علاقات متبادلة بين بيكاسو والشعر الزنجي

18-04-2011

علاقات متبادلة بين بيكاسو والشعر الزنجي

أنه لمهمٌ المعرض الذي انطلق حديثاً في «القصر الكبير» (باريس) وتنظّمه «جمعية المتاحف الوطنية» تحت عنوان «إيميه سيزير، ويلفريدو لام وبيكاسو – «لقد عثرنا بعضنا على بعض». فمن خلال عشرات اللوحات والمحفورات والرسوم المطبوعة (eaux fortes) والكتب، يتوق منظّموه إلى استكشاف العلاقات العميقة التي ربطت الشاعر سيزير بالفنانَين لام وبيكاسو، وإلى كشف التأثيرات والابتكارات المثيرة التي نتجت منها.
ملصق المعرض
يتناول المعرض السبب الأول الذي يفسّر ذلك التقارب بين العمالقة الثلاثة المذكورين، أي تقرّبهم من الحركة السورّيالية. فبيكاسو ولام انتميا بصراحةٍ إلى هذه الحركة. وسـيزيـر، وإن لم يكن عضواً فيها، كان رفيق درب أنـدريه بروتون ورفاقه. فخلال سنوات دراسـتـه في باريس (١٩٣١-١٩٣٩)، اهتم عن قرب بالسورّيالية واعتبرها سبيلاً للخروج من الإتّباعية ونسيان الأمثولات الملقّنة وتصفية ارتهان شـعوب جزر الأنتيل للمستعمر والغوص في عمق الذات والعثور على الهوية. عام ١٩٤١، قال: «منحنا بروتون الجرأة وساعدنا في أخذ مواقف صريحة وجازمة واختزل أبحاثنا وتردّدنـا. لقائي بـبروتون كان تثبيتاً لحقيقةٍ عثرتُ عليها بتأملاتي الخاصة. وقد سمح ذلك لي بكسب وقتٍ ثمين وبالتقدم بسرعة»؛ انطباعاتٌ تنطبق على لام أيضاً.

وفعلاً، سمحت السورّيالية للاثنين بابتكار أشكالٍ تعبيرية وتمثيلية ومفردات وأساطير مرسَّخة داخل إرثهما الثقافي، كما شكّلت أداة استكشافٍ واستنباطٍ خارقة و «تقنية غربية» لفتح ذاتهما والعثور على الجانب الإفريقي من شخصيتهما. ومثلما أُعجِب لام بمخيلة سيزير الجيّاشة وبالقوة السحرية والأرضية لعالم جُزُر الكاراييب الأسوَد الحاضرة في قصائده، قال سيزير عن لام إنه «رجل الأنتيل بامتياز الذي هو في صدد الغوص في هويته الإفريقية - الكوبية»، وخصّه بقصائد عدة. ومـن لقـائهـما المثمر نشأت روابط متينة بينهما ناضلا في كنفها ضد تسلّط الاستعمار وظلمه ومن أجل تحرير المضطهدين. وفي أحد أعدادها، حيّت مجلة سيزير Tropiques ويلفريدو لام «الفنان الزنجي الكوبي المدهش الذي نعثر لديه على أفضل ما في أمثولة بيكاسو، وفي الوقت ذاته، على التقاليد الآسيوية والإفريقية الممزوجة بطريقةٍ مثيرة».

وحول لقاء لام وبيكاسو، يذكّرنا المعرض بأن لام غادر كوبا إلى أوروبا عام ١٩٢٣ لمتابعة دراسته في مدريد حيث بقي ١٤ عاماً حارب فيها إلى جانب الجمهوريين قبل أن يرحل إلى باريس عام ١٩٣٨، عشية انتصار فاشية فرانكو. وهناك توجّه بسرعة للقاء بيكاسو بإيعاز من صديقه النحات مانويل مانولو.

ومنذ اللقاء الأول، هام العملاقان الواحد بالآخر ونشأت صداقةٌ لا شائبة فيها بينهما على قاعدة نضالهما من أجل الحرية ولكن خصوصاً على قاعدة فنّيهما. وحول هذه المسألة، قال لام: «لعب لقائي ببيكاسو وباريس دور الصاعق في حياتي وعملي الفني». وما جذبه نحو فن بيكاسو هو «حضور الأشـكـال والـروح الإفـريـقـية فـيـه».

وافتُتن بيكاسو بشخصية لام وفنه وقام شخصياً بتعريفه إلى أبرز الوجوه الفنية والشعرية الفاعلة في الوسط الباريسي آنذاك والتي لطالما حاربت مختلف أنواع التمييز العنصري والأنظمة الاستعمارية والإتّباعية واهتمت من قرب بالثقافات والفنون البدائية، مثل ميشال ليريس خوان ميرو وبول إيلواروتريستان تزارا وخصوصاً بروتون.

أما لقاء بيكاسو وسيزير الذي حصل بين عامَي ١٩٤٥ و١٩٤٨، فشكّل لقاءً بين العالم القديم والعالم الجديد، أو بين أوروبا وجُزُر الأنتيل. وما جمع بين هذين العملاقين هو ميلهما إلى كل ما هو «بدائي». لكن في حين أن الإرث الإفريقي شكّل، بالنسبة إلى الشاعر الزنجي الباحث عن هويته، الوسيلة الوحيدة لاسترداد كرامته وكشف خصوصيته الأنتيلية، استخدم الفنان الأسباني الذي سعى إلى التحرّر من جذوره، الفن الإفريقي، لتجديد تعبيريته الشكلية ولكن أيضاً لفضح بربرية عصره. وفي تلك الفترة، افتُتن سيزير بأعمال بيكاسو العنيفة ووجوهه المأسوية والقاسية وجرأته. وبالمقابل، اعتبر بيـكاسـو سيزير «المُجـسـِّد لعبـقرية الفن الإفريقي الشعرية».

ولتزيين هذه القصائد، قام بيكاسو الذي يعمل عادةً بحريةٍ مطلقة بالغوص في عالم سيزير الشعري الذي يتميز بخيالٍ مجنّح ومراجع نباتية كثيفة. وكصدى للوضع المفروض على الإنسان الأسوَد – نصف إنسان ونصف حيوان – كما وصفه الشاعر، تخيّل الفنان تهجينات تطغى عليها نساءٌ - زهورٌ ورجالٌ - نباتاتٌ وأعضاءٌ تناسلية على شكل جذور.

بعبارةٍ أخرى، تختلط في هذه المحفورات العوالم النباتية والحيوانية والبشرية بوحي من كلمات سيزير النادرة التي تمنح المخيّلة حريةً كاملة. وفيها، لجأ بيكاسو إلى جميع الأساليب، من التكعيبية إلى البدائية، وإلى خطٍّ حرّ ورسمٍ مبسَّط إلى أقصى حدود، كما عمد إلى تعظيم انصهار الأنواع والكائنات وتهجينها كعلاجٍ لعدم كمال الإنسان الذي يتحدث عنه سيزير في قصائده.

أنطوان جوكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...