تحولات شرق أوسطية
تحول هيكل القوى في الشرق الأوسط منذ دخول القوات الروسية إلى الساحل السوري، وبات الهيكل ثنائي القوى على الصعيد الدولي، قطباه واشنطن وموسكو بعد أن ظل منذ عام 1973 أحادي القطب، أميركياً في جوهره.
خمسة عشر عاماً من الاضطرابات في المنطقة، تسبب بها الغزو الأميركي للعراق غيرت وجه الشرق الأوسط للعقدين المقبلين؛ فالنمو الاقتصادي المتفاوت، تغيير البيئة الإقليمية، وتحول الهيكل الدولي في الشرق الأوسط، أسفر عن تغيير مواقع الدول الإقليمية وأهميتها، ولنبدأ بتركيا.
لقد تمكنت أنقرة من حصر تأثيرات الأزمة الإقليمية المديدة في اقتصادها، محققةً نمواً مستداماً مكنها من مضاعفة ناتجها القومي مقارنةً بما كان عليه عام 2011، وفعلياً ساهم النمو الاقتصادي التركي في تأجيج «الربيع العربي»، من ناحية، كما نافست البضائع والمنتجات التركية البضائع المحلية وأقصتها في كثير من الأحيان، رافعة مستويات الضغوط الاقتصادية على بلدان الجوار، من ناحية أخرى، وقدمت تركيا ديمقراطية تعددية يقودها حزب ذو جذور إسلامية، فأنعشت بذلك التيارات الإسلامية في المنطقة وزودتها بنموذج مقبول دولياً.
أثرت تركيا، التي كانت تحقق نمواً اقتصادياً مرتفعاً بين عامي 2002 و2011، في المنطقة وتوازناتها عبر قوتها الناعمة (النموذج والبضائع)، وبعد عام 2011، استخدمت السلطات التركية جهاز المخابرات العامة تحت إدارة هاكان فيدان، في تنفيذ مخططاتها للتوسع الإقليمي، ومنذ أواسط عام 2016، أدخلت القوة العسكرية أداة لتحقيق أهدافها، في تحول ستكون له أبعاد مستقبلية كبيرة.
وفيما يتعقل بالسعودية، فقد تحولت بتركيزها من الهلال الخصيب إلى الجزيرة العربية، حيث تواجه تحديات من اليمن وقطر، ولم تتمكن السعودية عبر المبادرة الخليجية، التي أقصت الرئيس علي عبد اللـه صالح عن الرئاسة في اليمن، من إرساء توازن قوى بديل من ذلك الذي أداره صالح بكل حنكة، ولاحقاً، أطاح صالح نفسه وبالتحالف مع حركة «أنصار الله»، الحوثيين، التوازن الهش الذي أقامته الرياض، ومنذ عام 2015، تحاول السعودية من خلال القوة العسكرية صياغة ميزان قوى جديد في اليمن يمكن التحكم به من الرياض، ولأن السعودية تعتبر نفسها المهيمن الإقليمي في الجزيرة العربية، لذلك ترى نفسها المسؤولة عن شؤون الدول الأصغر في مجلس التعاون الخليجي، ويقلقها أي مسعى تبذله دولة من دول المجلس لصياغة سياسة مستقلة عن الرياض، فكيف إذا كانت مخالفة أو معادية لها، كما هي حال السياسة القطرية تحت حكم الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ووالده سابقاً، وتبعا لذلك لا يمكن للسعودية القبول باستقلالية الدور القطري الإقليمي.
في مصر، لم تتمكن القاهرة، من قلب مسار تراجعها التاريخي الذي بدأته قبل أربعة عقود، وحتى لو توقف تدهور القوة المصرية في القريب، فلا يبدو أن القاهرة بصدد اجتراح سياسات إقليمية فعالة نتيجة تغيير البيئة الإقليمية في محيطها الإفريقي، فمشكلة سد النهضة والتدخلات الخارجية في دول حوض النيل، تمثل أولوية لدى صانع القرار المصري، كما أن إعادة الاستقرار والأمن إلى ليبيا تشكل هدفاً أساسياً تعمل على تحقيقه الحكومة المصرية.
أما إيران، فقد حققت نمواً لا ينكر في نفوذها الإقليمي، والذي بات يمتد إلى قلب سورية وشمال اليمن، وعززت دورها في العراق ولبنان عبر «الحشد الشعبي» وحزب اللـه على التوالي، وحولت طهران اضطرابات «الربيع العربي» إلى فرصة، في المرحلة الأولى منها، واستغلت التدهور المتزايد لقوة مصر، وإرتباك القادة الأتراك جراء تضارب الآراء بين المدنيين والعسكريين حول سبل التعاطي مع الأزمة السورية، فأرسلت قوات خارج حدودها إلى كل من سورية والعراق ناسجةً عرى تحالف عسكري واسع بين مجموعات عراقية، لبنانية، سورية وأفغانية لمواجهة صعود تنظيم داعش وجبهة النصرة، وعملت على جذب الغرب وراءها للتفاوض على الاتفاق النووي الذي حرر الاقتصاد الإيراني من قيد العقوبات، ومع ذلك، يظل نمو الاقتصاد الإيراني، أقل من أن يحمل نفوذ طهران الكبير في الهلال الخصيب، وهي فجوة يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استغلالها عبر إعادة التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني.
إذن، بات النظام الإقليمي الشرق أوسطي، ثنائي الهيكل قطباه الدوليان روسيا والولايات المتحدة، تناور على توازناتها أربع قوى إقليمية، هي إيران ذات النفوذ الواسع والاقتصاد المتآكل، السعودية التي أعادت تركيز سياساتها على الجزيرة العربية بعيداً عن الهلال الخصيب، تركيا المتحفزة اقتصادياً وعسكرياً للتوسع، ومصر المتدهورة والمتبنية لسياسة ترتكز على معالجة التهديدات القادمة من ليببا ودول وادي النيل الأخرى، وسيكون لتفاعل هذه القوى الدولية والإقليمية تأثيره في عناصر المنظومة الإقليمية الخارجة من حطام النظام الإقليمي العربي وركام «الربيع العربي».
أنس وهيب الكردي - الوطن
إضافة تعليق جديد