لا حلفاءَ دائمون, بل مصالح مشتركة
الجمل ـ عبد المتين حميد:
كان لتصميم محور المقاومة على توسيع رقعة الحرب لتشمل فلسطين المحتلة و دول الخليج الدور الأكبر في ردع الإدارة الأمريكية و ابتلاعها تهديداتها بقصف دمشق في آب 2013. سبقها بأيام تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنّ روسيا لن تخوض حروباً لأجل أحد؛ هذا ما فسّره البعض بالخديعة الروسية لأمريكا!. بعدها ارتفعت موجة التغزّل الأمريكي بالرئيس السوري بشار الأسد شخصياً؛ ظهرت في قاموس الرئيس الأمريكي باراك أوباما توصيفات جديدة مثل "الرئيس السوري" و "الحكومة السورية" بالتزامن مع إيقافه تمويل لجنة ما أسماها "توثيق جرائم النظام السوري". تمنّعت القيادة السورية و تعالت؛ فالهدف الأمريكي الأول و الأخير هو تحطيم محور دمشق-طهران.
دعا أوباما إدارته لوضع استراتيجية جديدة لإخضاع القيادة السورية عبر تحييد موارد الصمود السوري و ضربها لاحقاً. ركّزت وكالة الاستخبارات الأمريكية على تواجد آلاف المقاتلين غير السوريين استجلبتهم إيران للقتال إلى جانب الجيش السوري؛ غالبيتهم من لبنان و العراق, و معظمهم من الطائفة الشيعية بمختلف فرقها. من جهتها أكّدت مراكز الأبحاث الأمريكية, خصوصاً معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى, على أنّ ما بدا أول الأمر بأنه تدفق متفاهم عليه ما بين القصر الجمهوري في دمشق و الحرس الثوري في طهران لحماية المقدسات الشيعية في سورية, اتضح لاحقاً بأنّه عمليّة عقائدية ذات أبعاد جيواستراتيجية انتهجتها المرجعية الدينية العليا في طهران. وجد البيت الأبيض بأنّ الجمهورية الإسلامية في إيران تهدف من وراء هذا التحرك أولاّ إلى حماية الدولة السورية من السقوط, و ثانياً و هو الأهم تهدف إلى أن تُبرز لواشنطن قدرتها الفعليّة على إدارة حرب كبيرة شاملة تمتد على كامل مساحة الشرق الأوسط. حاولت الولايات المتحدة إشغال طهران في العراق عبر تمدّد داعش في الموصل؛ سارع قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى تقديم الدعم العسكري للأكراد, و انقلبت الصورة من حرب سنية-شيعية إلى حرب سنيّة-سنيّة ما بين دواعش و أكراد.
انتقلت الإدارة الأمريكية من جديد إلى سورية لفتح ثغرة في الجدار المقاوم؛ ظهرت مبادرة دي ميستورا و سُوّقت عالمياً بأنها مبادرة أوروبية لإنهاء الحرب في سورية. سعت المبادرة في خباياها إلى قيام تنسيق مشترك ما بين الدفاع الوطني السوري و ما تسميها "المعارضة المعتدلة" المدعومة أمريكياً لمحاربة داعش في سورية مع تحييد إيران و المجموعات التابعة لها؛ الحنكة السياسية السورية فرغت هذا المسعى.
مع إطالة زمن الحرب السورية, باتت تتخوّف واشنطن من تفلّت داعش من يديها كما القاعدة سابقاً؛ بينما تتخوّف طهران من بعث التجييش الطائفي فيما إذا شاركت جوياً بضرب داعش. هنا يعلو صوت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليفرض نفسه طرفاً رئيساً في الحل السياسي في سورية عبر دعوته لإنشاء تحالف دولي إقليمي لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي يضم سورية؛ كما هو متوقع تعارض السعودية عبر وزير خارجيتها عادل الجبير.
على الرغم من تخلص موسكو من الأيديولوجية الشيوعية إلا أنها لا تزال تحتفظ برغبتها بأن تكون قوةً عظمى؛ قوةٌ تهيمن على الغرب و لا يقوَ أحد على اعتراض مصالحها. عمليّاً وللوصول إلى هذا الهدف لا بد من مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية و الغرب؛ لا يدّعي بوتين امتلاكه الموارد المالية و القوة العسكرية اللازمة لشنّ هذه المواجهة, إلا أنّه يتباهى بنفوذه الكبير لدى الرئيس بشار الأسد؛ فهو ينظر إلى بشار الأسد بصفته القائد الأعلى للجيش السوري الذي مازال متماسكاً بعد أربع سنوات من مواجهته للإرهاب المدعوم عالمياً و لم تهُن عزيمته و لم يستسلم على الرغم من التقدم غير المسبوق للإرهابيين في الصيف الماضي؛ هذه هي ورقة المساومة التي من المرجّح أن يكون الرئيس الروسي قد استخدمها خلال لقائه مع نظيره الأمريكي على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. يتشارك الطرفان الأمريكي و الروسي العديد من الاهتمامات المشتركة من ضمان أمن الطاقة إلى ضمان أمن الكيان الصهيوني, و تتفرد موسكو بخشيتها من التمدد الإسلامي المتطرف نحوها بعد أن تفلّت زمامه من يد وكالة الاستخبارات الأمريكية. يدرك البيت الأبيض الرغبة الملحّة لدى الكرملين بمواجهة الإرهابيين الإسلاميين هناك في سورية, فمحاربة هذا العدو في الخارج خير من محاربته في القوقاز و وسط آسيا. لا ينساق السياسيون و القادة العسكريون الروس وراء غرائزهم و لا يخفون خشيتهم من تحول سورية إلى أفغانستان جديدة, بل يميلون إلى عدم الزج بقوات برية في ساحة القتال و الاكتفاء بإرسال المستشارين والتقنيين و ربما بعض الطيارين. بذل الرئيس الأمريكي جهده للحصول على تعهد روسي بضمان عدم توجّه المعدات العسكرية الروسية المتطوّرة إلى الجنوب السوري و بالضغط على الرئيس الأسد لإخراج مقاتلي حزب الله من سورية.
بعد اللقاء توالت الإيحاءات الأمريكية بوجود تنسيق مشترك للدعم العسكري الروسي إلى سورية؛ و أعلن البنتاغون أنّ روسيا أرسلت ست دبابات T-90 فقط و وضعتها بوضعية دفاعية. لا تلبث أن تعلن الإدارة الأمريكية عن استغرابها لالتقاط أقمارها الصناعية صوراً لتطوير مطار حميميم؛ التطوير يوحي بتهيئة المطار لاستقبال طائرات مقاتلة عسكرية و طائرات مروحية. لم تكد تنتهي السي آي إيه من تحليل هذه الصور إلا و باغتتها الصور التالية: مقاتلات السوخوي متأهبة على مدارج المطار. انطلقت الصواريخ الروسية سواء من السوخوي أومن البوارج في بحر قزوين و استهدفت بدقة مراكز قيادة الإرهابيين في الشمال السوري؛ استرجعت الإدارة الأمريكية زيارة قاسم سليماني لموسكو و التي التقى فيها بوتين - قبل اللقاء الأممي - و تتبعت الخيوط لتنصدم بتشكيل غرفة عمليات استخباراتية مشتركة تضم روسيا و سورية و إيران و العراق و حزب الله, و أنّ للاستخبارات العراقية دوراً محورياً في هذه الغرفة. على الأرض ينقض المقاومون محطمين دفاعات التاو التي أوصلتها طائرات البوينغ C-17 الأمريكية إلى الإرهابيين من السماء السورية و كأن بينها و بين السوخوي برزخ فلا يبغيان. يوم الثلاثاء اتهمت الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي الحاكم في الصين الولايات المتحدة وروسيا باستخدام سورية كساحة للمنافسة الدبلوماسية والعسكرية مستعيدين مشهداً قديماً من الحرب الباردة قائلة إنّ كلا البلدين بحاجة إلى إدراك أن ذلك العهد قد ولّى ويجب عليهما أن يدفعا باتجاه محادثات سلام. إن أصغى الطرفان للصينيين عندها لن نرى الطيران الروسي يمطر الإرهابيين في الجنوب السوري, بل إنّه سيجمع تحت جناحيه حلفاً آخر يضمّ الأكراد و المعارضة المعتدلة تهيئةً للحل السياسي.
الجمل
إضافة تعليق جديد