صــورة الآخــر فــي الأدب الفارســي الحديــث
يتركز جهد المؤلفة جويا بلند سعد في كتابها «صورة الآخر في الأدب الفارسي الحديث»، (دار قدمس، 2007) على الكشف عن بعض آليات اشتغال الخطاب القومي الإيراني في عملية تمثله للآخر العربي. وبالتحديد في الأدب الفارسي الحديث، من خلال قراءته لبعض النصوص الأدبية التي ترسم صورة العرب، ودلالاتها في السياقين الأدبي والتاريخي. لكن العمل يمتدّ إلى إبراز الأبعاد المتخيلة في هذا التمثيل، من حيث هي صور نمطية وأحكام ومواقف، بقدر ما تنهل من خزان رمزي يكثّف الوجداني والعقدي والقدسي، فإنها تتبلور في شكل تدخلات وإجراءات ومعارك. وهذا يقتضي الوقوف عند ما أنتجه الخطاب الأدبي من طرق لإدراك وتمثل الآخر، والتساؤل عما يعبّر عنه من إرادة للمعرفة بالآخر، في مختلف التمثيلات، الأمر الذي يطرح أسئلة محرجة أمام الفكر المنتج له، ولنمطه المهيمن، خصوصاً في هذه المرحلة التي تختلط فيها الرؤى والتصورات بالمصالح والرغبات، وتعيث فيها مختلف النزعات والعصبويات ما قبل المدنية.
وتظهر صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث، بوصفها جزءاً من الإجابة عن سؤال الذات الإيرانية، حيث شكل مفهوم «الإيرانيَة» هاجساً أدبياً، بل مشكلة سياسية واجتماعية انعكست في الأدب، بوصفها مشكلة البحث عن الهوية التاريخية والثقافية والقومية، فلجأ كتاب الأدب الإيراني الفارسي الحديث إلى تصوير إيران كأمة واحدة، من خلال تعريفهم للعربي بوصفه الآخر، وهو تعريف مقلوب للإيراني بوصفه الذات بمصطلحات العرق واللغة أحياناً، وبمنظور الآخر بمصطلحات الدين والتاريخ والثقافة أحياناً أخرى، وهو مسعى شكّل جانباً من خلق القومية الإيرانية في القرن العشرين المنصرم.
وترى المؤلفة بأن النزعة القومية الإيرانية هي ثيمة ملحة في الأدب الفارسي الحديث، نلتقطها من خلال وصف التاريخ الاجتماعي واللون المحلي والعادات واللهجات وسوى ذلك. وتعني النزعة القومية الولاء والإخلاص للأمة، وحسب «شاه رخ مسكوب»، فإنه منذ مجيء الإسلام إلى إيران، تأسس الوعي القومي الإيراني على اللغة الفارسية وعلى تاريخ ما قبل الإسلام، بالنظر إلى عاملي التاريخ واللغة، وعليه تمّ تعريف إيران كأمة من خلال اللغة والتاريخ المشتركين، لكن واقع الحال يشير إلى أن إيران بلد ذو تنوع إثني كبير، فهناك الفرس، وهناك جماعات قومية أخرى من الأتراك الآذاريين والتركمان والغاشاي الأتراك وقبائل بدوية ناطقة بالتركية والأكراد واللور والبلوش والعرب والأرمن والآشوريين، وهم مميزون على الصعيد الثقافي، ولكل جماعة منهم لغة وثقافة مشتركة، تميزها كثيراً أو قليلاً عن الجماعات الأخرى في إيران. وكانت مقاطعات خوزستان وجيلان وخراسان، إضافة إلى العديد من القبائل البدوية، تتمتع عملياً بالحكم الذاتي قبل عام .1919
ومع بداية الوعي القومي الحديث، سعى المفكرون العلمانيون إلى تأسيس تعريف جديد لمفهوم الإيرانية، بُني على الماضي ما قبل الإسلامي، فصور بعضهم إيران ساسانية وأخمينية دمّر حضارتها المزدهرة «البداة المتوحشون»، فرأى «ميرزا آغا كرماني» في الإسلام ديناً غريباً فرضته على «الأمة الآرية النبيلة» أمة «سامية»، وبالتحديد «حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون». ويرى المؤلف أن «بداة كرماني المتوحشين»، كانوا يشكلون نمطاً شائعاً في الثقافة الإيرانية التي ضمت في ثناياها صوراً سلبية للعربي، اكتسبها الإيرانيون من خلال سيرورة التربية والتعليم، فملحمة الفردوسي «شاهنامه» تنتهي بقدوم العرب المسلمين والقضاء على إيران الساسانية واحتلالها، وصورت العرب على أنهم قوم أقل مدنية وأقل ثراء من الإيرانيين، ومع ذلك فلا يمكن اعتبار الشاهنامه عملاً معادياً للعرب بكليته. وكذلك تظهر صورة العربي البائس، غير المتمدن، مقابل الإيراني المتنعم والحضاري في كتاب «سفرنامه» لناصر خسرو، وهو عمل أدبي كلاسيكي، ظهر في القرن الحادي عشر.
المشاعر المعادية للعرب
وتقرّر المؤلفة أن المشاعر المعادية للعرب لم تكن مستوردة من الغرب، لكن نتاج سيرورة التفكير القومي الإيراني في القرن التاسع عشر، كانت متأثرة بالنظريات العرقية الغربية، حسبما يرى «بايات فليب».
وقد شهدت إيران الحديثة، مع القرن العشرين، سياسات نظام رضا شاه التي تركزت على إخضاع الجماعات غير الفارسية، حيث عمل الجيش على بعثرة هذه الجماعات كي يشكلوا أقلية في كل موقع، وفُرض على الرجال والنساء ارتداء الثياب والقبعات الأوروبية بدل الملابس التقليدية المميزة لكل إثنية، وحرّم «رضا خان» الذي صار في ما بعد «رضا شاه بهلوي» استخدام التقويم القمري الإسلامي، واستعاض عنه بالتقويم الشمسي الفارسي، وجرى تمجيد إيران ما قبل الإسلام على أيدي النظام البهلوي، ولُعن العرب المسلمون لتسببهم في انحدار إيران من العظمة التي كانت عليها في مرحلة ما قبل الإسلام. وسعى النظام البهلوي إلى تغيير الهوية الإثنية للشعوب غير الفارسية في إيران، بهدف جعلها جزءاً من الأمة الإيرانية الحديثة، واتبع سياسة تفريس إيران، من خلال إصلاح اللغة و«تنقيتها» من المفردات ذات الأصول العربية.
غير أن الأمور تغيرت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين المنصرم، فبدلاً من العربي جاء الآخر الغربي، ليــوضع مقــابل الذات الإيرانية، إذ ومع قيام الجمهوريــة الإســلامية جـرى إدارج الإسلام الشيعي بوصــفه جزءاً من الهوية الثقافية الإيرانية.
وتركز المؤلفة على بعض صور العرب الموجودة في أعمال أدبية متنوعة لكتاب مختلفين، حيث تبرز كتابات الرجال في قسم منفرد وكتابات النساء في قسم آخر. ويتبيّن من الأعمال الأدبية التي يختارها أن مواقف الكتّاب الرجال متطابقة حيال العرب والمسلمين ومفهوم الإيرانية إلى درجة كبيرة، في حين أن كتابات النساء مختلفة عن ذلك تماماً.
وتختار المؤلفة خمسة من الكتاب الرجال، هم: محمد علي جمال زاد، وهو كاتب نثري وصاحب مقالات، وصادق هدايت الذي يعد من أشهر كتاب إيران في القرن العشرين، والقاص والروائي صادق جوباك، والشاعران مهدي أخوان ساليس ونادر نادربور. بالمقابل، تختار ثلاثا من الكاتبات النساء، وهن الشاعرة فروغ فرخ زاد وطاهره سفرزاده والقاصة والروائية سيمين دانش فشار.
ويتبيّن من القصص والروايات التي يدرسها المؤلف أن الكتّاب الإيرانيين رسموا صورة نمطية وبائسة للعربي والإسلام، وألقوا باللائمة على العرب والدين الإسلامي تبعة تخلفهم عن ركب الحضارة، ويحمّلونهم مسؤولية تدمير الهوية الثقافية الإيرانية، ويرفضونهم بوصفهم غرباء ويعارضون القيم الثقافية الإيرانية الحقة. وترتكز رؤيتهم إلى ميتافيزيقا النموذج القومي الإيراني، التي تتحدث عن الأصل المشترك والتجانس اللغوي والعرقي، مقابل التركيز على الفروقات العرقية مع العرب. وفي هذا السياق، يظهر صادق هدايت كشخص متطرف، نتيجة تبنيه نظرة عنصرية متأثرة بشكل صريح بالأطروحات النازية، ويتجسد ذلك في روايته الشهيرة «البومة العمياء» التي تتحدث عن رهاب الأجانب وعن الخوف وكراهية الآخر العربي.
النساء أكثر تسامحاً
بالمقابل، فإن كتابات النساء تميل أكثر إلى العقلانية والتفهم، وبعيداً عن التطرف والتشنج والتعصب الذي طاول كتابات الرجال، حيث تنتقد فروغ فرخ زاد الإسلام بوصفه جزءاً من المؤسسة الدينية الإيرانية، لا بوصفه وافداً غريباً، وبالتالي لا تحمّل العرب مسؤولية التخلف الإيراني. بينما تعتبر الشاعرة طاهره سفرزاده الإسلام ظاهرة كونية لا عربية، وتجد في الامبريالية الغربية عدوها الإيديولوجي. وتوحد سيمين دانش مرحلة ما قبل الإسلام والإسلام في الميثولوجيا الإيرانية، لتحدث توليفة ثقافية لإيران.
لا تكتفي المؤلفة بالتقسيمة السابقة، بين كتابات الرجال وكتابات النساء، بل يختار ما يعتبره رجلاً يقف في الوسط، وهو القاص والكاتب جلال آل أحمد أما، الذي يجمع في كتاباته ومواقفه ما بين الإسلام والقومية الإيرانية، حيث يعتبر الإسلام الشيعي جانباً جوهرياً من مفهوم الإيرانية، واضعاً الإسلام مقابل الإمبريالية الغربية والنزعة المادية، دفاعاً عن الثقافة الإيرانية وعن الإنسانية. ويصف جلال الآخر العربي في بعض قصصه على أنه «غريب، بدائي، غبي، جشع، مخادع، عنيف، فظ وقذر». لكن هذا التوصيف للعربي سيتغير بعد هزيمة حزيران، حيث تحل الإمبريالية الغربية محل الآخر العربي. وتصور المؤلفة موقع جلال على أنه تسوية صعبة بين النزعة القومية الثقافية الإيرانية الفارسية، التي وضعت مقابل الآخر العربي، وبين الإسلام مقابل الإمبريالية الغربية بوصفها الآخر، وهو موقع استطاع الحفاظ عليه فقط من خلال تجريد الإسلام من عروبته.
تنبع أهمية الكتاب من أنه يتناول موضوعاً لم يتم الطرق إليه في الكتابات العربية، حيث لم يصدر أي عمل في هذا المجال في حدود معرفتي، لذا فإن ترجمته إلى العربية تعد إضافة إليها. والمفارق في الأمر هو أن تتصدى باحثة أكاديمية أميركية لهذا الموضوع الذي يتناول الكيفية التي رسمها الأدب الفارسي للعرب.
ويمكن القول إن النزعة الميتافيزيقية القومية، تصاغ في الأدب وسواه استناداً إلى نوع من التمثيل الذي تقدمه/ وتغذيه عناصر عديدة، ثقافية ودينية وتاريخية وجغرافية، تغري الذات المتوهمة بأوهام التفوق والنقاء والصفاء، وتجعلها تسم الآخر بالدنس والدونية والاختلاط، وعليه تغدو هذه النزعة المغالية نوعاً من التعلق بتصور مضاعف عن الذات والآخر. وهو تصور ميتافيزيقي ينهض على الثنائيات الميتافيزيقية التي تقوم على الفصل والإحالة والتمايز والتراتب والتعالي، وتأتي القصص والمرويات عبر الزمن لتراكم الصور النمطية المتخيلة الناتجة عنها.
المصدر: السفير الثقافي
إضافة تعليق جديد