الدين في صورة الآيديولوجيا
لا نقصد الكلام على صلة بين شيئين حين يجري الكلام على الايديولوجيا والدين. إذ غالباً ما يتناهى الى الفهم، وكأن التقابل بينهما يدل على ضرب من الاستقلال. فالحقيقة هي ان تقابل الايديولوجيا والدين يفترض الجمع والوحدة، ولا يقوم على الاثنينية والفِرقة. حتى ليغدو، ما يُظن انه ثنائية، أمراً واحداً في الواقع. هذا لا يعني ان الدين في ذاته يعادل الايديولوجيا، أو انه هو نفسه ايديولوجيا. ولجلاء اللبس، سوف نسعى لنعثر على ما نسميه بـ"جغرافية تفكير" نتبين منها، وفي ضوئها، مدارج المعنى، قبل، وبعد، عند الالتقاء، بين الايديولوجيا والدين.
تُظهر المعاينة انه منذ اللحظة الاولى التي يلتقي فيها الدين بالايديولوجيا، تمحى الثنائية. فلا الدين يبقى مجرد نص متعال على الزمن، ولا الايديولوجيا تظل محض تصورات في الذهن. بإزاء لحظة الالتقاء تلك، نجدنا امام مشهد يظهر الدين فيه على صورة حادث تاريخي، اتخذ لنفسه لوناً ولغة وثقافة بعدما تحيز في جغرافيته الحضارية. وفي هذه الحال، سوف يستوي الكلام على الدين والايديولوجيا تحت عناوين ادماجية من قبيل: "ايديولوجيا دينية" حيناً، او "تديّن ايديولوجي" حيناً آخر، او غالباً ما يظهر عن طريق السؤال الشائع: لماذا وكيف وضمن اي شروط يتحول الدين الى ايديولوجيا؟...
لنقل اننا الآن في لحظة الالتقاء الفعلي بين الدين بوصفه نظام اتصال الانسان بالانسان، والانسان بالله، وبين الايديولوجيا بوصفها فهماً، واعادة فَهْم وتفسير لذلك النظام. حالئذ لن تنفصل الايديولوجيا عن الدين وهي تقيم معه في مسكن واحد. ذلك انها ستأخذ منه، ويأخذ منها، وكل بمقدار، ضمن حقل فسيح من التفاعل، والاختبار، والمعاينة. ذاك امر كثيراً ما ينجلي بوضوح، من خلال الممارسة التي يخوضها الفاعل الايديولوجي. عنينا به: المتدين الذي مضى آمناً الى ممارسة زمنه الديني، فظهرت لنا احواله إثر إذ على ثلاثة:
- حال من يبتغي لدينه حقانية الحضور والقيومية بوصفه الصراط المستقيم..
- وحال من يرى الى ما يعتقد به ويؤمن، على نصاب الاعتدال والوسطية، فلا يقيم الحد على من هو من غير أهله..
- وحال من يمضي الى فِهْم دينه على مبدأ تعددية السبل الى الله. كأن يرى ان الخلاص او النجاة متاح لكل انسان انى كانت الشريعة التي يلتزمها في فضاء التوحيد. ففي يقينه ان الدين واحد والشرائع كثيرة. فينظر صاحب هذا الفهم الى الاديان كظهورات تاريخية للتجلي الالهي، وينشىء لغته الدينية على الاجتماع الرحماني بين الناس، مهما اختلفت مذاهبهم، واعراقهم، وطرق ايمانهم.
واياً يكن السبيل الذي يتخذه المتدين، سواء كان فرداً ام جماعة، فما يفعله هو انه في تدينه انما يختبر فهمه وطريقته وتالياً، منظومته الايديولوجية.
ما سر هذه الايديولوجيا التي اطلقت فاعِلَها، فراح يمارس ببراعة تجربته الملحمية بالوتيرة نفسها حيال المقدس كما في الزمان البشري؟
لن نمضي بعيداً في التعريف. لكن الاقتراب من الايديولوجيا عن طريق التوصيف، يبدو ذا جدوى. لا سيما ونحن هنا في مجال معاينة الايديولوجيا ضمن صلتها بالدين، او مع حلولها في التجربة الدينية. لو قيّض لنا ان نرى الى الايديولوجيا "كشجرة فلسفية"، لوجدنا أنها طريقة تنشغل عادة بممارسة الافكار. أو انها كما يقال، طريقة شغل فكري في هندسة ربط الافكار المحدثة للاشياء، بالاشياء المحدثة للافكار. أما مجال عملها فيمكث على خط العلاقة الذي يصل الفكر بالحادث، والحادث بالافكار التي يعاد صنعها، ثم تظهيرها على نشأة واحدة ومتناسبة. اما خط العلاقة البينية، فقد يشتد ويرتخي، وينقبض وينبسط، داخل حركة تتفاعل فيها الارادة المنتجة للفكر، بارادة الموضوع الذي تقصده الفكرة لتحدث فيه تغييراً ما. فيتحصل من ذلك التفاعل، خروج الظاهرة الايديولوجية الى ميدان الحركة والانسياب.
مع ذلك يصعب فهم معنى الايديولوجيا بمنأى من مجالات الاستعمال السارية في أحياز التداول والتبادل والإختبار.
كان فيلسوف التأويل الألماني فيتغنشتين يردد هذه الكلمات: لا تسأل عن المعنى، اسأل عن الاستعمال. وهو في ذلك يسعى الى انتزاع المعنى عن طريق التجربة. فلا معنى يقوم في ذاته، فلا بد إذاً من مرجّح يعطي لماهية الشيء صورته وهويته ومعناه وبالتالي فلا قيمة لأي معنى ما لم يتعيّن بجسد، وصورة، وما لم يرتدِ لبوسه، ويأخذ لونه في عالم الإمكان. إن معنى الايديولوجيا بهذه الدّالة يمكث في حدوثها وفي اجراءاتها داخل حقول الاختبار. عبر التجربة تستظهر الكلمات معناها، حيث تغدو تلك الكلمات في مجال التحقق كينونة ضاجة بالحركة. ففي اللحظة التي تستحيل فيها مقاصد الكلمات بادية للعيون ومتحركة في الواقع، فانها تروح تخلع رداءها القديم وحروفها المنصرمة. ثم ليقوم بعدئذ اولئك الذين تلقوها سمعا وطاعة، بإلباسها حروفا جديدة، والوانا اخرى. فالفكرة ما ان "تتمأسس" حتى تفقد الحيوية اللازمة للطور الجديد الذي حلت فيه. وعندئذ لا يملك اصحابها الا ان يعيدوا تشكيلها وفق هندسة مختلفة من الحروف، والكلمات، والنبرات، تناسب احوالها وظروفها التالية.
لا تهتم الايديولوجيا بالتوصيف. فهي لئن فعلت ووصفت المشهد، فسترى نفسها وضدها في آن. وذلك محال ولا يتفق وطبعها. لذا فهي تؤثر اجتناب الرؤية الدائرية للزمان والمكان الذي تعمل فيه، لئلا يلتبس عليها الامر وتقع في الاضطراب. ولو حصل ووقعت في مثل هذا المحظور، فقد تستغرق في سوء الرؤية، فيلتبس الخطاب، ولا تعود العمارة الايديولوجية تملك ضبط توترها الداخلي، او صون حياضها المقدس من استباحة الخارج.
اذاً، تأخذ الايديولوجيا معناها من نسبتها الى قضاياها وحقول عملها. وهي الحقول والقضايا التي تتعدد بتعدد حراك الناس في امكنتهم، وفي تقلبات الزمن. ربما على هذا التأسيس يمكن فتح الباب على اشكال معرفي هو في غاية المشقة والراهنية. عنينا به ادراك حدود الوصل والفصل ضمن عمليات التحويل، والتوظيف بين الدين والايديولوجيا. ولو عرضنا القضية على معيارية الثبات والتحول فسنرى كيف يستوي الدين على ارض الثابت، والايديولوجيا على ارض المتحول. الدين آمن في عليائه المقدسة، يتقدم نحو الناس بواسطة الكلمات. يفيض عليهم بصمت. فلا يكلمهم الا اذا كلموه. واذا كلموه اجاب بقدر سعة فهمهم له. وكذلك بمقدار ما يتوقعونه منه من التسديد والتأييد والمؤازرة. والفاعل الايديولوجي، هو الذي يخلع على الدين بعده التوظيفي فيما هو يمارس تدينه الاجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري. ان مهمة الفاعل الايديولوجي، سواء اكان فردا ام جماعة، تتحدد من خلال اكساب ما يعتقد به انه حق، شرعية تاريخية، تؤكد له هويته من جهة، وتمنحه الادوات المادية، او اللامادية، للدفاع عن تلك الهوية. فسيبدو لنا حالئذ وكأن لكل متدين "دينه الخاص" يعرب عنه بخطاب معين. دين ثقافي يتشكل وفقا لشرائط الجغرافيا الديني وأزمنتها، وكذلك تبعا لتطورات الصدام، او الحوار، مع الغير والمختلف. يجري ذلك سواء في الحقل الداخل ديني، او في ما يتعداه الى ما يتحرك خارج الدين.
على هذه السيرية يتحد الدين بالايديولوجيا عبر مقاصد الناس افرادا او مجموعات. وبعد هذا، سوف تتحول الى طور آخر شديد الالتباس والغموض، لكنه طور لا يعود فيه الدين مجرد ايمان متسام بعدما حل في ازمنة الناس ومطارحهم. بالمقابل لا تعود الايديولوجيا في هذا الطور مجرد ماهية من دون جسد ينمو، ويضج ويفعل، وينفعل.
في هذا الطور ايضا لا يعود الدين، بما هو دين، حاضرا الا في النص. اي في المقدس الذي يعلن عن نفسه بكلمات الوحي، وكذلك عبر المنقول على ألسنة الرسل والانبياء من حملة الوحي. غير ان النص الذي تصوره البعض صامتا، لا يفتأ حتى يغادر صمته في اللحظة التي يحل فيها على الزمن البشري، حيث يروح الناس يسائلونه، ويبحثون فيه عما يتوقعونه منه. انه (اي النص) يتكلم بالواسطة، على ما يقول هؤلاء. بحيث يبقى المقدس واحدا في ذاته، لكنه يتكثر ويتعدد ويتنوع بحسب كل تفسير يُقبل عليه، اما ليتخذه سبيلا الى النجاة، او ليسائله على سبيل التعرف والاستقراء.
مع التفسير الذي هو عملية استنطاق بشري للنص الالهي يستهل السفر الايديولوجي. وعند هذا المنعطف يروح المفسر يلقي أظلته القدسية على كلامه الخاص. انه يواصل مهمته من دون رقيب. بل هو في الغالب من يتولى مراقبة نفسه. ولأنه يتعامل مع مقدس بقصد انتاج معارف تسدد افهام الناس، فهو على يقين من ان ما ينتجه، هو سليل المقدس اياه. بهذا يغدو التفسير مولودا شرعيا للمقدس. فهو إذاً، كوالده يحمل سمته، وصفته، وسلطته المعنوية. ها هنا ينتقل الدين من طور كونه نصا ساكنا، صامتا، ليتحول الى ظهور متحرك وحاك، وسيال في الزمن البشري. اي انه اصبح بالتفسير وطرائق الفهم المتعدد، معرفة دينية. وهذه المعرفة هي حصيلة تفاعل بين المتكلم الديني، والنصوص الدينية. ولما كانت الشريعة صامتة، ولا تتكلم الا اذا كلمها الناس منتظرين اجوبتها – كما يبين بعض العلماء – فانها لا تفهم الا اذا ادخلوها في حنايا عقولهم وأسكنوها مطارح تفكيرهم. لكن الأسئلة التي تطرح على الشريعة ليست واحدة. فهي متعددة بتعدد مستويات السائلين المعرفية والعلمية والاجتماعية، ولذلك فانهم يفهمون اجابات الشريعة تبعاً لتلك المستويات. فالشريعة، كما اشرنا، كما تخاطب الجميع بالطريقة نفسها، ولا تجيب عن اسئلتهم الا بقدر ما تتسع افهامهم لأجوبتها.
وخلافا للدين بما هو روحي الهي فان المعرفة الدينية مستنتج بشري. لديها جميع العلاقات والصفات البشرية. اي ان منشأ وحراك تلك المعرفة، بشري وليس وحيا. وان تطورها تدريجي، وهي تثير الخصومات، وتحتمل الظن واليقين، كما تحتاج باستمرار الى التنسيق والتنظيم والنقد. وهي ايضا في وئام وخصام مع فنون المعرفة الاخرى. وهي كذلك على تقدم وتراجع مستمرين تاريخياً، كما تتضمن القوة والضعف، والاضطراب والصفاء، والصواب والخطأ.
جراء هذه السيرية، يبرز في ساحة المعرفة الدينية كثير من المفكرين والمجددين والاحيائيين والمصلحين، وكل منهم ينشىء معرفته بحسب نصيبه من علوم العصر ومعارفه وايضا من مدى اهتمامه بالمشكلات الخارجية، والقيمة التي يوليها لاركان الشريعة واصولها المتنوعة، ثم يمضي ليقرأها على نحوه الخاص، ثم ليكسو جسدها بثوب آخر ومادتها بصورة جديدة.
ربما لهذا ميز العلماء بين الدين والمعرفة الدينية. وقد جرى ذلك في الغالب، على قاعدة علمية معاصرة قوامها: "ان كل نظرية ابستمولوجية واقعية تقرر التمييز بين الشيء وبين العلم بالشيء".
اما عن حدود هذا التمييز، وكيف عرّف هؤلاء نقاط الاتصال والانفصال بين الدين والمعرفة الدينية فثمة قول اضافي:
بحسب طائفة من التحديدات الابستمولوجية، يصبح الدين عبارة عن مجموعة من الاركان والاصول والفروع المنزلة على النبي، اضافة الى سير الاولياء وسننهم. اما المعرفة الدينية فهي فهم الناس المنهجي والمحدود للشريعة. ولهذه المعرفة كما لغيرها من المعارف في مقام التحقق، هوية اجتماعية جارية في التاريخ. ذلك انها داخلة في الزمان والمكان من خلال نشاط الاتباع والانصار الذين اتخذوها كطريقة لفهم الشريعة، حيث يدافعون بقوة عن حياض هذا الفهم، كما لو كانوا يدافعون عن الشريعة نفسها.
وعلى النحو اياه فان المعرفة الدينية – بحسب عدد من المفكرين المسلمين المعاصرين – هي جهد انساني لفهم الشريعة، واما الشريعة الخالصة – بالنسبة الى اصحاب هذه الرؤية – لا وجود لها الا لدى المشرّع الواحد الاحد.
محمود حيدر
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد