«السير» سلمان رشدي
منحت الملكة اليزابيت سلمان رشدي لقباً نبيلاً «سير» هذا واحد من تقاليد التاج البريطاني ان تمنح الملكة لقباً كهذا للمشاهير في كل حقل. لم تكن الردود الايرانية حادة على اللقب الذي ناله أديب قضت فتوى بقتله للإمام الخميني ببقائه متوارياً أعواماً طويلة من حياته. لكن ردوداً غاضبة جاءت من كتّاب غربيين بعضهم من اصل هندي مثل رشدي ندّد هؤلاء باللقب واعتبروه مكافأة للثقافة الكولونيالية. كان سلمان رشدي شاباً حين نال جائزة بروكرا على تحفته الروائية «أطفال منتصف الليل» واستحق لذلك ترجمة إلى العربية، كانت هي الأخرى جميلة، واطلعنا في وقت مبكر على الرواية التي صدرت عن وزارة الثقافة السورية في جزءين، كان ذلك قبل «آيات شيطانية» وقبل أن يضج العالم كله بـ«قضية رشدي» وقبل أن تقضي فتوى الإمام الخميني ببقائه متوارياً. أذكر أن رواية «أطفال منتصف الليل» كانت بالنسبة لي فتحاً روائياً، ورغم انقضاء السنين على قراءتها لا تزال بعض فصولها طرية في ذاكرتي. بل إن مفتتح الرواية عاش دائماً معي وكنت لا أتوقف عن استرجاعه ذلك انه انظم الى زمرة من الصور التي تترجم حياتي. يروي مفتتح رواية سلمان رشدي قصة الطبيب الشاب الذي دعي لمعاينة بنت المهراجا، ولما كانت التقاليد تحول دون تعرّيها أمامه فقد أتى بثوب مخروق وجعل الخرق على موضع الألم في جسم الفتاة، فحصها الطبيب وتكرر الأمر وكل مرة يتغير موضع الخرق من جسد الفتاة حتى جاء وقت صار فيه الطبيب يعرف كل جسد الفتاة مبعثراً إلا أنه لا يستطيع أن يجمعه في هيئة واحدة. هذا المفتتح لا زلت أرويه لنفسي بل أرويه عن نفسي فقد شعرت منذ ذلك الحين أنني مثل الطبيب الهندي أعرف الاشياء مبعثرة ولا أستطيع أن أجمعها في هيئة واحدة، ذلك ليس شأني مع المدن فحسب، والتي رغم مداومتي على زيارة بعضها، لا اعرف ان أعين جهاتها ولا ان اتخيل مكاني منها. إنها تبقى بالنسبة لي «بازل» موزعاً، قطعاً مجزأة، مشاهد وصوراً فحسب، اقول ليس هذا شأني مع المدن فقط ولكنه مع الكتب ايضاً، فهي تتحول في رأسي وذاكرتي إلى قطع ونثرات، بل تتحول احياناً الى ردود غامضة وآثار وأطلال. هذا شأني مع الثقافة كلها اذ انها في رأسي تقاطعات وزمر مشتتة في كل وجه. بل هذا شأني مع الآخرين الذين قلما أعرف لهم هيئات وذوات كاملة وإنما هم ايضاً هذا النثار من الصفات والأقوال والأخبار. بل هذا شأني مع حياتي نفسها التي لا أظنها أكثر من تيار يجمع شوارد من كل جانب ويستقطب أشياء تخصه ولا تخصه. ليس مفتتح سلمان رشدي وحده هو الذي همني. فأطفال منتصف الليل فيما أظن هي النسخة الأخرى من «الواقعية السحرية» التي يقتحم معادلاً قوياً بين الفانتازيا والواقع والتي تحول الخيال إلى سلطة ساخرة، وأظن أنني لست الوحيد الذي تأثر بالرواية فأنا ألمح «تسربات» لها إلى كثير من أعمالنا الروائية ولا أعجب، لكن هذا بالطبع حديث آخر لا اعرف كيف يمكن ان تكون «أطفال منتصف الليل» أدباً كولونيالياً، اني لا استطيع ان اثبت العكس. فقديما لم افهم ما كتبه ادوارد سعيد عن ذلك، حيرني ذلك مثلما حيرتني تصنيفات لينين للخط البروليتاري وغير البروليتاري. فقد شعرت أنه وحده يملك هذا المقياس ووحده يمكنه فرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسألة كهذه، اما من لا يملكون بصيرته فلا بأس ان يخلطوا الكولونيالي بغيره، والبروليتاري بغيره. ما دام الذين خلطوا في نظر لينين، وربما في نظر أدوار سعيد، كانوا الجميع ما عداه.
عباس بيضون
المصدر: السقير
إضافة تعليق جديد