كيف «يحب» الكنيس اليهودي الأقليات السورية؟
«لا أعرف! ربما لأنك لست فعلاً من أقليّة، لذلك تريد أن تتولّى زوجتك الموضوع». اسودت الدنيا أمام عينيه. لم يعرف ما قال بالضبط. يتذكّر أنه خرج عن طوره. قال لمحادثه، في العاصمة الغربية البعيدة، إن مهمته، كوسيط حدودها، الحصول على الأوراق المطلوبة، لا أن يُجري له فحص ديانة: «هذا ليس من شأنك أبداً». يروي ما حصل، بعدما عاد انفعال تلك اللحظة ليسكن في وجهه.
كان مضى خطوات في خياره، ليصل إلى مواقف لم يكن يتخيّل أنها ستُواجهه يوماً. الرجل يقترب من الأربعين، لم يعرف الانتماء الديني، لا يعترف به، عاش ويعيش حياته الاجتماعية والعائلية هكذا، وجد نفسه يبحث كيف يمكن استصدار وثيقة تثبت أنه ينتمي لهذه الطائفة. كانت الشرط المطلوب كي يوافَق على معاملة اللجوء إلى كندا، بعدما قرّر مع شريكته أنه الطريق الأنسب لضمان مستقبلهم، خصوصاً لابنهم الصغير. أرادوا مخرجاً من العيش مع هاجس إمكانية إلغاء الإقامة في الإمارات بلا مقدمات، لأي سبب أو ظرف كان.
الأمر يحتاج إلى أموال طبعاً، أموال ليست قليلة، لكن المشكلة في هذه الحالة لم تكن هنا. الكنيس اليهودي في مقاطعة كيبك الكندية يرعى استقدام لاجئين سوريين، من دول الخليج العربي، طالباً أن يكونوا من الطوائف المُعتبرة «أقليات» في سوريا. الانتماء يجب أن يكون مثبتاً بالوثيقة، ليُضاف إلى بقية أوراق الملف لدى المحامي المُفوّض من الكنيس.
المشكلة تفرّعت من ذلك الاشتراط. الطلب المبدئي يُقدّم باسم ربّ أسرة، رجل أو امرأة، وإثبات الانتماء الطائفي مُتعلّق به. «لحسن الحظ»، إذا يُمكن قول ذلك، «ينتمي» الرجل بالولادة لطائفة لديها مجمع ديني. من استفسار إلى آخر، اتضح أنه يُمكن بالفعل استحصال وثيقة تشهد بالانتماء. لكنْ هناك عارض جعلهم يعيدون التفكير، بعدما قطعوا أشواطاً، مالئين أوراقاً تحتاج إلى أيام من تعبئة تفاصيل التفاصيل.
حساسية القضية طبعاً جعلت أصحاب القصّة يطلبون الحديث من دون ذكر أسمائهم، مع العلم أننا اطلعنا على فحوى مراسلات مكتوبة بين محامي الكنيس اليهودي وأصحاب العلاقة. ما استجدّ هو أن للرجل ارتباطاً عملياً يتطلّب العودة إلى الامارات. لكن الاستمرار في ملاحقة معاملة اللجوء في كندا، وصولاً إلى استحصال جواز السفر، يلزمه حتماً تمضية مدة إقامة محسوبة في تلك البلاد. هنا اختارت العائلة تغيير وجهة المعاملة، لتكون باسم الزوجة، الأمر الذي تطلّب الدخول في دوامة من نوع مختلق لإثبات الانتماء الطائفي.
يجب التذكير أن في سوريا لا تُعلن الدولة، في أيّ من الوثاق الشخصية، الانتماء الطائفي، المذهبي الضيّق، لتكتفي بالقول إن مواطنها مسلم أو مسيحي، بغضّ النظر عن التفرّعات الكثيرة للطائفتين.
السيدة، الزوجة، «تنتمي» بالولادة لطائفة تُعتبر أيضاً «أقليّة»، لكن ليس لديها مجمع ديني يصدر وثائق الانتماء. نظراً لتكرار حالة المطالبة بهذا الشرط، يبدو أن عرفاً بات سائداً، ليصير القاعدة البديلة. صار خمسة أشخاص من الطائفة يوقّعون على ورقة يشهدون فيها أن الشخص المعني ينتمي لطائفتهم، حتى لو كان الجميع عملياً خارج هذا التصنيف، مدرجين أرقام هواتفهم ليمكن إثبات الشهادة.
حينما تواصل الرجل مع مكتب المحاماة الكندي، ليطلعهم على قرارهم تبديل اسم حامل الطلب، لتكون الزوجة مسؤولة عنه، حصلت المشكلة الفاصلة. السيدة التي تواصل معها في المكتب بدأت تعلن شكوكها، بفجاجة جعلت الكيل يطفح. حينما اعترض محاولاً ضبط نفسه، قالت له إنها تسأل كثيراً لأن لديها شبهات: «لا أعرف! ربما لأنك لست فعلاً من أقليّة لذلك تريد أن تتولّى زوجتك الموضوع».
المشكلة لم تكن إجرائية، بل تتعلّق بالقدرة على الاحتمال. زوجان شابان، لم تحضر الطائفية في حياتهما يوماً، يتعاملان، يتصادقان، من دون أي اعتبار لها. لكنّهما، حينما وقعا في الحاجة لأمان تجاه المستقبل، للجوء إلى الأمان، وجدا مؤسسات غربية تُطالبهما بشرط العودة إلى طائفتهما الضيّقة. أمكنهما بلع ذلك على سبيل المسايرة حينما تضيق الخيارات، على طريقة «مرغم أخوك لا بطل». لكن أن يجدا نفسيهما في موضع التشكيك، الاشتباه، بعد كل ذلك، فالأمر فاق الاحتمال. قرّرا أن يصرفا النظر بحثاً عن خيار آخر.
الكنيس اليهودي ليس وحيداً في طرح طريقة فريدة لضمان لاجئين، تجري بمعرفة الحكومة الكندية، كي لا يُقال بتشجيع منها. تجارب من طرقوا هذا الباب أظهرت أنه الوحيد في طلب شرط الانتماء لـ «أقلية»، مع أنه يُوفّر حافزاً مالياً بالنسبة للمُتطلّبات المالية. يجب في حالته توفير ملاءة إجمالية تبلغ 22 ألف دولار كندي. سيعود منها للعائلة اللاجئة 14 ألف دولار. هذا المبلغ يضعه الكنيس في حساب مصرفي، ثم يُعيده على أربع دفعات للعائلة، فهو الشرط الذي تطلبه الحكومة الكندية كي تقبل طلب اللجوء على أساس أن لدى الجهة الضامنة الكفالة المالية لمدة سنة. هناك ألفا دولار مطلوبة «تبرّعا» لحساب الكنيس مباشرة، ليبقى ستة آلاف دولار يدفعها اللاجئ لتغطية تكاليف المحامي الموكّل من قبل المعبد اليهودي.
طبعاً، الكنيس مستفيد لا فقط من التبرّعات التي تأتيه. يستفيد أيضاً من ظهوره «فاعل خير»، مؤسسة نشطة وفعّالة، في قصة «النموذج الكندي» المقدّم مثالاً لنجاح الاستجابة الانسانية في الغرب. إنها مكاسب مُباشرة، بغضّ النظر عن باقي أهداف واضعي هذه السياسة، تجذب أيضاً مؤسسات أخرى لـ «فعل الخير»، سواء المرتبطة بالكنيسة المسيحية أو الجمعيات الانسانية.
تلك المؤسسات طرقت العائلة الصغيرة أبوابها أيضاً. التكلفة هنا ترتفع لتتجاوز 30 ألف دولار كندي، فالحصص تزداد سواء بالنسبة لمبلغ «التبرّع» أو تكلفة معيشة السنة أو أجرة المحامي. «الموظّفة التي تواصلنا معها هناك لم تعد تردّ على الهواتف والايميلات»، يشرح الرجل النهاية التي وصلت إليها مُحاولتهم الأخرى، بعدما مضت العائلة للحصول على ضمانة «جمعية خيرية» معروفة في هذا المجال.
الحكومة الكندية تُساهم هنا في هامش أمان يبقيها، قانونياً واعتبارياً، في هامش الأمان. لا تجيز القوانين الكندية تحصيل تأشيرة لجوء في مقابل المال، لذلك لدى المحامين المعنيين «لا» قاطعة يوصون بحملها لكل من مضوا في إنجاز معاملاتهم: هذا ما ستُجيب به حينما تستدعيك السفارة (الأمر بمثابة الإيذان بالموافقة)، لأنهم سيسألون إن كنت دفعت أي مال لقاء معاملة اللجوء.
مروحة الاستفادة المالية، السهلة والمُمكنة مع ارتفاع الطلب، جذبت المتلاعبين. في إحدى المرات، وجد أحد المحامين المعروفين، نفسه مضطراً للردّ على استفسارات عديدة وصلته، تستغرب أن زملاء له يطلبون أجراً أقلّ بكثير. كتب للمتسائلين منشوراً على مواقع التواصل الاجتماعي، يلفت نظرهم لإمكانية التحايل، واضعاً رابطاً يقود إلى موقع رسمي للحكومة الكندية. الموقع يحصر أسماء محامين مخوّلين التعامل في قضايا اللجوء، واسمه كان بارزاً في تلك القائمة طبعاً.
هناك العديد ممّن تلقّوا المُوافقة من سفارة كندا، وفق تلك الآلية لكن تحت عنوان وحيد يخصّ الحكومة قانونياً: وجود جهة تضمن مالياً قدوم طالب اللجوء. ليس معروفاً النسبة التي يُمثّلونها بالضبط، من بين أولئك الذي أخذ إلى جانبهم رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو الصور، لتكون النتيجة تصدير صورة «النموذج» القدوة للاستجابة الانسانية.
لكن كندا ليست وحيدة. هناك دول تقول علناً «لا نريد مسلمين»، من دون أي حياء، فيما أخرى تعمل ولا تصرّح. هناك دول تقول علناً نُعطي إقامة ونُسهّلها في مقابل الأموال، أخرى تغضّ نظرها حال توفرها. هناك كثيرون عالقون، في محاولات لجوء شتى. تروي سيدة تعمل في مجال المبيعات المباشرة، في أحد «مولات» دبي، كيف هان عليها حالها من سماع قصص غيرها.
وقفت أمامها أخيراً سيدة متّشحة باللباس الأسود، تستفسر عن أجرها. كانت أرملة تعيش مع طفلها الوحيد من أجر زهيد، ترك محاورتها تسأل كيف يمكنها العيش: «قالت لي إن جمعيات خيرية تساعدها، لذلك تبحث عن زوج، يمكنها اللجوء اليه لتغطية تكاليف المعيشة وتربية الولد، لكن جميع من تعرّفت إليهم يقولون إنهم يُريدون صداقة». يهبط الوجوم فوق المستمعين، قبل أن يسمعوا التكملة «صارت تضحك، قالت لي: أنا يلزمني صداقة الآن! صرنا نضحك معاً حينما سألتني إن كان يُمكنها العمل في المبيعات، قلت لها إنه مع لباسها المُحافظ والمُتديّن ربما الأمر صعب قليلاً».
هناك الكثير من القصص يُمكن أن تُروى. لكن، يسمع أصحابها أنه لن يتسنّى ذلك الآن: «اليوم آخر عدد من الجريدة». الجميع لديهم ما يقولونه، كلماتهم ستُرافق رحلة العودة إلى بروكسل:
- نعم للأسف، هناك مصاعب مالية كبيرة.
- معقول! محمد مات وتدبّرت أمته.
- للأسف، هذا ما حصل.
- لكن كيف، أنا مشتركة عندكم في «فايسبوك»، لديكم مئات آلاف المتابعين. معقول ينتهي الأمر هكذا. توجد طرق كثيرة للاستمرار...
- للأسف، يبدو أن الأمر وصل إلى حالة اليأس.
- ليس معقولاً، هذا ضدّ الطبيعة الانسانية. الناس في أوضاع خانقة كما ترى وأحياناً مستحيلة، لكن الجميع يجد الأمل ليستمر البشر، لذلك اخترعوا الحياة ما بعد الموت.
....
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد