ذئب ماكياﭭـيلي المَنْسِيّ
الجمل- (جاك دِرِّيدا)- ترجمة: غازي أبو عقل: بين العامين 2001 و 2003 عقد جاك دِرِّيدا في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية الفرنسية، حلقات بحث عنوانها "البهيمة والعاهل"، موقوفة على مفهوم السيادة وعلى "الوجوه الحيوانية للسياسة". باشرت مطبوعات GALILÉE نشرَ مجموعة هذه المدونات الضخمة*.
يعود دِرِّيدا – في المقتطفات التي تشكل هذا المقال – إلى واحد من الفصول "المفتاحية" المدرجة في الكتاب البدعة الذي وضعه نقولا ماكياﭭييلي في القرن السادس عشر، وأرسى فيه قواعد علم السياسة المعاصرة "الأمير"، كتاب الأقوياء المفضل، أم دليل موجز تقرؤه الشعوب؟
النـاشــر
* * * * *
تتَضَمَّن الترجمةُ الفرنسية التي وضعها جان ﭭنسان ﭙيرييه في 1825 لكتاب نقولا ماكياﭭيلي "الأمير" وفي الفصل الثامن عشر منه "كيف يجب على الأمراء الالتزام بأقوالهم واحترامها"، وهي مسألة ليس أكثر منها "راهنية" وحضوراً، لا تعني احترام اتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار ومعاهدات السلام فحسب، بل تعني في الحقيقة، كما كان الأمر دائماً، احترام الحكّام لالتزاماتهم، لأن الاحترام يُشكّل بنية كل عقد وكل قسَم، أعطوه إلى هيئة أو مؤسسة ما، أو إلى طرفٍ آخر جدير ومُؤهَّل ومُخَوَّل: من قبيل ذلك، احترام أو لا احترام الولايات المتحدة وإسرائيل قرارات هيئة الأمم المتحدة، وكل ما يتصل بهذه القرارات، بما في ذلك احترام الالتزامات التي اتخذتها منظمة الأمم المتحدة بشأن الإرهاب الذي يصفونه "بالدَّوْلي أو العالمي" – وهو مفهوم تعتبره الأمم المتحدة نفسها إشكالياً – والنتائج التي استَخلصَتْها من الموقف الحالي، مع الموافقة التي أَعطتْها إلى الولايات المتحدة لكي تؤمّن دفاعها المشروع عن نفسها بكل الوسائل التي تعتبرها – الولايات المتحدة – وحَدها مُناسِبة.
بيد أن هذه المسألة نفسها تبدو غير منفصلة عن مسألة "الامتياز الخاص بالإنسان"، في الفصل الذي يعالج الكلمة التي يجب على الأمراء الالتزام بها، ومسألة أن نعرف "كيف يجب على الأمراء الالتزام بكلمتهم". هذه المسألة المُزدَوَجة، التي تبدو كأنها مسألة واحدة فعلاً، قد عولجت بطريقة مثيرة للاهتمام. ستشاهدون الذئبَ يعبر أمامكم، لا الذئب وحده بل خليطاً من الحيوانات أيضاً.
وُضِعتْ مسألة "ميزة الإنسان" [بمعنى ما هو خاص به كإنسان] في مركز النقاش حول قوة القانون، بين القوة وبين القانون. في هذا الفصل الذي يبدو أكثر فصول الكتاب "ماكياﭭيلية"، يبدأ ماكياﭭيلي بقبول "أمر ناجز" (أؤكد على ناجز): وفاء الأمير بالتزاماته أمرٌ جدير بالثناء فعلاً، ينبغي أن نوافق على استحقاقه هذه الصفة الحميدة. بعد ما يبدو أنه يشبه التنازل (نعم، هذا حسَن، هذا يستحق الثناء، هذا أمر مُعتَرف به مبدئياً وقانونياً أن يلتزم الأمير بكلمته) يعود ماكياﭭيلي إلى حقيقة لم يُغادرها أبداً، مآلها كون قلة من الأمراء يلتزمون بما وَعدوا ويحترمون تعهداتهم، بينما يمارس أكثرهم الخداع والمكر والمراوغة، ويحتالون بشكل شبه دائم لكي يتهربوا من تعهداتهم. ذلك أنهم مرغمون فعلاً على التهرّب.
يقول ماكياﭭيلي، إننا رأينا أكثرَ الأمراء قوةً ولمسْنا أن أولئك الذين غنموا وفازوا قد تفوّقوا على الذين اتخذوا من احترام قَسَمهم قاعدة، على النقيض من أولئك. "ينبغي لكَ إذن أن تعرف وجودَ طريقتين للقتال، واحدة بالقوانين وأخرى بالقوة". تَوَجَّه ماكياﭭيلي بهذه النصيحة إلى لوران دي ميديشي بمقدار ما تَوَجَّه بها إلى القرّاء.
إذن... تارةً بالحق والعدالة والوفاء واحترام القوانين والعهود والمواثيق والالتزامات والمؤسسات المشفوع بالقَسَم، وتارةً أخرى بخيانة العهود وبالكذب ونكْث اليمين وعدم احترام الوعود وباستخدام القوة المجردة، (منطق الأقوى كما في حكايات لافونتين).
من هذا المنطَلق يستخلص ماكياﭭيلي نتائج غريبة يجب علينا تحليلها عن كثب. خوض المعارك بسلاح القوانين والشرائع (أي بالوفاء بالتعهدات كأمير مخلص صادق يحترم هذه الشرائع)، هو امتياز خاص بالإنسان. إن هذه الكلمات "الامتياز الخاص بالإنسان" وهي دليل كانطي من حيث المبدأ إذا صَح القول: ألاّ نكْذِب ووجوب ألاّ نكذب ولا نحنث بالقَسَم، هذا هو الامتياز الخاص بالإنسان وبكرامته.
الطريقة الثانية هي القتال بالقوة، كما يقول، وهذه طريقة البهائم. لا الإنسان بتاتاً بل البهيمة. القوة لا القانون، منطق الأقوى هو ميزة البهيمة خصوصاً. بعد هذا "الشَّوْط" الثاني يُسَجّل ماكياﭭيلي "شوطاً" ثالثاً من الدليل [الكانطي]، مؤداه أن طريقة القتال الأولى (بالقانون) غير كافية فعلاً، لأنها تظل عاجزة. يجب عندئذ اللجوء إلى الثانية. ينبغي للأمير إذن أن يقاتل بالسلاحين، بالقانون وبالقوة. عليه اعتماد سلوك الإنسان والبهيمة. وأنقل عنه هنا "يجب على الأمير إذن أن يعرف بالمناسبة العمل كبهيمة وكإنسان". عندما يعجز العمل بالقانون (الوفاء للقَسَم إلخ...) ولا يصلح ويصبح ضعيفاً جداً، يجب عندئذ سلوك مسلك البهيمة. يجب على الأمير الإنسان التصرف كما لو كان بهيمة.
"هذا ما عَلَّمه قُدامى الكُتَّاب بشكل رمزي عندما حكوا عن أن أخيل وغيره من أبطال العصور القديمة عُهد بهم إلى القِنطور [كائن خرافي نصفه إنسان ونصفه فرَس] المسَمَّى شيرون [القنطور المثقف والكريم الذي كان معَلّم أخيل] لكي يغذيهم ويريبهم. من هنا بالفعل، وبواسطة هذا المعلّم الذي نصفه بشري ونصفه بهيمة، أرادوا التعبير عن نواياهم بأن الأمير يجب عليه أن يكون، نوعاً ما، ذو طبيعتين، وأن إحداهما ينبغي أن تتلقى المساندة من الأخرى".
لا يُلح ماكياﭭيلي على الجزء الإنساني لهذا الأمير القنطور، لهذا العاهل القنطور وحواريه، هذا الأمير الذي يجب عليه أن يكون إنساناً وبهيمة، فهو يُفضّل التأكيد على ضرورة كون النصف الحيوان نفسه هجيناً غير متجانس، مختلطاً ونتيجة (تطعيم) حيوانين اثنين، الأسد والثعلب. لا أن يكون بهيمة واحدة بل بهيمتين في واحدة.
"لأنه لو لم يك إلا أسداً فحسب لما تمكن من رؤية الأفخاخ، ولو كان ثعلباً فقط لما تمكن من الدفاع عن نفسه ضد الذئاب. فهو بحاجة لأن يكون ثعلباً أيضاً لمعرفة الأفخاخ واسداً لترويع الذئاب. والذين يُصرّون على أن يكونوا هذا أو ذاك فقط لا يبرهنون عن سِعة حيلة أو براعة"...
العدو اللدود هنا هو الذئب دائماً. البهيمة التي يجب اصطيادها وطردها وقمعها وقتالها هو الذئب. القصد هو الدفاع عن أنفسنا ضد الذئاب. والأكثر أهمية هو ترويعها. ولئن لم يكف الأسد وحده لترويعها، يجب في كل حال، وبفضل براعة الثعلب ترويع الذئاب، وإرهاب الإرهابيين، كما كان يقول شارل ﭙـاسكوا وزير داخلية شيراك في زمانه. هذا يعني جعلها تخشى من قوة كامنة غير ظاهرة، قوة أشد هولاً وأكثر إثارة للرعب وأكثر وحشية وأكثر خروجاً على القانون أيضاً من الذئاب التي تعتبر رموزاً للعنف الوحشي.
لست أرغب بمضاعفة ذكر التجليات المعاصرة الواضحة جداً لتلك الأقوال، وسأكتفي بالتذكير بما كتبه نوعام شومسكي في كتابه عن "الدول المارقة" ROGUE STATES، من أن القيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة STRATCOM (وهي واحدة من عشْر قيادات موحدة في وزارة الدفاع) توصي بتخويف العدو وترويعه، لا بالتهديد بحرب نووية فحسب مع الحرص على جعلها ماثلة، ولا بالإرهاب البيولوجي، بل بإعطاء العدو صورة عن الولايات المتحدة تقدمها كخصمٍ قادر دائماً على فعل ما يحلو له. كأنه بهيمة قادرة على الخروج عن أطوارها وفقدان برودة دمها، والكف كدولة عن التصرف عقلانياً، كإنسان عاقل، عندما تكون مصالحها الحيوية في الميزان. (أود التذكير أيضاً أن كلمة ROGUE يمكن أن تدل على الحيوانات التي لا تحترم عادات المجتمع الحيواني وتبقى بمنأى عن جماعتها).
جاء في توجيه القيادة الاستراتيجية: يجب ألاّ نُظهِر أنفسنا بمظهر "العقلانيين" كثيراً عند تحديد ما هو ثمين وعزيز جداً على العدو. بكلمة أخرى يجب إظهار أنفسنا كالعميان، وأن نوضح مقدرتنا على أن نكون عمياناً وبهائم عندما نحدد الأهداف التي قد نضربها عند العدو، لكي نثير الذعر فيهم وجعلهم يعتقدون أنا نفعل أي شيء ونتحول إلى مجانين عندما تُلمَس مصالحنا الحيوية. ينبغي التظاهر بكوننا قادرين على أن نُجَنَّ ونمسي لامنهجيين فاقدي الصواب، أي أن نكون كالحيوان. تقول واحدة من توصيات القيادة الاستراتيجية: الأمر "المؤذي" (IT HURTS) وصفُ أنفسنا بتمام العقلانية والدم البارد. "وعلى النقيض من هذا الأذى يكون الأفضل لاستراتيجتنا إظهار بعض العناصر كأنها "خارج السيطرة"...
هذه الكفاءة في التَّصَنُّع والتلفيق والاختلاق، وهذه المقدرة على الظهور بمظهر خادع، هما ما يجب على الأمير اكتسابه كي يبدو يتمتع بمزايا الثعلب والأسد. التحوّل (بمعنى القدرة على المسخ والانسلاخ) هو مَكر وحيلةٌ بشرية، خديعة يمارسها الإنسان الثعلب الذي ينبغي له ألا يتظاهر بكونها خديعة وحيلة. يكمن هنا جوهر الإيهام والخداع، ونسج الحكايات الخرافية أو المظهر الخَدَّاع، بمعنى أن نجعل الأمر كالحقيقة أو الصدق، وأن نُقسِم على الوفاء، بما سوف يكون دائماً شرط الخيانة. يجب على الأمير أن يكون ثعلباً لا لكي يمكر مثل الثعلب فحسب، بل لكي يتصَنَّع كونه ما ليس هو وألا يكون ما هو فعلاً. إذن، لكي يتظاهر ويوهِم بأنه ليس ثعلباً في حين أنه ثعلب في الحقيقة. سوف يتمكن الأمير من أن يكون بشراً وبهيمة في آن، أسداً وثعلباً، بشرط أن يكون ثعلباً، أو أن يصبح ثعلباً أو مثل الثعلب. بوسع الثعلب وحده التحوّل بهذه الطريقة ,ان يبدو مشابهاً للأسد. لا يستطيع الأسد فعل ذلك. يجب على الثعلب أن يكون ثعلباً بما فيه الكفاية لكي يمثل دور الأسد، ولكي يتوصل إلى – أنقل هنا عن
ماكياﭭيلي -: "تمويه طبيعة الثعلب هذه". سأقرأ عدة سطور حتى تعرفوا أن ماكياﭭيلي يخبيء مثالاً في رأسه، حين يمتدح بشكل ماكر مخادع أميراً ثعلباً من أمراء عصره:
"لا ينبغي للأمير الفَطِن الحَذِر إنجاز وعده بتاتاً عندما يعود عليه هذا الإنجاز بالضرر، أو لئن تَغيّرت الأسباب التي جعلته يحزم أمره ويعطي ذلك الوعد بحيث لم تعد الأسباب موجودة: هذا ما يجب التوصية به وتَعلّمه. لن يكون أمراً حَسَناً لو أن البشر جميعاً كانوا خَيّرين، وبما أنهم خبثاء، ولأنهم، بالتأكيد، لن يلتزموا نحوكَ بكلامهم، فلماذا يجب عليك التمسك بما وعدت به؟ فضلاً عن ذلك هل ستَنْفد الأسباب المشروعة في جعبة الأمير من أجل تمويه أسباب النكث بما وعَد؟ بوسعنا، في هذا المجال، إدراج ما لا يُحصى من الأمثلة المعاصرة وذكْر عدد كبير من معاهدات السلام والاتفاقات المتنوعة التي أصبحت بلا جدوى وغير مفيدة، نتيجة لخيانة الأمراء الذين عقدوها وعدم وفائهم بها. بمقدورنا أن نضع تحت أنظاركم كيف أن الذين أحسنوا العمل كالثعلب هم أولئك الذين ازدهروا وأفلحوا أكثر من غيرهم. غير أن ما هو ضروري حتماً للوصول إلى هذه النتيجة، هو إتقان تمويه طبيعة الثعلب هذه، والتمكّن التام من فن التظاهر وفن الإخفاء والتمويه. البشر عميان بما فيه الكفاية، ينقادون بيسر خلف حاجتهم كلما عثر المخادعُ الغشَّاش المضَلِّل على من هم على استعداد للانخداع دائما". ( ... )
هل هناك أية فائدة تُجنَى من التذكير بما لا يُحصى من الأمثلة المُستخلَصة من حداثتنا ومن عصرنا، حيث تقترح الدولُ الأقوى ذات السيادة وهي تصنع القانون الدوْلي وتُخضِعُه لمصالحها، من أجل أن تصنعَ حدوداً تُقيّد سيادة الدول الأضعف، كما سبق وركّزَتْ على هذه الناحية حَنَّه آرندت ( ... ) ذهبت الدول الأقوى إلى انتهاك القانون الدَّوْلي أو إلى عدم احترامه، هذا القاننون التي أسهمت في تأسيسه، وبالتالي انتهكت مؤسسات هذا القانون الدولي في الوقت نفسه الذي كانت تتهم فيه الدول الأضعف بعدم احترامه وبأنها "دول مارقة" خارجة على القانون، مقلدة تلك الحيوانات المسماة "ROGUE" التي لا تخضع لأحكام قانون مجتمعها الحيواني نفسه؟ هذه الدول المقتَدرة التي تعطي أسباباً لتسويغ أعمالها وتعطي نفسها الحق في صنع تلك الأسباب، لكنها ليست على حق غالباً، إلا أنها تنال من حقوق الدول الأقل اقتداراً. إنها تنفجر وتثور ثائرتها وتطلق العنان لأهوائها كأنها بهائم حشية شرسة تمكّن منها السُّعار...
* * * * *
* حلقة بحث "البهيمة والعاهل" الجزء الأول 2001-2002 – طبعة أعدتها ماري لويز مالِّه وجينيت ميشو وميشيل لِيسّ – توضع بالمكتبات في السادس عشر من تشرين الأول اكتوبر 2008. منشورات دار GALILÉE باريس / تَرِكة جاك دِرّيدا 2008. نشرت هذا البحث الشهرية لوموند دبلوماتيك في عددها لشهر أيلول سبتمبر 2008.
الجمل
للكاتب أيضاً:
حساب ذهني: "قَرن روسي، من لينين إلى ﭙـوتين"
عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..
غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟
غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1 من 4)
غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)
غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)
إضافة تعليق جديد