عن سرد الأفكار والأصول الثقافية التي استنبتها دوستويفسكي
من الضروري تنحية هذه المادّة عن مجرّد الإطناب في مديح دوستويفسكي الذي مضى شأواً بعيداً في سرد الأفكار المجرّدة التي صار قارّاً أنّ وجودها في الفن يقتل الفنّ الذي ينبت في تربة المحسوس، ويقتات بالمحسوس، ولا يخاطب الوعي إلاّ عبر سبل الحواسّ، لقد مضى باحثون وأكاديميون روسيّون وغير روسيين خلال الحقبة السوفييتية إلى عدّ دوستويفسكي مفكّراً وداعية إيديولوجيّاً كان له أثره العميق في التوطئة لتأصيل الأفكار الماركسية ذات النزعة الإنسانية داخل المجتمع الروسي قبل قيام الثورة البلشفية بعقود عديدة، وعدّه آخرون مبشّراً مسيحيّاً، وهو ما نفاه باختين في كتابه التأسيسي (شعرية دوستويفسكي) مثلما نفى بالقوّة ذاتها أن يكون دوستويفسكي مروّجاً – أو صانعاً – للأفكار التي أطلقتها مدرسة التحليل النفسي التي وجدها باختين مقتصرة على الخوض في الجانب المنحطّ من الشخصية الإنسانية، وتقتصر على مخاطبة النزعة الانحطاطية لدى الإنسان، مقابل ذهابه إلى جعل دوستويفسكي فنّاناً عظيماً قبل أي اعتبار آخر.
حوارات سقراطية
وفي سياق الحاجة إلى التصنيف الثقافي للجنس السردي عند دوستويفسكي، رأى باختين أنّ الحوارات السقراطية المستمرة عبر مختلف الأنشطة الكرنفالية التي عرفتها أوروبا في ظل المسيحية وظلال ما قبلها هي الأصول الثقافية التي استنبتها دوستويفسكي في معظم أعماله مع منح ما يُسمّى (مساخر الموتى) مساحة أوسع، وامتداداً أعمق في تلك الأعمال.
لم ينفِ باختين أنّ دوستويفسكي قد سرد أفكاراً، لكن المهمّ من وجهة نظر الباحث أن دوستويفسكي قد «سرد إنسان الفكرة» وسرَدَ الفكرة عبر حاملها بوصفها وعياً يخاطب وعياً غيريّاً داخل المادة المسرودة، مع نفي الفكرة الذاهبة إلى أن الروائي قد حمّل شخصياته أفكاره الخاصة، إلا في حالات نادرة، بينما كان كثير من تلك الأفكار المسرودة عبْر معتنقيها أفكاراً مطروحة ومتداولة في المجتمعين الروسي والأوروبي.
ما يشدّ الانتباه في بعض الأفكار التي سردها الروائي (بطريقته) هو قدرة هذه الأفكار على تجاوز تخمها الزماني وصولاً إلى اليوم، وتخمها المكاني وصولاً إلى سورية الراهنة، بحيث يتبدّى للقارئ أن إغفال الإشارة إلى هذه الأفكار شكلٌ من أشكال تضييع قيمتها الخاصة، والقيمة الموازية لقوّة الاستبصار وعمقه المكنون في الأعمال الفنّية العظيمة، ومن ذلك على سبيل المثال ما ذكره بشأن الفارق القومي الذي ميّز الروسي عن سواه: «فنحن من هذه الناحية لا يشبهنا أحد. أنا في فرنسا فرنسي، ومع الألماني ألماني، ويوناني مع يونانييّ العصر القديم، وأنا بهذا نفسه أكون أكثر روسيّةً. أنا بهذا روسي حقاً، أقدّم لروسيا أكبر قدر من الخدمات» (المراهق – م 2 ص 344). ونحن الآن - رغم كل شيء في سورية - إذا وضعنا كلمة (سوري) محلّ (روسي) و (مصري، أو عراقي، أو سوداني.. إلخ) محل (فرنسي أو ألماني..) فإني أفترض أن الفكرة تظلّ نفسها. وهو أيضاً ما نجده في صفحة سابقة من (المراهق) حين يتحدّث عن حجم الإساءة التي أنزلها الفرنسيون بفرنسا، والألمان بألمانيا خلال اجتياح بروسيا لفرنسا في سبعينيات القرن التاسع عشر: «هناك كان الفرنسي ليس إلا فرنسياً، وكان الألماني ليس إلا ألمانيّاً وذلك بعنف لم يشهد تاريخهم كله عنفاً أقوى منه، أي إن الفرنسي ما أساء إلى فرنسا يوماً كما أساء إليها في هذه الفترة، ولا الألماني أساء إلى ألمانيا يوماً كما أساء إليها في هذه الفترة»(ص 341).
سبع وسبعون
ولا يقتصر المدهش لدى دوستويفسكي على ما لامسَ بعض أوجاعنا، بل يتجاوزه إلى نكء ما يتّصل بآلام البشرية غير الخاضعة لعوامل الجغرافيا والتاريخ، كما فيما يمكن أن نسمّيه استبصاره للأزمات الدورية التي يعانيها النظام الاقتصادي ذو المنحى الرأسمالي، وليس لأحد أن يدّعي أن دوستويفسكي كان مفكّراً، أو خبيراً اقتصاديّاً، لكنه سرد آراء اقتصادية متداولة في زمنه من خلال سرده لشخصية (درغاتشيف) في الجزء الأول من (المراهق) وكأنما كان يسرد مقادير من الأسس التي تقوم عليها الأزمة الاقتصادية الخانقة القائمة على مستوى العالم، وهي الأزمة التي أنتجها أساساً إطلاقُ العنان للجانب الأكثر توحّشاً وتغوّلاً في النظام الرأسمالي ذي الطابع المتوحّش بطبيعته: « جميع الدول، رغم توازن الميزانيات، و(عدم وجود عجز) ستتورط تورّطاً حاسماً، وترفض جميعها أن تدفع لكي تتجدد هي جميعها في إفلاس شامل، ولكن جميع العناصر المحافظة في العالم بأسره ستناهض هذا، لأن هذه العناصر ستكون هي مالكة الأسهم وستكون هي الدائنة، فلا تريد أن تقبل الإفلاس، وبطبيعة الحال، ستحدث عندئذ الأكسدة العامّة إذا جاز التعبير: يزداد كثيراً عدد اليهود، ويقوم حكمهم، وبعد ذلك، فإن جميع الذين لم يملكوا أسهماً في يوم من الأيام، ولا ملكوا شيئاً بعامّة، أي جميع الشحاذين، سيرفضون المساهمة في الأكسدة طبعاً.. فتقوم المعركة.. وبعد سبع وسبعين هزيمة يبيد الشحاذون مالكي الأسهم ويأخذون أسهمهم، ويحلون محلهم، كمساهمين أيضاً بطبيعة الحال. وقد يقولون شيئا ًجديداً، وقد لا يقولون. وأغلب الظن أنهم سيفلسون هم أيضاً، أما فيما عدا هذا يا صديقي فإني لا أستطيع أن أوغل مزيداً من الإيغال في قراءة المصائر التي سوف تغير وجه العالم» (ص 384).
لا شك في أن مَن يبتغي المطابقة بين ما كان في سبعينيات القرن التاسع عشر وبين ما يحدث الآن فلن يجد ضالّته في سياق المقبوس الآنف الذي بدا محشوراً بطريقة بدت (فجة) في سياق الأحداث التي تابعتها الرواية في بقيتها التي تشكل ضعفي ما كان قد جرى سرده في تلك البقية التي خلت من وجود (درغاتشيف)، فالمهم من منظور ما يحدث اليوم هو اللجوء إلى الحرب بوصفها سبيلاً محتملاً للخروج من الأزمة، أو بوصفها سبيلاً وحيداً حتمياً للخروج، ومن النافل التذكير بأن ما ذكره دوستويفسكي كان قد ذكره قبل أن تُبتلى أوروبا، ويُبتلى معها العالم بحربيها العالميتين اللتين كانتا سبيلاً اعتمدتها الرأسمالية العالمية لمجرّد حلّ أزمتها المالية، والخروج من مأزق التضخّم، والركود الاقتصادي، وإطلاق الجشع إلى حدوده القصوى.
وحل البؤس
واليوم، يشهد العالم حرباً جديدة آخذة بالاشتداد والتوسّع الجغرافي بخطا حثيثة متسارعة على قاعدة الأزمة المالية التي يعانيها النظام الرأسمالي العالمي، لا يمكن الذهاب بطبيعة الحال إلى نفي العوامل المضافرة الأخرى، ولا يجوز في السياق ذاته إرهاق (الآخر) بمختلف أوزار الذات وقاذوراتها العصية على التجريف، ولكن لا يمكن غضّ النظر عن محوريّة الدور الذي تحتله الأزمة الاقتصادية العالمية في المشهد الاحترابي الراهن، فمن يملك القوّة بمعانيها كلها هو الذي يقرر إشعال الحرب هنا أو إطفاءها هناك، ولاسيما أن الأسلحة من صنعه، وأن الشعارات - حتى الشعارات - من صنعه، وهو الذي يقرر مصادر التمويل.
ربما كان الأفضل في سياق الحديث عن (سرد الأفكار) إثارة المسألة في نطاق المدوّنة السردية العربية التي لا تزال بعيدة عن التخويض المثير في الأفكار العميقة المطروحة في مختلف المراحل التي تناولتها المدوّنة، وربما كانت ندرة الأفكار المطروحة، من جانب، وعجز المدوّنة عن إنتاج أفكار أصيلة، من جانب آخر، هو ما يرسّخ حالة الإغفال التي نأمل أن تكون حالة مؤقّتة، وأيّاً كان الواقع فإنّ لنا أن نشير إلى أنّ بعض مكامن حقارة البؤس الذي نغرق في وحله يتمثّل في قصر النظر عن المرئي بعد مسافة الأنف بصورة مباشرة، ويتمثّل بعضه في القصور الأخلاقي الذي ينتاب كينونتنا الجمعية، ويجعل المتذاكي منا يعتمد المقولة الشائعة لمكيافيللي الخاصة بالوسيلة والغاية اللتين سردهما دوستويفسكي بلسان عصره أيضاً في سياق سرد أولئك الذين يزعمون أنهم سيعمدون إلى إحلال المبادئ الفاضلة فور وصولهم إلى مبتغاهم بوسائل دنيئة: «لا ضير من الوسيلة الدنيئة إذا كانت الغاية نبيلة، ثمّ يُغسل كلّّ شيء فلا يبقى أثر من وساخة» (المراهق م 2 ص 314). وهنا يحسن التساؤل عما إذا كان المتنبّي، من ذروته التي نبتعد عنها ألف عام يعني هؤلاء في بيته الذي يناسب وضعَنا وضعُ الذكاء محلّ (السخاء): «وللنفس أخلاق تدلّ على الفتى/ أكان (ذكاءً) ما أتى أم (تذاكياً).
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد