إسلام «البترو دولار» أم إسلام «البزنس».. أم ماذا؟
هذه المقالة تناقش أفكاراً حول الإسلام في طروحات صادق جلال العظم ووليّ نصر:
بعد أن طرح المتخصّص الفرنسي في الشؤون الإسلامية أوليفيه روا مقولة فشل الإسلام السياسي في أطروحته الشهيرة الصادرة العام 1999، أتى كتاب الباحث الأميركي من أصل إيراني وليّ نصر «صعود قوى الثروة؛ نهضة الطبقة الوسطى الجديدة في العالم الإسلامي وانعكاساتها على عالمنا»، ليقدم مقاربة جديدة حول الدور الذي سيقوم به «إسلام السوق» التجاري والمعولم، في التصدي للتطرف الديني في العالم العربي والإسلامي. وإذ خلص صاحب «صحوة الشيعة» أن رجال الأعمال الأتقياء سوف يشكلون قوة اقتصادية إيجابية ورادعة تؤدي الى تقليص الإيديولوجية الإسلاموية المتشددة، تحدث المفكر اليساري صادق جلال العظم عن «إسلام البيزنس» في كلمة ألقاها في برلين في 19 نيسان 2013 حين افتتح «منتدى برلين للمسلمين التقدميين» في دورته الثامنة الذي تنظمه «مؤسسة فريدريش إيبرت» الألمانية.
يرى نصر أن التطور الاقتصادي الذي تقوده الطبقة الوسطى سيمهّد لإضعاف التطرف الديني، ويراهن على فئة رجال الأعمال المسلمين الأتقياء المندمجين في السوق العالمي والمتدينين في آن، معتبراً أن هذا الاندماج يساعد على التحرر الاجتماعي والسياسي. يعلق الباحث في مجلس العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي آمالاً كبيرة على «الطبقة الوسطى التقية الجديدة» التي ترفض التشدد، وتماثل بين الإسلام والرأسمالية، ويقول إن «هذه الطبقة الصاعدة تستهلك الإسلام بمقدار ما تمارسه»، وتعمل على الاستفادة من الحداثة بالشروط الإسلامية.
بروز الرأسمالية الحقيقية في الشرق الأوسط ينهض على نشاط الأفراد العاملين في الأسواق مما سيتيح المجال للنمو والازدهار، هذا ما يصل إليه ولي نصر، وتالياً فإن قوى الثروة الجديدة ستنبع من رجال الأعمال المؤمنين، وليس من مبادرات الدولة أو النخب الاقتصادية التي تحظى برعاية رسمية. يتخذ نصر من إمارة دبي أنموذجاً للنظرية التي انطلق منها، ويبدي إعجابه بتجربتها الرائدة، هذا المجتمع الكوسموبوليتي ـ الرأسمالي سيفتح الطريق أمام تقليم أظافر التعصب الديني بسبب انتصار مبدأ السوق الحر.
يؤكد نصر أن القوة التجارية في العالم الإسلامي ستكون الأرضية الممهّدة للإسلام المصلحي ـ التجاري، اذا جاز التعبير، فهي التي ستحدد مسار الشرق الأوسط وتفاعله مع بقية العالم. ومع أن البعض يأخذ عليه تجاوزه للرأسمال ـ الإسلاموي العنفي، الذي أرساه أسامة بن لادن، وكذلك الرأسماليين المسلمين الذين دعموا المتطرفين، لكن هذا لا ينفي أنه قدم خلاصة مهمة، ربما قد ترسم تحولات المنطقة عبر الإسلام الشرق أوسطي المعولم، المتصالح مع الأسواق العالمية. ولعل التجربة المتعثرة والمحبطة لإسلاميي الربيع العربي لا سيما في مصر وتونس، الذين فشلوا في تطبيق القواعد التي قام عليها حزب «الحرية والعدالة» التركي تعطي المشروعية لوجهة نظر ولي نصر، أقله في المدى البعيد.
على المقلب الآخر، رأى صادق جلال العظم في محاضرته المشار اليها أعلاه والتي جاءت تحت عنوان «صحوة الإسلام السياسي بعد الربيع العربي: التطورات - التحديات - الآفاق» «أن أطراف الإسلام السياسي اليوم داخلة في صراع مرير ومديد وحاد جداً على ضبط معنى الإسلام نفسه وتحديد تعريفه والهيمنة على فحواه وطبيعة تطبيقاته». وقد رصد صاحب «نقد الفكر الديني» ثلاثة إسلامات متصارعة: الأول، إسلام الدولة الرسمي؛ هذا النوع يستند الى البترودولار المدعوم من قبل السعودية وايران والعقيدة الأساسية في الحالة الإيرانية تقوم على «ولاية الفقيه» في حين أن الحالة السعودية «تقول: «القرآن دستورنا» بما يعني أننا لسنا بحاجة الى أي دستور مهما كان نوعه، لأن الحكم المطلق هو الأفضل والأنسب للإسلام الحقيقي والأصيل». والثاني، «الإسلام الأصولي الطالباني التكفيري الجهادي العنيف، بأجزائه المتكثرة وفئاته المتنوعة وتنظيماته المتفرعة، وعقيدته الاساسية هي «الحاكمية» ومنهج عمله شبه الوحيد تقريباً هو «التكفير والتفجير». يصف العظم هذا الإسلام بـ «العدمية» لأنه لم يستطع بلوغ أية أهداف أو أسلوب غير المنهج الإرهابي الانتحاري، ويشير الى أنه ترك تأثيراً سلبياً على الإسلام عموماً وعلى الإسلام الجهادي العنفي خصوصاً.
الطرف السياسي الثالث المنخرط في الصراع الجاري على معنى الإسلام وتعريفه كما يلفت صاحب «ذهنية التحريم»، هو «إسلام الطبقات الوسطى والتجارية»، أي «إسلام البازار والأسواق المحلية والاقليمية، اسلام غرف التجارة والصناعة والزراعة، اسلام المصارف وبيوتات المال المسماة إسلامية، وإسلام الكثير من رؤوس الاموال الطافية والباحثة بيقظة عالية عن أية فرصة استثمارية سريعة ومجزية في اية ناحية من نواحي الكرة الارضية اليوم. والى الحد الذي تشكل فيه بورجوازيات البلدان الاسلامية عموماً والعربية تحديداً العمود الفقري لمجتمعاتها المدنية، فإن هذا الاسلام الجيد والمفيد «للبيزنس» (Good for Business Islam) يكون هو أيضاً اسلام المجتمع المدني فيها.
الإسلام «البيزنسي»، الذي يعطيه العظم دوراً مستقبلياً، مصدره الشرائح المجتمعية الإسلامية المعتدلة والمحافظة، المنخرطة في التجارة العالمية، هذا الإسلام «له مصلحة حيوية»، كما يقول «في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي وهو بالتأكيد غير مهووس بالمشركين والكفار والمرتدين والمجوس والملحدين والزنادقة والمنافقين والروافض والنواصب، او بالحدود وقانون العقوبات الجسدية... إنه إسلام يميل الى التسامح الواسع في الشأن العام والى التشدد في الشأن الشخصي والفردي والعائلي والخاص؛ ولذا يجب تمييزه بدقة عن إسلام الحكم المطلق من ناحية، وعن إسلام التكفير والتفجير، من ناحية ثانية».
لا ينفي العظم التخبّط الذي يمر به الإسلام العربي في مصر (المحاضرة ألقيت قبل عزل الرئيس محمد مرسي) وتونس مقابل الإسلام التركي الذي قدّم أنموذجاً ناجحاً. اللافت أنه عندما يصل الى معاينة «سوريا الثورة»، كما يفضل تسميتها، يرصد ثلاثة أنواع تتصارع عليها؛ إسلام البترودلار الايراني والسعودي، وما تبقى من الإسلام الرسمي للنظام، والإسلام «البيزنسي» على النهج التركي الكامن نسبياً والذي ينتظر فرصته المواتية.
يحاول العظم تقديم قراءة استشرافية للإسلام المقبل في بلاده، إذ يرجح أن لا تقع «الثورة» في قبضة الإسلامات التي تتنافس عليها، ويوضح أنه بعد المرحلة القلقة من الفوضى والاضطراب ستعود سوريا الى مزاج التدين الشعبي العفوي. ويصل في مقاربته الى القول: «عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار والبناء، أعتقد أن رأس المال السوري والبورجوازية السورية عموماً سيتقدمان بقوة لقيادة مسيرة الإعمار والاستثمار فيها، مما يعني أن الإسلام الذي سيطفو على السطح سيكون الإسلام البيزنسي، إسلام رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والشرائح التجارية والصناعية، وهو غير الإسلام السياسي الذي يتخوّف الجميع منه بسبب تصلبه وتشدده». ومن بين النقاط التي يخرج بها العظم أن الإسلام الشعبي وإسلام السياسي البيزنسي «قادران على استيعاب» التيارات الإسلامية المتعنتة الآتية «من إسلام التوتر العالي الذي طبع الثورة» ويقصد الجهاديين التكفيريين.
يستشهد العظم في محاضرته بالدكتور رضوان السيد الذي أعرب بدوره عن تفاؤل بهذا النوع من الإسلام البيزنسي، وينقل عنه قوله: «الفئات الوسطى التي تشتغل وتعمل هي التي يمكن أن تنشئ فكراً جديداً، إرهاصاته بدأت، فكرٌ لا يصارع العالم ولا النفس، بل يعيشُ في مصالحه معهما».
المستفاد من الطروحات التي تقدّم بها نصر والعظم أن الطبقة الوسطى المسلمة ستدفع باتجاه الإسلام التعايشي ـ التجاري المنفتح على الأسواق. غير أن المعضلة التي تواجه المسلمين في الوقت الراهن، ليست في الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها رجال الأعمال المنفتحون والأتقياء، وإنما في التذرير الذي يتعرض له الإسلام من الداخل، بسبب اشتداد الصراع السنّي الشيعي الآخذ في التمدد، ما يحفزنا على التساؤل: كيف يمكن تفسير الفتن المذهبية في أمة محمد، وما هي مآلات التشظي التي يُغذيها بعض رجال الدين على ضفتي الدين التوحيدي؟
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد