جدلية العلاقة بين الفقه والسياسة
إن المستجدات والنوازل الفقهية، وتوسع الاجتهاد فيها، في ظل متغيرات واقع السياسة ونظامها الحديث، أدت إلى اضطرابات عدة في مسالك الفتوى، بخاصة مع نشوء «الفتاوى السياسية»؛ من مدخلين: أن الإسلام نظام شامل، وأن الفقه نفسه احتوى مسائل السياسة، سيما ما سمي بالسياسة الشرعية.
إلا أن الذي لم يتم الانتباه إليه أن شمولية الإسلام لم تعنِ شمولية الفقيه في ذاته بحيث يصبح هو - وحده - المتحكم بالمجال العام، وأن كتب السياسة الشرعية تختلف عن كتب السياسة السلطانية، فالأولى أكثر ما تنشغل بالجانب المدني من حياة المسلم من حقوق وحدود، بينما أكثر ما تنشغل الثانية بالجانب السياسي للدولة من وظائف وجيش وأشكال التدبير السياسي وحكم الرعايا.
بل إن الماوردي نفسه يقسِّم الآداب الاجتماعية إلى قسمين: أدب شريعة وأدب سياسة، فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عَمَر الأرض، «وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرّب الأرض فقد ظلم غيره». وبهذا كان هناك تفريق وتمييز بين شمولية الإسلام، ووظيفة الفقه والفقهاء، كما كان هناك تمايز بين الفقه والسياسة، إلا أن متغيرات الواقع السياسي هي التي أدت إلى هذا الاضطراب الحاصل الآن في «الأدوار» ووظيفة الفتوى ومجالها وحدودها كما سنوضح.
«ليست هناك مسافة بين الفقه والسياسة» كما يقول السيد محمد حسين فضل الله. بل إن أطروحة «الإسلام نظام شامل» التي برزت لدى الإمام حسن البنّا لا تقرّ بمشروعية السؤال عن العلاقة بين الفقه والسياسة. ويذهب بعض الإسلاميين اليوم إلى أن أطروحة النظام الشامل هي أصيلة وتكوينية في الإسلام، وليست طارئة عليه، غير أنه لا بد من توضيح الالتباس الذي يقع هنا، حيث إن التطور الذي حدث في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء وتصور ومرجعية الدولة الحديثة، بما هي مهيمنة على تفاصيل حياة البشر، وفي هذا السياق حدثت تحولات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام، وهي «النظام الشامل»، من إطار دولة مجسدة لها وقائمة بها، إلى إطار جماعة أو تنظيمات إسلامية، فجرى الدمج بين الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً، وبين ما سمي لاحقاً بـ»الإسلام السياسي» على معنى المشاركة في السلطة، أو السعي إليها.
فاشتمال الشريعة الإسلامية على مسائل السياسة أمر لا مفرّ من الإقرار به، يشهد به ذلك النتاج الفقهي الضخم، والتاريخ الإسلامي أيضاً، بل التحليل المنطقي الذي يفرضه تعريف الفقه الإسلامي وبناء تصوراته. لكن الجديد والطارئ هو مَنْ يمارس السلطة، ويقوم على تطبيق تلك التصورات. هنا حدث - ويحدث - الكثير من الاضطراب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة والصراع على السلطة والمرجعية أيضاً.
الإسلام منذ نشأته الأولى ما قام على سُوقه إلا في ظل وجود دولة وسلطة حاكمة تستند إليه في الحكم والمرجعية، وفي ظل هذه الأجواء بُني الفقه كله وخضعت تصوراته الكلية وأحكامه التفصيلية إلى ذلك الأفق الذي يُظلله، أي إلى مسلّمة موجودة هي وجود سلطة (إسلامية) تطبق شريعته، ومكمن الإشكالية الإسلامية المعاصرة هي معضلة التعايش في ظل سلطة مناهضة للمرجعية الإسلامية معظم الأحيان، أو مهمِّشة لها أحياناً كثيرة، والمطلوب من الفقيه في ظل هذه السلطة تنزيل النصوص وتطبيق تصورات الفقه (الشامل) المؤسّس على الشكل المشار إليه (في ظل سلطة إسلامية) على أرض واقعٍ كهذا (الإسلام فيه مناهَض أو مهمّش)، وعن هذه المعضلة تنشأ كل مشكلات الظاهرة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وتنبثق فئات كثيرة تعكس كلٌّ منها استجابة معينة لتلك المعضلة.
حتى الاجتهادات الفقهية التي تحاول التجاوب مع هذا الواقع تعاني من ارتباك كبير، إذ تحاول - جاهدة - تكييف تصورات نتاج فضاء معين، مع واقع مختلف كليّاً عن واقع إنتاج الفقه المتراكم عبر قرون طويلة، كما أنها لا تستطيع تجاوزه، ومن هنا تتنوع تلك الاجتهادات وتضطرب أحياناً في علاقتها بالسلطة القائمة أو في ممارستها مسائل الشأن العام أو في موقفها من القضايا الكبرى والعلاقات الدولية بمقارنة مع تاريخ الفقه الإسلامي وتصوراته.
فالسلطة الإسلامية التي نشأ في ظلها الفقه الإسلامي كله، كان يقف على رأسها الخليفة أو الإمام، وقد عرّف الفقهاء الإمامة أو الخلافة بأنها: «نيابة عامة عن صاحب الشرع - وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) - في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»، فالخلافة حراسة وسياسة، ومن هنا اعتُبر «الدين والمُلك توأمين»، منذ عهد أردشير الفارسي وحتى عهد الآداب السلطانية.
غير أن هذه المسألة حين تتم قراءتها - وفق مرجعية علمانية - تصبح معكوسة؛ فيصبح فقهاء الآداب السلطانية «عملوا على توسيع دائرة الديني في الفقه والشريعة لتشمل فضاء السياسي في المستوى العقائدي ويضمن عدم الفصل بين شؤون الحكم وشؤون الشريعة الإسلامية»، من دون أن يعي هؤلاء أنهم يقرؤون التاريخ قراءة منحازة مسبقاً، وأنهم يحاكمونه إلى مفهوم مستحدث طارئ هو مفهوم «الفصل» بين الديني والسياسي، أو «توسيع» الديني وهي مفاهيم علمانية نشأت بعد ذلك بقرون!.
فالغرض من الإمامة أصلاً هو حفظ الدين، كما أن الواجبات التي يتعين على الإمام القيام بها هي: حفظ الدين، تنفيذ الأحكام بين المتخاصمين، حماية البيضة، إقامة الحدود، تحصين الثغور وجهاد من عاند الإسلام، جباية الفيء والصدقات وتقدير العطايا واستكفاء الأمناء، وأن يباشر الإمام بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، وهكذا فإن «سلطة الإمام كانت ببساطة تفويضاً يهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عنها فقد ورث عن الرسول السلطتين القضائية والتنفيذية فحسب، أما السلطة التشريعية فلم يكن له منها شيء، بل إن سلطته في الاجتهاد كانت محدودة».
غير أن الذي حدث مع قيام الدولة الوطنية الحديثة، ونشأة القول بالعلمانية، أنه انفصلت الدولة عن الشرعية، والشرعية هنا كما هي في الفقه الإسلامي شرعية دينية تكون فيها السلطة محتكمة إلى الشريعة وصادرة عنها؛ ويقوم فيها الإمام بحفظ الدين وبقية الواجبات المذكورة سابقاً. وبهذا انفصلت السلطة عن الشريعة، وقام ما سمي «بالإسلام السياسي» ليتولى هذا الشأن، فاختلت التصورات والأفعال التي أرساها فقه السياسة الشرعية التي نظمت العلاقة بين الإمام والرعية، وحددت واجباته وحقوقه، وبيّنت ما يختص به مما لا يحق له التدخل فيه من الشأن الديني: أصله وفروعه، كما نجدها لدى الجويني مثلاً.
وفي ظلّ ذلك التنظيم كانت العلاقة بين الفقيه والإمام تقوم على اختصاصات وتمايز، فالإمام يختص بالشأن السياسي، يقول الجويني: «لا يختص به – أي السلطان - إلا ما يتعلق بالسياسة». ويوجب على نظام الملك الحاكم في عصره، أن يراجع العلماء فيقول: «ومما ألقيه إلى المجلس السامي وجوب مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر، فإنهم قدوة الأحكام وأعلام الإسلام وورثة النبوة، وقادة الأمة، وسادة الملة، ومفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى، وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقاً، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أمرهم، والانكفاف عن مزاجرهم».
