الروائي السوري خليل النعيمي متمرداً على سلطة الكتابة
«الخلعاء» هي الرواية السابعة للروائي السوري خليل النعيمي، وفيها ينحو منحىً تجريبياً يبتعد فيه من الرواية التقليدية في الحكاية والخطاب، وفي الشكل والمضمون، لينتج نصاً روائياً يعكس تمكّن صاحبه من أدوات السرد، وهذا ما يمنحُه القدرة على التجريب والمغامرة في اجتراح خطاب روائي خاص.
والخلعاء في اللغة جمع الخليع. ومن معانيه: المعزول عن مقامه، المتهتك، الخبيث، الذئب، والغول. فهل تنطبق الدلالات اللغوية للكلمة على أدوار الشخصيات الروائية، فتكون الرواية اسماً على مسمّى؟
يبدأ خليل النعيمي روايته بالقول على لسان الراوي: «كنا نقترب بسرعة من البحر عندما قلتِ لا تظل ساكتاً...» (ص5). ويختتمها بالقول: «لم يبقَ لنا من ذلك العالم القديم الذي كان جميلاً سوى البحر، البحر الذي لم يكن هو الآخر ليجيء...» (ص156). فالبحر الذي ينتمي الى عالم قديم جميل هو المكان المقصود في الرواية هرباً من مكان قاتم يخيّم عليه الليل. وسواء أكان البحر مكاناً يتصل بالزمن الماضي أو المستقبل، فإنه في الرواية ليس مكاناً جغرافياً يحتضن الماء بل هو مكان رمزي يرمز الى الخلاص من واقع قاتم، ويشير الى التجدد فيغدو مجرّد بلوغه والاغتســال بمائه تطهّراً من ذلك الواقع وتعمّداً بماء جديد.
والرواية كلها هي رحلة البطلين المأزومين من المدينة/ فضاء السلطة الى البحر/ فضاء الحرية والتجدد بأقصى السرعة، ذات ليلة. وهذه الرحلة لم تكن مجرد رحلة في الجغرافيا، بل رحلة فرار من السلطة الخارجية والداخلية، رحلة ترويض للذات التي شربت حليب السلطة على أنواعها وللآخر. هي رحلة خارجية وداخلية. فهل أفلح البطلان في الوصول، أم أنّ كلاً منهما كان محكوماً بالانعزال عن مقامه والغربة، وهنا يتقاطع الدور الروائي مع الدلالة اللغوية للعنوان؟
الزمن الذي تستغرقه أحداث الرواية هو ليلة واحدة شاءها الراوي وشريكته أن تكون أخيرة فاصلة بين مرحلتين: مرحلة الواقع المظلم، ومرحلة الفجر المنتظر. والمكان الذي تدور فيه هو سيارة تقطع المسافة بين دمشق والبحر. والزمان والمكان كلاهما يتمددان وينفتحان على ذكريات تحدث في أزمنة وأمكنة أخرى، لكنها تبدو ضئيلة مقارنة بالوقائع التي تختصرها تلك الرحلة الليلية، وهي وقائع خارجية تتناول حركة البطلين في المكان. تلك الليلة، وهي وقائع داخلية ترصد أفكار البطلين وحالاتهما النفسية المتقلبة المتناقضة وانفعالاتهما العنيفة والعادية.
وفي الوقائع أن ثمة علاقة ملتبسة تربط بين الراوي وشريكته في الرحلة، فلا نعرف طبيعة العلاقة بينهما. هل هي زوجته أم عشيقته أم خليلته أم مساكنته؟ هذا السؤال لا نقع على جواب له في الرواية. غير أننا نتعرف الى نوعية العلاقة بين الطريقة فنرى أنها محكومة بعلاقات السلطة، وتقوم على الكرّ والفر والصراع والمناكفات والتسلط والترويض والاخضاع، ويختلط فيها الحب بالكره والرغبة في الامتلاك بالرغبة في الانتقام والنفور بالحنان. وهذا النوع من العلاقات السلطوية بين فردين إنما هو انعكاس لنوعية العلاقة التي تربط السلطة بالأفراد، تلك القائمة على القمع والمصادرة والاخضاع في العالم المرجعي الذي تمتح منه الرواية وتــحيل الــيه.
ولعل الهرب من هذا العالم ومراياه، ذات ليلة، على جنح الظلام، الى بحر مجهول الموقع بأقصى السرعة، والتعرّض لأخطار الطريق وعدم الوصول الى الهدف المنشود، إنما تعكس رغبة ملحّة لدى سكان هذا العالم في التحرر من واقعهم الظالم المظلم، والتطلع الى فجر ما ينتظرون بزوغه وبحر ما يتعمدون بمائه، ويعكس فشلهم في تحقيق هذه الرغبة، وفشلهم في ترويض الذات والآخر والتحرر من رواسب السلطة الكامنة في كل واحد منهم. فلا يبزغ فجر في الرواية، ولا يدرك بحر، ولا يكون ثمة ليلة أخيرة. والدلالة الروائية للفجر والبحر والليل في الرواية تتعدى الدلالة اللغوية، فتكتسب هذه المفردات أبعاداً رمزية. وهكذا، فإن انتهاء الرواية من دون بلوغ الرحلة هدفها يشير الى استمرارية الواقع الراهن، واقع التسلط والاستبداد، ويشي بأن الليل لا يزال طويلاً.
هذه الحكاية الخاصة/ العامة يصوغها خليل النعيمي بخطاب روائي أراده أن يكون مختلفاً. وهو لهذه الغاية يصطنع راوياً هو بطل روايته. يقوم بسردها مستخدماً صيغتي المتكلم والمخاطب، الراوي هو المتكلم والشريكة هي المخاطبة. والرواية هي هذه المخاطبة الدائمة لها منذ بدايتها حتى النهاية. وهي مخاطبة متنوعة الى أقصى الحدود تتراوح بين التذكير والوصف والسرد واللوم والتوبيخ والتعنيف والاسترضاء والتودد والاعتراف والبوح والكشف عن مكنونات صدر الراوي/ المتكلم، وتشترك في هذه المخاطبة الحركات مع الكلام، الى درجة تظن معها أن الراوي مريض نفسياً والشريكة طبيب نفسي والسرد نوع من العلاج. على أن هذا الراوي/ المتكلم/ المريض كثيراً ما يُماهي بين المخاطب/المرأة التي تقاسمه بطولة الرواية والسلطة الأم وبينها وبين عقيد سبق أن خضع له في الجبهة. وهكذا، فإن ما زرعته فيه السلطة العامة من عقد يروح يفرغها من خلال ممارسة سلطته الذكورية على شريكته في النص والواقع، وإسقاط ممارسات سلطوية سابقة على تصرفاتها، وممارسة سلطة السرد التي تضعها في موقع المتلقي وترسم دورها في الرواية وإطار حركتها. وعلى رغم ذلك، تبدو الشريكة على قدر من القوة والتماسك والوعي واتخاذ القرار، وتبدو في موقع أقوى من موقع الذكر/ الراوي على رغم امتلاكه سلطة الذكر وسلطة السرد في آن معاً.
ويقوم خليل النعيمي بتطعيم نصه الروائي المعاصر بنصّ تراثي قديم لست أدري إن كان نقله أو ألّفه، فيوزع مقاطع من هذا النص وفق تواتر معين على النص الروائي. وهي مقاطع لا تمتّ بصلة مباشرة الى السياق، غير أنها تتناغم معه في التعبير عن أنماط من العلاقات الـــقائمة على الـــصراع والمـــناكفات والتســـلط. ولعل خلو القسم الأخير من الرواية من مثل هذه المقاطع يشير الى أن النص الذي ناء تحت وطـــأة التـــراث نجح أخـــيراً في التـــحرر منه وامتلاك شـــخصيته النصية المــستقلة.
وغير بعيد من هذه التقنية يقوم النعيمي بقطع نصه بمجموعة من الأقوال المقتبسة أو الموضوعة تعكس بدورها أنماطاً سلطوية من العلاقات، غير انها تبدو مقحمة على السياق لا يضيره حذفها في شيء. ولعله أقدم على ذلك بدافع من نزوعه الى التجريب.
وأعتقد أنه بهذا الدافع نفسه قام الكاتب بتجاوز التقسيم التقليدي للنص الى فصول وفقرات فبدا وكأنه فقرة واحدة. ولم يستخدم علامات الوقف كأني به أراد توخي السرعة مجاراة لسرعة السيارة بحيث يغدو الشكل مناسباً للمضمون، وتُوازي حركة النص حركة الحدث الروائي.
بهذه التقنيات يكون النعيمي قدّم نصاً روائياً مختلفاً تمرّد فيه على سلطة الرواية كما تمرّد بطلاه على السلطة العامة وإفرازاتها.
سلمان زين الدين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد