ميساء آقبيق: رحلتي إلى بلاد العم سام (4)
بناء الإنسان.. أمريكا والعرب
الجمل - ميساء آقبيق:على رغم المساحات الضيقة التي انتشرت فيها المباني العالية المتلاصقة في حي منهاتن، وغلاء العقارات المؤجرة والمباعة، إلا أن الحدائق تنتشر في كل مكان..
الحديقة المركزية العامة، وهي إحدى أكبر وأشهر الحدائق العامة في العالم إلى جانب حديقة هايدبارك اللندنية، لا يمكن وصفها بكلمات قليلة. هناك تجد أشخاصا يتريضون، وآخرين اصطحبوا أبناءهم ليتنشقوا الهواء الطبيعي ويقضوا أوقاتا في اللعب بين أحضان الطبيعة، وتلاميذ في رحلات مدرسية تنمي قدراتهم الحركية والاستكشافية..
لم تسيطر فكرة الربح المادي على مالكي الأراضي ومسؤولي البلديات في تلك البلاد، رغم كل الكلمات التي نعتلي المنابر لنهجوهم ونهاجمهم بها، استطاع الإنسان هناك أن يجد دائما متنفسا له ولعائلته من صخب الحياة العملية.. لم أستطع أن أزيح من ذهني فكرة المقارنة مع تخطيط المدن في البلاد العربية، جولة واحدة في شوارع أي عاصمة عربية والصورة تتضح..
وعندما حضرت عرضا مسرحيا في "برودواي" لفتني أن الحضور كان مشدودا للعرض وألهب التصفيق أكفه، علما أن المسرحية التي شاهدتها تعرض للعام الثامن على التوالي... هذا شعب يحترم الجهد والعمل الفني المبدع والحرية.. وقد استحضرت تحليلا قرأته منذ نحو شهرين على وكالات الأنباء حول إحجام المواطنين السوريين عن الذهاب إلى دور السينما وحول قلة دور العرض في سوريا، وجاء في التحليل أن أحد موزعي الأفلام دفع مالا كثيرا للترويج لفيلم "فارس الظلام" آخر إنتاج في سلسلة أفلام الرجل الوطواط الذي حقق إيرادات من أعلى ما حققه فيلم أمريكي في تاريخ السينما، لكنه خسر أمواله ولاقى الفيلم إقبالا ضعيفا لأن المواطن يفضل مشاهدة الأفلام المسروقة على جهاز العرض المنزلي.. ومع عدم إنكار أن مساحات الإبداع الفني في الدول العربية تقلصت وانحدر مستواها إلى الحضيض لكن كثيرا من العرب والسوريين للأسف لا يحترمون الفنون حتى الغربية منها، وعندما يحجمون عن مشاهدة فيلم شارك في إنجازه جيش من المحترفين وتكلف أموالا طائلة واحتوى على مؤثرات بصرية وسمعية لا يمكن الاستمتاع بها إلا في صالة عرض ضخمة بأجهزة صوت متقدمة، ويفضلون مشاهدته في المنزل بنسخة رديئة وهم يتحدثون وترن هواتفهم وأولادهم يصخبون بجانبهم فهم لا يعرفون ماذا يعني الفن السابع ولا كيف يستمتعون بما يقدمه، لقد كان آباؤهم الذين كانت تمتلأ بهم الصالات ويعرفون أغلب الأفلام السينمائية الرائعة أكثر منهم ثقافة وسعة أفق!!
وقد حرص المعنيون في أمريكا على المحافظة على كل الرموز التي تقدر جهود وقيمة الفن، وفي مدينة "ممفيس" تجد منزل "إلفيس بريسلي" وكأنه كان يعيش فيه بالأمس، واستوديو "صن سيتي" وكأنه لا يزال يسجل أروع الاسطوانات، وأينما نظرت وفي كل مكان هناك مسارح تقدم عروضا تتنافس في المتعة والعمل الجيد، لا أدري كيف نظل نتساءل لماذا هم متقدمون ونحن متخلفون..
غالبية أفراد الشعب الأمريكي صادقون وبسطاء ولطيفون بطبعهم، يبادرون بالسلام عليك والابتسام في وجهك، وربما يبدي أحدهم إعجابه بشيء ترتديه أو تحمله من دون أن يعرف من أنت، لديهم مبادئ أخلاقية ثابتة، فكلما بدوت حائرا يتوجهون إليك بسؤال مباشر: "ماذا تريد أن تفعل؟" من المهم جدا أن تعرف بالضبط ماذا تريد، وعندما تتسوق يترك لك البائع كل الوقت الذي تحتاجه لكي تقرر ماذا ستشتري وحين تتوجه إلى صندوق الحساب يسألك: "هل أنت جاهز؟" يجب أن تكون مستعدا ومسؤولا عن اختياراتك وقراراتك، إنه الاستقرار النفسي ومعرفة الهدف، وكم من العرب يعيشون عمرهم كله وهم لا يعرفون ماذا يريدون ومتى يصبحون جاهزين ليقوموا بخطوتهم ولأي سبب أو هدف يتخذون قراراتهم، حتى قرار الارتباط والزواج بين العرب غالبا ما يكون بيد الشخص غير المعني!.
الشعب الأمريكي رغم ما ذكرته سابقا عن محدودية معرفته بالعالم خارج وطنه إلا أن أكثر أفراده يسيرون على طريق واضح ولا تربكهم ضبابية المستقبل كما يحدث عندنا، عقولهم منفتحة على الجديد والمنطق والعقل والثورات الفكرية والإقدام على تجربة التغيير، وما انتخابات الرئاسة الأخيرة إلا دليل على ذلك. لقد راهن كثير من العرب بثقة مطلقة على أن جون ماكين هو الرئيس الأمريكي المقبل لأن الأمريكيين لا يمكن أن ينتخبوا رجلا ملونا، وكنت دائما أقول إن الشعب الأمريكي مليء بالمفاجآت، هذه المفاجآت التي تأتي دائما من هناك مؤشر على حيوية هذه الأمة التي يقاس عمرها بالعقود بينما تقاس أعمار أمتنا نحن العرب بالقرون، اخترنا الجمود والتوقف ثم التقهقر والرجوع، وما زال هناك من يسأل لماذا هي دولة كبرى، ولماذا يسيطرون علينا وعلى كثير من دول العالم ولماذا لا نستطيع أن نمتلك قرارنا، أليس من الواجب قبلا أن يكون لدينا قرار لكي نمتلكه؟؟
ميساء آقبيق: رحلتي إلى بلاد العم سام (3)
إضافة تعليق جديد