ما بعد التّناص، ومعضلة الإبداع..حين يتحوّل المؤلّف إلى قرصان
ادريس هاني:
يسعى كثيرون إلى منح ملكة الإبداع صفة أسطورية محاطة بهالة سحرية، وفي أغلب الأحوال هناك إرادة تعجيزية يستكين إليها البعض، فيما يقف عندها المغفّلون كعبدة الأوثان.
أمّا مظاهر هذا النمط الجديد من الإبداع، فهو يعكس تدهور النظام التعليمي العالمي، العاجز عن تحويل العبقرية إلى صناعة. فلازالت العبقرية تناهض هذا النظام وتتخطّاه بكسر أصنام البارادايم. ولا زال شاهدا على ذلك، هذا الإعصار النمطي الذي ينتج قوقعات فارغة ترسل أصواتا مفاهيمية غير مقنعة في تنزيلاتها وتطبيقاتها، رجع صدى مفاهيمي يساهم في الجمود وقتل ملكة الإبداع.
والحقيقة أنّ الثورة التي شهدتها النظرية النقدية وما رافقها من آراء بخصوص النّص والمُبدع، كان من شأنها أن توقف هذه العبادة الفائقة لسحر الإبداع الذي هو شكل من المهارات الموضوعية لمن أدرك جدل النص والعقل والواقع.
إذا عدنا إلى واحدة من التعاريف التي تبدو مفارقة، كتعريف الفارابي لعلم الكلام من حيث أنّ صناعة الكلام هي ملكة، سنجد أنّنا في الوهلة الأولى أمام تعريف بما لا يصح، إن أخذنا معنى الصناعة بالاجتهاد، وهو تحصيل ما لم يكن، ثم الاقتدار عليه حدّ تحوّله إلى ملكة، فكيف يُصار إلى تعريف الصناعة بالملكة، بينما الصناعة في أهون الأحوال هي مرحلة سابقة عن الملكة؟
لكن يبدو أن الفارابي الواعي بمفهوم الملكة وعدمها المنطقيين، يدرك لا محالة بأنّ الاجتهاد من حيث هو، ليس إلا ملكة، وهذا يضع حدّا لتبعيض الاجتهاد، أي أن يكون مجتهدا في حقل معرفي دون آخر، بل الملكة في بساطتها لا تتجزّأ بل هي متشككة تشتدّ وتضعف. وإن كان هذا التوجيه هو نفسه فيه تأمّل، حيث لطالما اعتبرنا التبعيض في مقام الملكة لا ينبغي أخذه بالمعنى الفيزيائي والمقولي -كون الملكة بسيطة- بل وجب أخذه بمعنى تحقق الملكة مع شرط توفّر المعلومة، فهو مجتهد بالقوة ما لم يحصل هذه المعطيات، فالملكة لا تشتغل في الفراغ بل ضمن شروط ومعطيات. وفي مثل هذه الحالة يمكن القول أيضا، أنّ المجتهد ما أن يتجه لتلك المعطيات يحرزها، لوجود ملكة البحث والاقتدار، فالاجتهاد ليس بذلا للوسع المنفكّ عن الذّكاء، بل هو وسع مشروط بالذّكاء.
نترك هذا النقاش الذي له مساحة أكثر تفصيلا في باب الاجتهاد، ونذهب باتجاه الإبداع بشكل عام ،كملكة لا تقف عند حقل من الحقول، فالمجتهد مجتهد في كلّ الأحوال، والفارق في مادة الاجتهاد، لأنّ لا اجتهاد من دون إحراز مادة الاختصاص. وهنا أريد أن أشير إلى فعل التناص باعتباره ليس تجاوزا جزافيا للمؤلف، بل هو رهان على قوة آلية المؤلف في ملكة استحضار الإشارة الثاوية في أسيقة النصوص وعلاماتها. فالمنتج للنّص الثالث إن صح التعبير، هو المؤلّف نفسه، لكن ما أن ينتج ذلك النّص حتى يتعين أن يخلي المهمّة لمؤلف آخر، لأنّ المؤلّف إن مارس سلطة الحضور السرمدي، حجب من المعنى وقطع الطريق عن التناص.
إنّ المؤلّف كما ذهب فاليري هو مجرد تفصيل في هذه العملية، وسيذهب كثيرون في هذا الاتجاه مثل باختين و جيرار جنيت، ورولان بارث وكريستيفا. فعملية التّناص هي تجلّي لعقدة قتل الأب، إنّها عملية تفي للمستقبل بما هي عملية مفتوحة وليست مرتهنة للأصل. إلاّ أن إبادة الأصل والمؤلف ليست سوى إجراء آني لاكتشاف الأبعاد الجديدة للمعنى، باعتبار النّص صيرورة في مسار تناص مفتوح.
بالنسبة لباختين السّباق حتما إلى تداخل النصوص بأنحاء ومستويات متعددة، أحصاها في خمسة أنحاء، استطاع أن يرسي تقليدا في القراءة النموذجية التي تتطلب شروطا في قوّة القارئ ونظرية التّلقّي، لإدراك تعدد الأصوات داخل النص الروائي الواحد. هنا تتلاشى وحدة النص وسلطة المؤلف، لصالح إبحار مختلف، وبأدوات تحليل وحفر تضعنا أمام مغامرة تقودنا للإنصات إلى أصوات حريّات البحر التي ينطوي عليها نصّ، لا يمكن أن تظهر كثرة الذّوات فيه إلاّ بإعدام المؤلّف، وهو ما يرمز في الحقيقة إلى قتل المؤلف الأخير للتمكن من سماع الأصوات الأخرى، للمؤلفين الذين سعى المؤلف الأخير إلى طمسهم واحتكار النّص وتحوليه من صيرورة إلى حالة نزول عمودي لا أفق فيه. وهنا أهمية الحوارية التي ذهب إليها باختين. وفي رأيي، لا تظهر ملامح الأصوات الأخرى إن لم نتجاوز المؤلّف ونستنطق النّص.
تكمن العملية الإبداعية النقدية في إحراز قدرة تأويلية، من حيث أن التأويل هو آلية التفكيك والبناء معا، هو آلية الآليات.
وها قد بات التّناص أمرا مقبولا لا مرية فيه، وبات المؤلف كحامل المشعل يسلمه في منعطف ما لمؤلف آخر، فنكون أمام صيرورة نصّ يتحرك عبر العصور والأنماط والسياقات المختلفة، يحبل أيضا بآفاق ومعاني مؤجّلة.
الفكرة الأثيرة التي أسعى إلى تنفيذها هنا، تتعلّق بأفق صيرورة النص والآفاق المتوقعة. قيمة المؤلف تكمن في دور الوسيط الذي تعتصر فيه سائر المعارف، ثمّ "كخلاّط" آلي ينتج منها تركيبا خلاّقا. وهذا فعل يؤدّي فيه اللاّوعي دورا كبيرا، لأنّ كلّ ما يدخل في اللاّمفكّر فيه والممنوع والمؤجّل، هو مخزّن في اللاّوعي الذي تكمن ملكة المبدع في استحضار هذا المكنون اللاواعي في تركيب خلاّق، هو ما نسمّيه إبداعا. وقد سبق أن ذكرنا مرارا بأنّ الإبداع في مجال التناص يأخذ معنى الجعل المركب لا البسيط. ليس ابتكارا من عدم على نحو "كان" التّامة بل هو ابتكار من موجود على نحو "كان" النّاقصة. ومن غابت عنه هذه النكتة، رام فهما للابتكار قد ينتهي به إلى حالة من التّألّه على الخلق. إن قتل المؤلّف، وأؤكد على فكرة قتل المؤلف الأخير، تزداد أهمية عند بروز حالة إنكار صيرورة النّص، وحين يكون المؤلّف الخير هو نفسه قد قتل كل المؤلفين من قبله واختزل النص في حالة من الإقامة لا الصيرورة. وغالبا ما يذهب هذا المذهب أهل التّلاص - بتعبير المناصرة- لا التناص. فالإفلات من العقاب والمحاسبة يدفع أهل التلاص لقطع هذه الصيرورة. ليس أمامنا إذن إمّا قتل المؤلّف أو قتل النّص، ذلك لأنّ المؤلّف الذي لا يقوم إلاّ بمن سبقه عبر التناص، لا يمكن أن يخلد في صيرورة غير منقطعة، إلاّ إذا كان المؤلف مانح الوجود والمعرفة في آن معا.
أقترح شيئا ما أبعد مدى من التّناص أسمّيه العبر-نصية. وهو مدخل لتجاوز المؤلف والنّص معنا، لتحقيق الصحو الضروري لما بدا -بتعبير هيدغر- نسيانا للوجود. فالمؤلف يعيق صيرورة النّص، والنّص يعيق الانفتاح على الوجود.
في اشتغالنا بالنّص يبرز المؤلف كسلطة مانعة من استمرارية المعنى، يقاوم لينصب نفسه مفسّرا ومالكا وحيدا للمعنى، وقد يترك مريدين يمارسون هذه السلطة بالوراثة، مما يجعل المعنى رهينة المؤلّف. حالة غير تعاقدية وانقلابية، حيث المؤلف هو صنيعة مسلسل من التناص، فحين يقف ضدّ استمرارية المعنى، يكون قد انتهك عهد الصيرورة. النّص بوصفها معقل الأصوات والدلالات قد يصبح دليلا لتأويل المؤلّف نفسه، فهو كائن حيّ، ويظل كذلك حتى بعد موت المؤلّف.
إضافة تعليق جديد