«فحماة الشريعة هم الملوك والأمراء، وحفاظها هم الأئمة العلماء» كما يقول ابن جماعة، وإذا كان الإمام ورث عن الرسول السلطتين القضائيـة والتنفيذية فحسب، فإن السلطة التشريعية كانت للفقهاء وحدهم.
لكن بالتأكيد لم تكن العلاقة بين الفقيه والسياسيّ على هذا النحو من الاستقرار تاريخيّاً، فقد شهدت فترات اضطراب، ربما بدأ منذ عصر المأمون العباسيّ (198-218هـ) حيث أمر بلعن معاوية على المنابر، وامتحن من اختارهم من علماء بغداد في عقيدتهم في القرآن، وهي ما عرفت لاحقاً بفتنة خلق القرآن. وفي واقع الأمر هذا تدخل من الإمام في الشأن الديني، قد تختلف فيه الأفهام هل يحق له أم لا، وإن كان الجويني مثلاً يرى أنه «يجب اتباع الإمام قطعاً فيما يراه من المجتهدات فيُرتَّب القتال على أمر مقطوع به، وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه وإن كان أصله مظنوناً...» وهو يعني هنا الإمام المجتهد، لكن الإمام أحمد بالتأكيد لم يكن يرى هذا الرأي، بل يرفض رأي الخليفة وأن تكون له كلمة في مسألة هي من صميم اختصاص العلماء، وإلا ما بقي في السجن! وإنما يقع الصراع في العلاقة أيضاً في المسائل التي لا يختص بها الإمام فيحاول اجتذابها، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص به، بل هو موكول إلى المسلمين عموماً بشروطه، غير أنه لا بد من الإقرار بأنه كان للسلطان مداخل عدة يتيحها له الفقه الإسلامي نفسه أو السياسة الشرعية خصوصاً، للتدخل في الشأن الديني، من خلال جباية الزكاة، أو اختيار مذهب ونصرته على آخر، أو من خلال عقوبات التعزير التي أوكل أمرها إلى الإمام وهي عقوبات غير مقدرة شرعاً، أو من خلال تقرير المصالح بخاصة إذا ضعف مبدأ الشورى، أو تم التشاور مع اعتباره معلِماً غير ملزِم، وغير ذلك.
وربما يكون هذا النزاع المبكر في عهد المأمون، هو الذي دفع إلى تقرير ما هو شرعي مما هو غير شرعي من شؤون «السياسة» فكتب الفقهاء كتب «السياسة الشرعية» لتوضيح الحقوق والواجبات للإمام والرعية على السواء.
لكن مع كل هذا بقي الإمام يختص بشؤون السياسة، والفقيه يختص بشؤون الدين، حتى عهد الإصلاحية الإسلامية في تونس ومصر، حيث رأى الفقيه أو الإصلاحي أنه مشارك في الشأن السياسي وفي إصلاحه، في ظل الهجمة الاستعمارية، ومحاولة بناء دولة عصرية تقف في وجه تلك الهجمة التي يهدد الوجود والهوية، وتكاد تطيح بالدين. هنا لجأ الفقيه الإصلاحي إلى المصالح والمقاصد لبناء تلك الدولة التي تحمي الوجود والهوية كليهما، وتصون ضرورات الدين التي جاء بها. وقد تحالف رجال الحكم ورجال الإصلاح في تونس لذلك وتم تشريع المؤسسات الحديثة من باب المصالح كما أشرنا سابقاً، لتحقيق الإصلاح الديني والسياسي معاً، فحدث الوصل بين الفقه والدولة، لكن ذلك لم يستمر طويلاً فسرعان ما انفصل الفقه عن الدولة فوجدت النخبة الإصلاحية نفسها معزولة عن الشأن العام الذي استبد به السياسيّ لكن هذه المرة بمعزل عن الشريعة فاختل الفقه من أساسه، وبقيت المعضلة جاثمة في الفكر الإسلامي المعاصر في كيفية التعاطي مع هذه الدولة الناشئة، التي ما أمكن الاعتراف بشرعيتها، ونشأت أطروحة الدولة الإسلامية، وتحولت المشكلة مع بعض التنظيمات الإسلامية العنيفة إلى تكفير الدولة ومحاولة الحلول محلها ما يعني أن تلك الفئة من الناس اعتبرت نفسها من حقها وحدها تولي أمور الشأن العام فحدث الصدام الذي لا تزال آثاره حتى الآن.
وإذا كان الفقه ينتظم أفعال الناس كلها، ويحكمها، فإن هذا يصدق أيضاً على السلطان أو الإمام في خاصة نفسه، كما أن الشريعة الشاملة تصدق على السياسة والعبادة وسائر المجالات، من هنا فإن الفقه يتناول مسائل السياسة، إلا أن تعاطيه معها بما هي تدبير الشأن العام خارج عن منهج تعاطيه مع مسائل الأفراد، ولهذا أوجد الفقهاء اسماً خاصّاً لهذا، أسموه «السياسة الشرعية»، وعرفها ابن نجيم الحنفي بأنها «فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي»، مع أنه قال قبل ذلك: «لم أر في كلام مشايخنا تعريف السياسة». وعماد السياسة الشرعية عند جمهور الفقهاء قائم على المصلحة المرسلة، ولذلك نقل الجويني عن بعضهم قوله: «إن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تستند إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوّغ للوالي أن يقتل في التعزير. ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها»، وقد انتقد الجويني هذا انتقاداً لاذعاً قائلاً: «وهذا الفن يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسبُّبٌ إلى مضادّة ما ابتُعث به سيد الأنبياء». فالجويني شافعي ومذهبه أضيق المذاهب في اعتبار المصالح، فقد تقدم أن الشافعي حصر الاجتهاد في القياس فقط وهو المسلك الأول من مسالك الفتوى كما أشرنا.
إذاً فكرة المصلحة نفسها، هي جوهر ما عُرف بالسياسة الشرعية، وحين كان رجال الإصـلاح هم رجـال الدولة توسعـت المصالح، ونشأت مقولات وتطورات وإنتاجات فقهية كثيرة لقضايا العصر مدت سلطان الفقه، ونمّته، في ظل مسلك المصلحة والمقاصد من دون تجاهل منهجية القياس والنص. وعن مسلك المصلحة والمنافع نشأت مقولات فقه الواقع، والموازنات والأولويات بالاستناد الى مقولات ابن القيم والعز بن عبد السلام، والتي أدت إلى نشوء فقه الأقليات، وتوسعـة دائرة الحلال، وغيرها في حكم المنزع الدعوي الذي يهدف إلى نشر الإسلام وإعادة الطابع الإسلامي الى الحياة مع القرضاوي وتيار ما يُعرف بالوسطية.
وفي تقديري أنه أمكن للنهج الفقهي القياسيّ أن يستمر من دون تحديات، وأن يُنتج ذلك النتاج الضخم في ظل تصور يفصل بين المجالين الخاص والعام، تكفل القياس بالمجال الخاص، وتكفلت «السياسة الشرعية» بالمجال العام التي يتولاها الإمام، مثل شؤون الجهاد، قال الجويني: «أما الجهاد فموكول إلى الإمام، ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره فيصير أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان، والسبب فيه أن تطوّق أمور المسلمين وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم فمن حيث انتاط جرُّ الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام وهو نائب عن كافة أهل الإسلام صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها».
بالإضافة إلى وجود حكم فقهي يسمى «فروض الكفاية» يتناول (بعض) مسائل الشأن العام، التي يقوم بها الأفراد. يقول الجويني: «معظم فروض الكفايات مما لا يتخصص بإقامتها الأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان ألا يُغفلوه ولا يَغفلوا عنه، كتجهيز الموتى ودفنهم والصلاة عليهم. (...) وأما سائر فروض الكفايات فإنها متوزعة على العباد في البلاد، ولا اختصاص لها بالإمام».
معتز الخطيب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد