كيف ساعد أولمرت على فصل غزة عن الضفة
بثت شبكات التلفزيون هذا الاسبوع مشاهد مختلفة يمثل بعضها الشعارات المكتوبة على جدران منازل «الفتحاويين» في غزة، وجدران مبنى المجلس النيابي في رام الله، الأمر الذي يعكس عمق الخلاف والكراهية بين حركتي «فتح» و «حماس».
وبين عبارات الشتائم التي كتبها أنصار «حماس» ضد «فتح» ما يعيرها بالخيانة لأنها: طابور خامس... عميلة أميركا واسرائيل... محترفة سياسة الفساد والإفساد.
في حين رد محازبو «فتح» على هذه الاتهامات بتسجيل عبارات مؤذية ضد «حماس» بينها ما يقول: أتباع ايران... أعداء العروبة... أنصار «القاعدة».
ومع ان هذه المفردات لم تكن معروفة في قاموس السياسة الفلسطينية قبل سنة 1987، إلا أنها من جهة أخرى تعبر عن ملاحظات صادقة كأن كل حركة منهما تعكس صورة الحركة الأخرى بمرآة الحقيقة. ففي صفوف «حماس» يُتَّهم الرئيس محمود عباس بالسكوت عن مؤامرات محمد دحلان الذي سعى الى اعداد انقلاب ضد خالد مشعل واسماعيل هنية ومحمود الزهار بتحريض من اسرائيل والولايات المتحدة. بينما تهاجم «فتح» زعماء «حماس» لتأثرهم بإيران وتيارات أصولية تملي عليهم مواقفهم السياسية المتشددة داخل حكومة الوحدة الوطنية. وهي ترى ان تشبث «حماس» بحكم غزة، واستخدامها هذا القطاع كجسر للسيطرة الشاملة على منظمة التحرير الفلسطينية، قد أعماها عن رؤية التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي سببه انخراطها في العملية السياسية الموصدة في وجهها.
على الطرف الآخر، تدافع «حماس» عن موقفها بالقول إن فوزها بالانتخابات أفضل شهادة على فشل حكم محمود عباس وشلته، خصوصاً ان «فتح» لم تحقق للشعب الفلسطيني الدولة المستقلة التي وعدته بها في أوسلو، حتى الأسلحة التي أمنتها واشنطن لأجهزة الأمن الوقائي، استخدمت ضد «حماس» و «الجهاد الاسلامي»، بدلاً من ان تستخدم لطرد المحتل أو لمنع المستوطن من تقليص المساحة المتبقية من فلسطين. ولتعزيز موقع أبو مازن داخل السلطة، قال هنية ان اسرائيل والولايات المتحدة أصرتا على عزل «حماس» وحصر العلاقة بأعضاء غير اسلاميين في حكومة الوحدة الوطنية بحجة ان هذا الفصيل لم يستنكر عمليات الارهاب ولم يعترف باسرائيل.
يقول المتتبعون لحركات النضال الفلسطيني ان الطلاق بين «حماس» و «فتح» كان أمراً متوقعاً في ضوء المتعارضات التي نشأت عن وجود برنامجين وحلين مختلفين كان من الصعب تجسيرهما. والثابت ان انفصال «حركة المقاومة الاسلامية» (حماس) كان بمثابة تنظيم منفصل يعتمد الانتفاضة المسلحة طريقاً لتحرير فلسطين. وكان من الطبيعي ان تصطدم هذه الدعوة باتفاق اوسلو وبكل ما ترتب عنه من اعتراف بدولة اسرائيل. وقد شهدت تلك الحقبة صدامات مسلحة وأحداث عنف لم تخل من حملات التجريح والتحريض، ان كان في عهد ياسر عرفات أم في عهد وريثه محمود عباس. وتركزت ردود فعل قيادة «فتح» على اتهام زعماء «حماس» باحتكار الحركة الوطنية الفلسطينية لأنهم اسقطوا الصفة التمثيلية عن منظمة التحرير واعتبروا أن الكفاح المسلح بدأ مع انتشار عقيدتهم الداعية الى تحقيق الحل عن طريق الاسلام. وقد جوبه هذا الادعاء بانتقاد شديد اللهجة لأن «حماس» ألغت 28 سنة من تاريخ النضال الفلسطيني الذي دشنه ياسر عرفات بعملية قام بها من جنوب لبنان. وعندما اعتقله «المكتب الثاني» اللبناني تدخلت دمشق للافراج عنه.
يجمع المراقبون في رام الله على القول ان انفصال «حماس» عن «فتح» كان يمكن ان يحدث قبل هذا الوقت لولا صدور «وثيقة الأسرى» التي صاغها في سجن «هداريم» مروان البرغوثي وكبير أسرى «حماس» عبدالخالق النتشه. وذكر في حينه ان الوثيقة كتبت كجواب على اعتراض ايهود اولمرت المطالب بشريك فلسطيني واحد يمثل كل الشعب في مفاوضات السلام. والمؤكد ان اولمرت اتخذ من امتناع «حماس» عن قبول الاعتراف باسرائيل حجة للادعاء بأن محمود عباس يمثل السلطة ولا يمثل الشعب. وعليه صدرت الوثيقة الموقعة من أسرى الحركتين باعتبارها قاعدة سياسية لفتح حوار يمهد لإقامة حكومة وحدة وطنية. وتضمنت الوثيقة شروطاً مرضية لـ «حماس» كالدعوة لمواصلة مقاومة الاحتلال وتثبيت حق العودة.
ويبدو ان زعماء «حماس» تضايقوا من الاجتهادات التي فسرت «وثيقة الاسرى» بأنها مشروع تراجع عن ثوابت برنامج «حركة المقاومة الاسلامية»، لذلك علق خالد مشعل من دمشق على تفسير الخطاب الفتحاوي بأنه استنتاج خاطئ لأن الحركة لن تعترف بالدولة اليهودية ولن تتخلى عن المقاومة. ولكنه في الوقت ذاته أعرب بصورة غير مباشرة، عن قبوله بدولتين فوق أرض فلسطين، مشترطاً ان تكون الدولة الفلسطينية على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 مع القدس الشرقية وتطبيق قرار حق العودة الى الأراضي التي احتلتها اسرائيل.
بعد تزايد الانقسام الداخلي، نجحت السعودية في جمع الحركتين تحت عنوان «اتفاق مكة». وكان الغرض منه إرساء حال من الاستقرار تمهد لتشكيل حكومة وحدة وطنية. ونتج عن هذا الاتفاق إلغاء حكم الحزب الواحد، وتقاسم السلطات بطريقة تمنع حدوث الاشتباكات. ورأى المعلقون في «اتفاق مكة» امتحاناً لقدرة «فتح» و «حماس» على التكيف مع الوضع الجديد، ثم تبين بعد مرور فترة وجيزة، ان الفريقين فشلا في امتحان التكيف، وان الاحتكام الى السلاح ألغى حضور «فتح» في قطاع غزة، كما ألغى فكرة المشاركة بين الاسلاميين والعلمانيين.
بادرت «حماس» إلى تدمير فيلا محمد دحلان، مدير الأمن الوقائي السابق والمستشار الحالي للرئيس الفلسطيني لشؤون الأمن القومي، واعتبره اسماعيل هنية الرأس المدبر لتشويه سمعة «حماس» بهدف اقصائها عن الحكم. وحمّله مسؤولية ادخال شريط فيديو على بعض مواقع الانترنت، تظهر فيه عملية اغتيال اللواء جاد التايه، إضافة إلى بيان لـ «تنظيم القاعدة في فلسطين» يتبنى محاولة اغتيال مدير المخابرات العامة طارق أبو رجب. وتحدث شريط آخر عن وجود علاقة بين خاطفي الصحافي البريطاني آلان جونستون وبين «جيش الإسلام» الذي يطالب باطلاق سراح «أبو قتادة» ثمناً للافراج عن جونستون. والمعروف أن «أبو قتادة» يعتبر الأب الروحي لـ «القاعدة» في كل أوروبا.
قبل شهر تقريباً ازدادت حدة الفوضى والمخالفات في غزة بحيث فقدت أجهزة الأمن السيطرة على الشارع، وشن «الإسلاميون» خمسين هجوماً استهدفت مقاهي الانترنت ومحلات بيع الأطباق اللاقطة والصيدليات ودكاكين الحلاقة والتجميل ومواقع تخص المسيحيين بينها كنيسة. كما ألقيت قنبلة على مدرسة ترعاها الأمم المتحدة مع منشور يحذر من بقاء المؤسسات الأجنبية في القطاع. وتزعم «فتح» أنها نبهت «حماس» إلى مخاطر توسيع موجة الاصولية لأن إسرائيل ستستغل نشاط هذه التنظيمات لتدمر كل ما بناه الفلسطينيون بحجة محاربة الإرهاب. كذلك اتهمت السلطة في رام الله جماعة «حماس» في مخيمات لبنان، بتغطية عمليات «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد. وكشفت الحكومة اللبنانية عن مخطط أمني لضرب الاستقرار، قالت إن موقوفي «فتح الإسلام» قد اعترفوا بمحاولة تنفيذه. وذكر التحقيق أن المخطط كان يستهدف تدمير أحد الفنادق الكبرى في بيروت وتفجير نفقي شكا الجديد والقديم بحيث تفصل محافظة الشمال وتعلن اقامة إمارة إسلامية في طرابلس والشمال. ورأى الديبلوماسيون في ذلك المشروع الذي دعمته إيران و «حماس» صورة أخرى عن النموذج الذي قيل إن تكريسه تم في غزة. وهذا ما ذكره الرئيس محمود عباس في تعليقه على طرد «فتح» بأن «حماس» خططت لسلخ غزة عن فلسطين بقصد إقامة إمارة تابعة لدولة خارجية!
أجهزة الإعلام التابعة لـ «حماس» في غزة، رفضت منطق الرئيس عباس واعتبرته «أكاذيب تروج لتغطية دور الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية». ويرى هنية أن الحصار الذي أُعلن ضد الشعب الفلسطيني في غزة يشكل إعلان حرب في نظر القانون الدولي، وهذا ما دعا سويسرا إلى عدم المشاركة في تطبيقه، ولو أن أميركا أدرجته تحت باب «محاربة الإرهاب». وتتهم هذه الأجهزة «فتح» بالتواطؤ لتشكيل حكومة ثانية بهدف استرداد الشرعية التي حرم منها أبو مازن وجماعته، خلال الانتخابات الأخيرة.
بين «الانتلجنسيا» الفلسطينية من يضع مسؤولية الانفصال على حكومة أولمرت لأنها رفضت تطبيق «خطة دايتون» القاضية بمنح جماعة «فتح» شحنة كبيرة من الأسلحة والدروع. واستندت الحكومة الإسرائيلية في رفضها على تقرير رئيس «الشاباك» يوفال ديسكن وقائد المنطقة الجنوبية يوآف غالينث اللذين حذرا من انتقال هذه الأسلحة الى أيدي جماعة «حماس» ومن احتمال تصويبها إلى صدور جنود إسرائيل.
هذا هو السبب المعلن. أما السبب الحقيقي فيكمن وراء تقرير أرسله سفير إسرائيل في واشنطن مفاده أن الرئيس بوش سيضغط على أولمرت لتنفيذ المبادرة العربية لكونها تعفيه من محنة الارباك الذي يواجهه في العراق. وتقول صحيفة «معاريف» إن تساهل القوات الإسرائيلية في زعزعة الأمن داخل غزة ساهم في طرد «فتح» وانتصار «حماس». وقد تزامن هذا العمل مع وصول ايهود أولمرت الى واشنطن. ولكنه اكتشف لدى جورج بوش مشكلة أخرى تتعلق بانهيار نظرية الدولتين، وباحتمال العودة إلى نظرية الدولة الديموقراطية الموحدة، في حال تكرس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية. وهذا معناه رفض إسرائيل القاطع لارساء نظام تكون فيه الأكثرية العددية للفلسطينيين بعد عشر سنوات.
في سبيل تخطي هذه العثرات، دعا الرئيس حسني مبارك الى قمة مصغرة في «شرم الشيخ» يحضرها العاهل الأردني ومحمود عباس وايهود أولمرت. ومع أن غاية الدعوة تتعلق بالتدخل السافر في الشأن الفلسطيني بطريقة تخدم نزاع طهران مع واشنطن، إلا أن النجاح في رأب التصدع بين الحركتين سيكون في صالح الدولة الفلسطينية، خصوصاً أن مشروع إقامة هذه الدولة قد سقط حالياً بانتظار ولادة مشروع بديل.
سليم نصار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد