المضادة للدبابات، خصوصاً من طراز «كونكرس»، بإقبال شديد. ويضيف التاجر أن العينة الواحدة تكلّف ما بين ثمانية آلاف إلى 30 ألف دولار. وهو فرق يُمليه تباعد عناوين التسليم. أما أجهزة التثبيت والإطلاق، فيصل ثمن الواحد منها إلى 70 ألف دولار، مع التأكيد أن الأوكرانيين، الذين يسيطرون على السوق، يليهم الصرب، يسلمون الأسلحة، أينما شاء المشتري..
ويشكو التجار من تدفق وسطاء جدد لبيع الأسلحة التي قام الأميركيون أو السعوديون والقطريون بتسليمها إلى المعارضة السورية في الأشهر الماضية. ويعرض زعيم حركة معتدلة، يقيم في اسطنبول، صواريخ حصل عليها في إطار خطة تسليح المعارضة السورية نوعياً، التي راجت وعودها خلال عامين متتاليين. كما وصلت أسلحة إلى تركيا من الفصائل، التي يقوم «داعش» و«جبهة النصرة» بضربها في الشمال السوري، وعلى مقربة من الحدود مع تركيا، في حارم وسلقين وسرمدا، وبوابات العبور في باب الهوى. ويقوم قادة بعض المجموعات الصغيرة، من ألوية الشمال في أرياف حلب وادلب، بالتخلص من أسلحتهم في الأسواق التركية، قبل أن تستولي عليها «النصرة»، أو غيرها خلال حملتها التي تشنها في ادلب، تحت عنوان ردع المفسدين.
وتواجه المعارضة المسلحة، وكتائبها المقربة من السعودية، ضرورة اتخاذ قرار، يجري تأجيله منذ أشهر، لتحديد ما إذا كان ينبغي مواجهة «النصرة» أم لا. فقد بدأ عناصر زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني بتطهير أرياف ادلب من أي منافس يعترض طريق إقامة «الإمارة».
وترتدي إقامة «الإمارة» لدى «النصرة» أهمية وجودية لتقديم ردّ لا بد منه إذا كان الجولاني، قد قرر البقاء على قيد الحياة، وتقديم عرض ينافس في أسواق «الجهاد العالمي»، عرض «الخليفة» أبو بكر البغدادي، واستمالة المزيد من المقاتلين الذين يتجه أكثرهم إلى «داعش». وتفادت «النصرة»، حتى الآن، الاصطدام بـ«جبهة ثوار سوريا»، التي عقد عليها الأتراك والسعوديون آمالاً كبيرة، بانتظار وصول الوساطة التي يقوم بها الشيخ حسن دغيم، «شرعي» جمال معروف، إلى نهاياتها، لكن دون أوهام كبيرة بأن توقف هجوم «النصرة» في ادلب، وليس أكثر من هدنة تمليها الرغبة في تفادي الحرب، وتخيير المتمردين بين سلطة الجولاني أو البغدادي.
ويبدو أن هذا الخيار هو الأخير والوحيد الذي يلوح أمام الكثير من الكتائب، أمام تقدم «داعش» في أرياف حلب في الجهة المقابلة، أو الهروب إلى مخيمات اللجوء في تركيا، للمقاتلين، أو إلى قطاع الأعمال والاستثمار، للكثير من أمراء الحرب الذي أثروا في حروب الشمال.
والحال أن الاستغناء عن «هيئة أركان الجيش الحر»، واستيلاء «الجبهة الإسلامية» على مستودعاتها قرب باب الهوى نهاية العام الماضي، وطرد اللواء سليم إدريس من منصبه، قد ألغى مركزية توزيع الأسلحة. والتوزيع هو الدور الوحيد الذي كانت تتولاه «هيئة الأركان»، التي اختفت لتحل محلها غرف العمليات في إنطاكيا، تحت إشراف قطري وسعودي وتركي لتوزيع الأسلحة، وانتقاء العمليات العسكرية وتمويلها.
والأرجح أن خطط إعادة الهيكلة، التي بدأتها السعودية في الشمال السوري، قد انتهت إلى فشل ذريع. والأرجح أن الحصار الذي تتعرض له الكتائب الصغيرة و«المعتدلة»، وتصفيتها المستمرة من قبل «داعش» و«النصرة»، في ادلب وحلب خصوصاً، يعود إلى تضارب هدف الولايات المتحدة والسعودية، بإضعاف الجماعات السلفية «الجهادية» وعزلها، مع الوسيلة المتبعة لبلوغه، والتعويض عن خسارة قوة عسكرية ضاربة، بإنشاء «جيش» قوي من مجموعات «معتدلة»، وإعادة هيكلة الجماعات المقاتلة وغربلة السلفي «الجهادي» من الإسلامي «المعتدل»، وربط كل تلك الجماعات بتمويل سعودي ـ قطري دائم.
وتراوح الرهان السعودي ـ الأميركي بين «حركة حزم»، التي تبين أنها تتحالف مع «النصرة» من دون عقد، وبين «جبهة ثوار سوريا» التي يقودها المقاول العقاري السابق جمال معروف، في جبل الزاوية بشكل خاص. ولا تزال السعودية تحاول إنشاء «جيش» احتياطي ممن تبقى من الضباط المنشقين، وتسليحهم وتدريبهم عبر قواعد في الأردن. وتقول مصادر في المعارضة السورية إن العقيد مصطفى البديري، وعميداً بارزاً منشقاً من الدائرة الأولى المقربة سابقاً من الرئيس بشار الأسد، يتوليان معاً، منذ شهرين، عملية إعادة بناء «الجيش الحر»، ويعملان على توطين قواعده وأركانه في تركيا والأردن، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية والأردنية.
وبسبب انعدام الرؤية الاستراتيجية لدى المعارضة السورية، «ائتلافاً» وفصائل مقاتلة، معطوفاً على الفشل باستعادة زمام المبادرة سياسياً إزاء تقدم «داعش» و«النصرة»، ورسوخ مشاريع «الإمارات الجهادية»، كأفق وحيد متاح، لا مكان لها فيه، لن يكون بوسع المعارضة المسلحة، أو ما تبقى منها، إلا العمل على تنفيذ أولويات السعودية بالمضي في عزل «الجهاديين»، ومواجهة احتمال التفرغ لقتال «داعش»، إذا ما واصل التوسع في أرياف حلب، انطلاقاً من الباب وجرابلس ومنبج.
وأدت سياسة إعادة الهيكلة السعودية، بحرمان الجماعات «الجهادية» السورية من التمويل، إلى تقوية «داعش» و«النصرة» بشكل متفاوت. إذ استطاعت القوة المالية الضاربة لـ«الدولة الإسلامية» استمالة أكثر من عشرة آلاف مقاتل، من بين أفراد الكتائب التي فقدت التمويل. وتقول مصادر في المعارضة، إن «لواء التوحيد» أصيب بنزف في عناصره، بعد أن توقف عن دفع رواتب بعض كتائبه، وانتقل العشرات منهم إلى «داعش». كما أن القرابة المنهجية و«الجهادية» مع «أحرار الشام» سهل «تسرب» مئات العناصر من الكتائب المتحالفة معها إلى «النصرة».
واضمحلت مصادر التمويل الداخلي، التي كانت الفصائل المقاتلة تحصل عليها من خلال الخوات المفروضة على الحواجز المتفرقة، والمعابر، وبيع مخازن الحبوب وصوامع القمح، ومستودعات القطن، وتهريب النفط إلى تركيا. وحرم حصار الجيش السوري لشرق حلب كتائب كثيرة من تمويل مباشر يغنيها عن الخضوع لأطراف خارجية. فمع استعادة المنطقة الصناعية، التي قام بعض قادة الفصائل بتشغيلها لمصلحتهم، أو سرقتها لبيعها في تركيا، تبدد التمويل المباشر، وفقد اقتصاد الحرب وأمراؤه مصادرهم الداخلية. والاهم أن سيطرة «داعش» على نفط الشرق، وعشائره وطرق تهريبه، وما تقوم به «النصرة» في ادلب، سيعقد احتمالات النجاة.
ويمكن وضع انتفاضات العشائر من الشعيطات، وبعض أجنحة العقيدات في دير الزور على «داعش»، وتمردها على قيادة عمر الشيشاني في إطار الصراع على حقول التيم والعمر والتنك الاستراتيجية، واتجاه «الدولة الإسلامية» إلى «تأميم» الثروات النفطية لوضعها في خدمة اقتصاد الحرب، وتمويل تجنيد أبناء العشائر، وتحطيم سلطة من يتمرّد على أمرائها.
وبديهي في هذا السياق، أن العمليات العسكرية، لم تعد تستهدف التوسع جغرافياً، أو «تحرير» مناطق جديدة، ولم تعد هناك استراتيجية واسعة لمواجهة النظام، وهي استراتيجية يتكفل بها «داعش»، بشكل مضطرد ومتزايد. فالأولوية هي الاتجاه إلى السيطرة على مناطق يقلّ فيها السكان، كالشرق السوري الذي تبلغ مساحة ما يسيطر عليه «داعش» 60 ألف كيلومتر مربع، مع أقل من مليونين من السكان، أو الجنوب الذي أضحى أكثر سكانه في الأردن المجاور، والذي تقود «النصرة» معاركه.
والراجح أن تتجه الأمور في الأشهر المقبلة إلى اضمحلال دور المعارضة المسلحة المؤيدة للسعودية أو قطر. ومن الأرجح أن تتبلور جبهات جديدة في سوريا، تقتصر على «داعش» في الشرق وحول حلب، والجيش السوري في الخط الممتدّ من درعا جنوباً نحو دمشق والمنطقة الوسطى وحمص، وحماه شرقا، فحلب شمالا، فالساحل، والأكراد في القامشلي وعفرين وعين عرب (كوباني) إذا واصلت صمودها، و«النصرة» في أرياف درعا والقنيطرة، وبعض أطراف «الجبهة الإسلامية» في غوطة دمشق.
وقد تنجو بعض القوى التي تتمتع بهوية وجذور محلية يمكن الدفاع عنها، فيما تختلط الأوراق والتحالفات، التي سيدعى إليها كل الأطراف لقتال «داعش» أولاً، و«النصرة»، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد