العلامة فضل الله يدعو إلى عاشوراء إسلامية عامة
كيف يمكن لعاشوراء أن تكون مناسبة اسلامية عامة؟ وتاليا يمكن ان تشكل نقطة التقاء يغذي فكرة الوحدة الاسلامية ولا يصطدم بها؟
قد يبدو السؤال مستغربا بعض الشيء، حيث من الشائع ان عاشوراء مناسبة خاصة بالمسلمين الشيعة، بل ارتكز في كثير من الاذهان انها مناسبة لإعادة الشحن السلبي بين الشيعة والسنة في كل عام.
من هنا قد يبدو السؤال الطبيعي: هل يمكن أن تكون عاشوراء اسلامية عامة؟ لأن الحديث عن الكيفية فرع الحديث عن الامكان.
وعلى كل حال، ففي مقام الاجابة على ذلك لا بد لنا ان نبين نقطتين:
النقطة الاولى
ان عاشوراء الواقعة التاريخية ليست مناسبة مذهبية، بل إن جعلها واقعة مذهبية يمثل خطأ فادحا، فضلا عن كونه يمثل خللا منهجيا في التحليل التاريخي، وذلك لعدة أسباب:
أ – "السنية"و"الشيعية" كحالتين مذهبيتين لم يكونا قد تبلورا آنذاك، حيث كانت المسألة ترجع الى حركة تسلط ومعارضة سياسية في قلب المجتمع الاسلامي. أما الجوانب الفكرية والفقهية فكانت ترجع الى اختلاف في اجتهادات الصحابة عموما. حتى أن الخلاف بين الامامة والخلافة لم يكن قد أوجد حالة من الفرز المذهبي الحاد في داخل المجتمع، بمقدار ما كان فرزا قائما على أسس تتصل بالصلاح والفساد والكفاية وما الى ذلك.
ولذلك لم نجد أثرا يدل على أن الحسين (ع) انطلق على أساس كونه اماما للشيعة في مقابل كون يزيد إماما للسنة، ولم يثر ضده اعلام مضاد كما كان يثار في ما بعد من كونه مثلا "إمام الرافضة"، حيث كان الفرز قد أخذ مأخذه في المجتمع الاسلامي لاحقا، بحيث باتت تكفي الصفة والعنوان الذي شحن سلبية لكي يوجد أمام الامام حالة من الرفض والابتعاد. بل ان الحسين (ع) انطلق من خلال كونه امام الاسلام والمسلمين، وهذا ما تؤكده كلماته الواردة.
ب – ان حركة الامام الحسين (ع) لم تكن حركة شيعية بالمعنى المذهبي، بل كانت حركة اصلاح في الأمة التي كانت تتفق على العناوين العامة، وعلى خصوصيات المفاهيم ايضا، علما ان الفجوة كانت تزداد اتساعا بين النظرية الاسلامية والتطبيق العملي، وبين التطبيق النظري وبين اتخاذ المواقف العملية، حيث أراد الامام الحسين (ع) توجيه أنظار الامة الى تشخصات الموقف الاسلامي من طبيعة السلطة الحاكمة. ولذلك نجد قوله (ع): "أيها الناس! ان رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطانا جائرا، مستحلا لحرم الله، ناكثا بعهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير عليه بقول ولا بفعل كان حقا على الله ان يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله. وانا أحق من غيّر". كما أن المواقف التي اتخذها الحسين (ع) في ما بعد ترتكز الى الخط القرآني والاسلامي الاصيل. ومن ذلك قوله عندما خير بين السلة والذلة: "هيهات منا الذلة. أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون..."
اذا عند هذه النقطة نستطيع أن نخلص الى أن عاشوراء لا تساعد – في طبيعتها – على ادراجها ضمن المناسبات المذهبية، بل هي مناسبة اسلامية تجسد أسمى القيم التي جاء بها الدين الحنيف.
النقطة الثانية
على أساس ما قدمناه في النقطة الاولى، يبدو أن من واجبات احياء ذكرى عاشوراء هو المحافظة على أصالتها الاسلامية، لأن أي انحراف في ذلك وادخالها في اطار المذهبية، يشكل تشويها للذكرى نفسها، او تحجيما لصورتها على أقل تقدير. وهذا ما يحتم على المعنيين بها – بالدرجة الاولى – عدة مواقف:
أولا: دراسة النص التاريخي لعاشوراء دراسة نقدية، بهدف تنقيته من حيث المضمون والسند مما علق به بفعل التراكمات التاريخية للإحياء، والذي أدى الى اختلاط المضمون العزائي بالمضمون التاريخي. وهناك فرق بين نص العزاء الذي تفرضه مبالغات تصوير الحدث، او التساهل في الاخذ من المصادر الاساسية، أو الاحتكام – في السيرة – الى آليات أصولية لا تدقق في النص التاريخي بالنحو الذي تدقق فيه بالنص الفقهي.
اننا نعتقد بضرورة هذا الموقف، لأن إحياء الذكرى يساهم في صياغة التصور الفكري والاخلاقي، والشرعي أحيانا، الامر الذي يعني ان عدم التأصيل التاريخي، ولو وفق منهج البحث التاريخي العلمي، يساهم في تشكيل صورة خاطئة في كل ذلك.
ثانيا: اعادة انتاج الشعر الحسيني، وأدب القصة، بما ينسجم مع المبادىء التي كانت خلفية لكل مواقف عاشوراء وكلماتها، ويطلق القضية في اطارها الاسلامي، لأن كثيرا من الشعر الذي نظم في تصوير عاشوراء يعكس – بالضرورة – ثقافة وذهنية الذين نظموه، ويحكي – بالتالي – الصورة التي يختزنونها عن هذا الموقف التاريخي او ذاك، مما قد ينسجم او يختلف، او حتى يتنافر، مع الصورة الحقيقية للموقف. ولذلك رأينا بعض الشعر الحسيني يصوّر قضية عاشوراء في اطار قبلي يختزن الصراع بين بني هاشم وبني أمية على قضية من قضايا الملك والسلطة، في الوقت الذي تؤكد عاشوراء – التاريخ انها اسلامية المبدأ والاهداف والحركة.
كما ان اعادة الانتاج هذه تعيد الشعر الى عنصر التأثير الوجداني، كون التأثر ابن ثقافة البيئة التي قد تبتعد كثيرا عن البادية، ما يجعل عناصر الاثارة في القصيدة المتأثرة بالبداوة غير ذات جدوى في مجتمع المدينة الذي هو الغالب اليوم. أما المضمون الاسلامي فهو ينتمي الى لغة المبادىء والقيم الرسالية، ما يجعله فاعلا في التأثير في كل زمان ومكان، وهو ما تحتاجه القضية بطبيعة الحال.
ثالثا: تنويع أساليب الاحياء، افساحا في المجال لاستفادة أكبر من الذكرى عبر ادخالها في مجالات تعبير متنوعة، تخاطب شرائح مختلفة في المجتمع. فقد يشعر بعض بأنه غير معني بالاسلوب السائد للاحياء، بينما يشعر بنفسه في اسلوب آخر. فتأمين بدائل لاثارة الذكرى لا يجعله أمام موقف حرج، يبن أن ينخرط في اطار غير مثير بالنسبة اليه، وبين أن يترك الذكرى بالكامل. وبذلك يمكن ان يتسع الاحياء لكل النشاط الثقافي الانساني، من الدراسة النقدية للتاريخ الى نظم الشعر، وتأليف القصة والرواية، والعلم المسرحي والسينمائي، وما الى ذلك.
رابعا: ابعاد الوسائل العنيفة التي تخرج الإحياء عن جانبه الانساني الرسالي، وتدخله في اطار تعذيب الذات وجلدها، مما يتنافى مع الاحكام الشرعية، والقيم الاخلاقية، ويبتعد – بالاصل – عن أهداف الذكرى. كما في جرح الرؤوس بالسيوف، او ضرب الظهور بالسلاسل، او ما الى ذلك، لأن فاعلية الذكرى هي بمقدار ما تسمح بتكرار اتخاذ المواقف على قاعدة المبادىء الاسلامية. بتعبير آخر: ان أي حدث تاريخي يعكس جانبين: الاول: الفاعلون والافعال التي تنتمي الى مجالها التاريخي والاجتماعي، والثاني: المنهج او القواعد او الاسس العامة التي تشكل خلفية للتفاعل بين الفاعل والظروف، وما يعنينا من الذكرى هو استعادة الواقعة بمقدار ما له علاقة بتجذير المنهج الاسلامي في الحاضر، حتى يمكن من خلاله انتاج المواقف على ضوء مسؤولياتنا الحاضرة تبعا للظروف الموضوعية، وليس المواقف التي كانت مسؤوليات من سبقونا في التاريخ.
وفي مقابل ذلك ينبغي ان تنال عاشوراء اعترافا بالانتماء الى التاريخ الاسلامي والمقصود هنا أن المذاهب الاسلامية المتنوعة معنية باعتبار عاشوراء – عمليا – جزءا مهما من تاريخها الاسلامي، لا يكتسب – هذا التاريخ – أهمية على مستوى الدراسة التاريخية فحسب، بل أهمية على المستوى الشرعي والديني والاخلاقي والروحي والانساني، ما يجعل حذفها من دائرة المناسبات الاسلامية العامة يشكل حذفا لجزء غني من مراحل تاريخنا الاسلامي، كما يشكل حرمانا لقاعدة من قواعد التربية والحركة على القيم الاسلامية بشكل حيوي مؤثر.
إن توحد نمط الاحياء عبر التاريخ، واقتصاره على مذهب معين، بل وإن دخول بعض مظاهر الاحياء او مضمونه في اطار عصبوي منغلق بفعل تراكمات العصبية التاريخية، لا يبرز اقصاء أي مسلم نفسه عن الذكرى، لأن ذلك اقصاء للنفس عن مجال مهم من شخصيتها التاريخية، كما أنه يؤسس لـ"مذهبة" التاريخ الاسلامي نفسه، وهذا بحد ذاته خطيئة كبرى، لأنه يؤسس لتجزئة القيم المشتركة وتصنيفها بعدد المذاهب في الاسلام.
مع الاشارة الى نقطة مهمة، وهي أن انخراط المذاهب الاسلامية في الاعتناء بعاشوراء كمناسبة اسلامية هو بذاته يشكل جهدا نقديا قد يعطي أبعادا تصحيحية للذكرى، من حيث ما يثيره الفكر الآخر من حفيظة لاعادة البحث، او للالتفات الى نقاط لم تكن بالبال بفعل الاستغراق في الخصوصية. بذلك قد يشكل هذا الانخراط عنصر توازن أمام امكانية "الشطح" في الاحياء الذي قد ينشأ بفعل حالة انغلاق الذكرى في اطار مذهبي معين عن طريق حماسة بعض الجماهير. وبهذا تكون المناسبة قد دخلت المجال الاسلامي، وساهمت في إيجاد أرضية لتوحيد الرؤى والقيم تجاه قضايا مهمة تعصف بعالمنا الاسلامي، والله من وراء القصد.
السيد جعفر السيد محمد حسين فضل الله
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد