أمن الحوض المتوسطي وإشكالية لعبة توزان القوى
الجمل: يكتسب حوض البحر الأبيض المتوسط مكانة متزايدة وهو أمر أكدته كل معطيات التطورات السياسية الإقليمية والدولية، وكانت السيطرة على المنطقة المتوسطية تمثل المفتاح الرئيسي من أجل فرض النفوذ والسيطرة النافذة على مقاليد الأمور في العالم.
* الجغرافيا المتوسطية: ماذا تقدم المعطيات؟
يقع حوض البحر الأبيض المتوسط في منطقة تطل على ثلاث قارات كبرى هي: غرب القارة الآسيوية وجنوب القارة الأوروبية وشمال القارة الإفريقية، وعلى هذه الخلفية يمكن القول أن البحر المتوسط يتميز بشواطئه ليس المتعددة الجنسيات فحسب، وإنما المتعددة القارات كذلك.
تبلغ مساحة البحر الأبيض المتوسط حوالي 2.5 مليون كيلومتر مربع، وهو ليس منطقة بحرية مغلقة مثل بحر قزوين أو بحر أورال، وإنما هو منطقة بحرية مفتوحة ترتبط بالمحيط الأطلنطي عن طريق ممر مضيق جبل طارق والمحيط الهندي عبر البحر الأحمر الذي يرتبط بالبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس والمحيط الهندي عبر مضيق باب المندب إضافة لذلك يرتبط البحر المتوسط بالبحر الأسود عن طريق مضيق البوسفور.
* الأبعاد الاستراتيجية للبحر المتوسط:
يمكن تلخيص هذه الأبعاد وفق معطيات العلم الاستراتيجي على النحو الآتي:
• البعد الجيو-ستراتيجي: من الناحية العسكرية يعتبر البحر الأبيض المتوسط المسرح البحري الأكثر أهمية في إسقاطات القوة البحرية التي تتضمن كافة أنواع حركيات القوى البحرية بما في ذلك خوض المعارك وشن عمليات دبلوماسية البوارج والردع والردع المضاد وغيرهما، حيث يشكل فرض السيطرة العسكرية البحرية على حوض المتوسط أحد الهموم الكبيرة لكل دوائر صنع واتخاذ القرار العسكري الاستراتيجي في العواصم العالمية الكبرى.
• البعد الجيو-بوليتيكي: تطل على البحر الأبيض المتوسط من جهة الشمال كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان إضافة إلى قبرص ومالطة ومن الجنوب والجنوب الشرقي تطل عليه سوريا وتركيا ولبنان وإسرائيل والأراضي الفلسطينية ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب. هذا، وتشير معطيات الخبرة التاريخية المعاصرة والقديمة إلى أن البحر المتوسط ظل يمثل ساحة التواصل بين هذه الكيانات على النحو الذي لم يجعل من البحر ساحة للنقل والمواصلات فحسب، وإنما ساحة جيو-سياسية كذلك تؤثر وتتأثر بالتفاعلات الإقليمية والدولية. وعلى هذه الخلفية لم تحمل الحركة البحرية العابرة للمتوسط السلع والبضائع التجارية فحسب وإنما القيم الثقافية والتقاليد المجتمعية كذلك،إضافة إلى موجات الهجرة التي أدت إلى انصهار شعوب حوض البحر المتوسط بما أدى إلى تكوين الظاهرة الديموغرافية العالمية المسماة "شعوب المتوسط".
* الأمن السياسي المتوسطي: إشكالية تقاطع منظومات الأمن الإقليمي والدولي:
أدى نشوء الاتحاد الأوروبي إلى إلغاء تعددية منظومات الأمن السياسي الأوروبية وبكلمات أخرى لم يعد هناك أمن سياسي فرنسي أو إسباني أو إيطالي أو يوناني، لأن سياسية الأمن والدفاع الأوروبي أدت إلى إدماج كل هذه المنظومات ضمن منظومة واحدة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. هذا بالنسبة للاتجاه الاستراتيجي المتوسطي الشمالي، أما الاتجاه الجنوبي منه فيمكن القول حوله أن تركيا تمثل امتداد لمظلة الأمن والدفاع الأوروبية لأن تركيا برغم تهميش الأوروبيين لها فإنها ما تزال تمثل عضواً ومكوناً هاماً في اتفاقية حلف شمال الأطلنطي وحلف الناتو. وبالنسبة للاتجاه الاستراتيجي الجنوبي نجد أنه ما يزال يتضمن الكثير من التعديات الأمنية المتنافرة لعدة أسباب من أبرزها:
• وجود المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
• وجود المنظومة الأمنية العربية.
ونلاحظ في هاتين المنظومتين الآتي:
• تتميز المنظومة الأمنية الإسرائيلية بتوليد المخاطر والمهددات لاستقرار وأمن منطقة المتوسط.
• تتميز المنظومة الأمنية العربية بالتفكك وعدم التماسك الذي جعل من بعض مكوناتها تقوم بدور "الطابور الخامس" لصالح المنظومة الأمنية الإسرائيلية كما في حالة المخابرات المصرية والمغربية والتونسية إضافة إلى بعض العناصر والقوى السياسية اللبنانية المرتبطة بإسرائيل كحزب القوات اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر.
وجود المنظومات الأمنية المتنافرة إضافة إلى تقاطع هذه المنظومات وتزايد تقاطعات المنظومات الأمنية الدولية مثل منظومة الأمن الروسي والأمريكي جعلت من محاولات دول منطقة المتوسط الهادفة إلى التعاون الأمني حبراً على ورق، ومجرد تعبير عن نوايا من الصعب إن لم يكن المستحيل تحقيقها على أرض الواقع.
* الحوض المتوسطي وإشكالية لعبة توازن القوى:
كل الكيانات السياسية المطلة على حوض المتوسط لها أساطيلها وقواتها البحرية وكل القوى العالمية الكبرى والعظمى لها أساطيلها وقواتها البحرية الموجودة بشكل معلن أو غير معلن في منطقة حوض المتوسط. وعلى خلفية تقاطعات التواجد والحضور العسكري الإقليمي والدولي في منطقة المتوسط فقد نشأت منظومة من الاتفاقيات التي تعبر عن المزيد من الاصطفافات وحركات الاستقطاب العسكري – الأمني – السياسي في منطقة المتوسط، وبكلمات أخرى، هناك دول تتعامل مع البحرية الأمريكية وأخرى مع البحرية الفرنسية وثالثة مع البريطانية.. إضافة إلى وجود المزيد من القواعد العسكرية وعلى وجه الخصوص القواعد الأمريكية في تركيا واليونان وإيطاليا وإسبانيا وقواعد الناتو والقواعد البريطانية في قبرص ومالطة.
إن جعل حوض البحر الأبيض المتوسط منطقة خالية من الوجود العسكري الأجنبي هو أمر مستحيل تحقيقه على المدى القريب لأن هذا الوجود أصبح في حد ذاته يكتسب المزيد من الحيوية والديناميكية بسبب ارتباط دول المضيفة للقواعد العسكرية الأجنبية بالمزيد من الاتفاقيات وعلاقات التبعية للقوى الكبرى الأجنبية وبكلمات أخرى لن ينته الوجود العسكري الأجنبي والدولي المتوسطي إلا إذا قررت واشنطن سحب قواعدها من المنطقة!!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد