إشكالية الإدراك الحضاري للعقل العربي الإسلامي
تختلف التجربة الحضارية لأي حضارة بحكم عاملين مهمين، الأول: معيار الزمن أو العصر الذي نشأت فيه، والثاني: معيار التجربة نفسها، فالتجارب الحضارية المختلفة التي مرت على الحياة البشرية قد ساهمت وبدرجات متفاوتة في عملية بناء الحضارة الإنسانية بفضل عملية الحفظ والاستيعاب وهي السمة التي تميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات الأخرى. وبحكم هذه السمة كانت دائماً الحضارات اللاحقة أكثر تقدماً من الحضارات السابقة، وبالتالي فمتغير الزمن لا يلعب هذا الدور في حد ذاته وإنما بفضل تفعيل الذاكرة التاريخية للبشر. كما ان التجربة الحضارية نفسها لها دور أساس في تقدم أو تأخر هذه التجربة استناداً الى ذاكرة المجتمع الاجتماعية والثقافية والسلوكية في شكل عام ومدى إدراكه للواقع من خلال هذه البيئة ورؤيته للمستقبل.
وأحد المؤشرات المهمة التي يمكن من خلالها المقارنة بين حضارة وأخرى هو التطور المعرفي والأدبيات المرتبطة به سواء كان ذلك في العلوم الطبيعية او في العلوم الاجتماعية. فظهور الثورة العلمية وتطبيقاتها مع الحضارة الغربية الحديثة قد شكل طفرة غير مسبوقة في المناهج العلمية وتطبيقاتها والتي كانت في الأساس امتداداً للأفكار التي كانت موجودة في التجارب السابقة. فنجد، على سبيل المثال، الحضارة اليونانية وفلاسفتها دشنت لبنات أساسية للفكر الإنساني بالمثل صار على هذا النهج فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية والذين تأثروا بالأساس بهؤلاء وأبدعوا في العلوم الطبيعية كالكيمياء والطب والعلوم الاجتماعية. وهذه الحضارات بحكم هذا المعيار كانت متقدمة.
فتفاعلات الواقع الثقافي والمجتمعي للمجتمعات العربية على مدار يزيد على قرنين تظهر ان العقلية العربية اتسمت بالازدواجية والانفصام بين الواقع الموجود عليه التطور الحضاري وبين عقليتها التي غلب عليها الرفض والنفي سواء من طريق مباشر او غير مباشر لما تقدمه العقلية الغربية من فكر وأفكار، الأمر الذي تجلت صورته في شكل أوضح في ظهور تيارات راديكالية ترفض كل ما هو حديث وتجعل مرجعيتها الأساسية ما قدمه السلف. وقد سكنت هذه الازدواجية العقلية العربية نتيجة عدم إدراك سنن التطور البشري ووحدة الحضارة الإنسانية مهما كان الاختلاف في الثقافة من مجتمع إلى آخر. والتي كانت من سننها أن الإنسان تميز عن سائر الكائنات الأخرى ليس فقط أن يحمل حضارته وتراثه الإنساني في ذاكرته بل أيضاً ويضيف إليها من طريق من سبقوه. وتعلمه من الخبرات السابقة لا يعني تقيده بخصوصية كل حضارة عند عملية التعلم والنقل وانما انطلاقته كانت من خلال وحدة الخبرة الإنسانية. ومن هنا فلا ضير من التنوع للبيئات التي نشأت فيها حضارات مختلفة ولكن على ان يكون هناك إدراك مبني على وحدة التجربة وليس فرض الذات بالوعي الزائف. فعملية الإدراك هذه تدلل على وحدة الحضارة الإنسانية حتى مع وجود الاختلاف والتنوع والذي هو بدوره أحد سنن البشرية التي تدفع بتطور الحضارة إلى الأمام. وأبسط دليل على ذلك هل ثمرات الحضارة الحديثة ليست قاصرة في منافعها على أبناء الحضارة الغربية، حيث كل من البشر بحسب قدرته يستطيع الإفادة من ثمراتها على قدر الاختلاف في قدرات الإدراك لدى المتلقي (استخدام الانترنت، الفضائيات، وسائل الموصلات..الخ).. ومن هنا فسنن وحدة الحضارة هذه امر قائم سواء تم نفي ذلك او قبوله والقبول هنا يعني التفاعل والهضم لهذه الخبرات الإنسانية...
والاستطراد حول هذه الجزئية بهدف الإجابة عن التساؤل الآتي: هل ظهر مفهوم القوة في شكل بنائي في الخبرة العربية الإسلامية وما هو الشكل الذي ظهر فيه؟. بمعنى آخر هل كان للمفهوم وجود أو أشكال يمكن الاستدلال عليها من خلال الخبرة العربية الإسلامية في إطارها السياسي والثقافي؟.
عند تناول مفاهيم كالقوة أو السلطة في إطار خبرة الثقافة العربية الإسلامية، فالتوصيف الأساسي لها انها خبرة إنسانية، وان كانت لها خصوصية في كونها عربية إسلامية، الا انها لا تختلف عن الخبرات السابقة لها الا في مقدار ما قدمته للإنسان من قيم وأفكار ساعدت على الارتقاء بإنسانيته.
وهناك الكثير من القضايا التي قد يثيرها تناول دراسة المفاهيم، وبالأخص المفاهيم السياسية. فخبرة الحضارات حتى السابقة على الحضارة الإسلامية سواء الفرعونية أو البابلية واليونانية، كل منها مورست فيها عملية السياسة بطرق وأساليب لم ترتق إلا ما هي عليه الخبرة الغربية الآن. الا انه لا يمكن نفي عدم وجود سلطة سياسية فهي كانت موجودة. فتطور وجود سلطة حاكمة نشأ منذ البدايات الأولى للبشر من خلال القبيلة (شيخ القبيلة) ثم القرية ثم ظهور الدويلات القديمة. ويمكن قياس ذلك على الحضارة المصرية القديمة التي ظهرت فيها السلطة السياسية في شخص الفرعون بل يمكن القول ان آثار الحضارة الفرعونية القديمة تؤكد ان القوة ظهرت في شكل بنائي ليس فقط في مظهرها السياسي وانما في مظاهرها الأخرى، حيث كانت هناك علوم وموسيقى وفنون (علوم التحنيط على سبيل المثل) ما يعنى ان القوة ظهرت بمعناها المرتبط بالمعرفة... وهذا شيء طبيعي لكون أي حضارة هي بالأساس صنيعة العقل البشري. وهذا يؤدي إلى ان تطور المعرفة وتطبيقاتها (القوة) في شكل بنائي، كما حدث في الحضارة الحديثة، لم يكن غائباً عن الحضارات القديمة... وبالمثل فالحضارة الإسلامية مرت بهذه المراحل التي تطورت فيها القوة بأشكالها المختلفة. فقد تطور المفهوم من مراحل بدائية ارتبطت بالقبيلة ثم مع التطور اخذ يعكس الواقع الذي كانت عليه الخلافة الإسلامية. الا أن الإشكالية هنا تكمن في أن عملية الانتقال من القبيلة او مجتمع المدينة في الخبرة الإسلامية أظهرت الازدواجية في قضية العلاقة ما بين الدين والسياسة وما زالت قائمة حتى الآن... فمجتمع المدينة في فترة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو بعد ذلك في فترة حكم الخلفاء الراشدين كانت تمثل المرحلة المثالية في الخبرة الإسلامية السياسية... أما مرحلة الدول التي ظهرت بعد ذلك فكانت قائمة على أسس عكست واقع المجتمعات المبنية على مفهوم العصبية في الحكم مثل: حالة الدولة الأموية أو الدولة العباسية على سبيل المثال. بقيام الدولة الأموية في سنة 41 هـ 661 م والتي كان قيامها فاصلاً بين مرحلتين في تاريخ الخبرة الإسلامية خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا السياسية. فهي فصلت بين المرحلة المثالية (فترة حكم الخلفاء الراشدين) والتي امتدت من بعد موت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحتى موت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والتي كانت ترفع شعار ما يجب أن يكون.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي شهدت الشكل الذي ظهرت فيه السلطة السياسية عبر تجارب مختلفة للخبرة السياسية الإسلامية بدءاً من الدولة الأموية في العصر الأول الهجري ومروراً بالدولة العباسية وغيرها من الدول التي تلتها والتي عكست تنوعاً في التجربة وانتهاء بالخلافة العثمانية التي بدأت عام 1517 م وانتهت في سنة 1924 م مع بداية القرن العشرين. وعلى رغم محاولات التقدم والإخفاق وتعدد مناطق النفوذ السياسي في إطار الخلافة الإسلامية، إلا أنها كانت بالفعل المرحلة التي شهدت ما يعرف بالمرحلة الواقعية كونها فصلت نوعاً ما بين السلطتين الدينية والسياسية، حتى وإن بدا شكل الخليفة جامعاً لهاتين السلطتين.
أما المرحلة الأخيرة فهي المرحلة التي نشأت في أحضان المرحلة الثانية والتي بدأت مع الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798 وبدايات النهضة في المجتمعات العربية وحتى الآن... وهذه المرحلة الأخيرة يمكن ان نطلق عليها مرحلة التشويش وعدم القدرة على إدراك جوهر القاموس الحضاري للتطور، بسبب قد يبدو مرتبطاً بمرحلة التدهور التي شاهدتها هذه المجتمعات في أواخر المرحلة الثانية وشدة التفوق الحضاري الغربي الذي طل على المجتمعات العربية وهي في حالة متخلفة.. هذا فضلاً عن عوامل تشويش موجودة في الثقافة العربية الإسلامية نفسها لم تحسم منذ البدايات الأولى وحتى الآن. كل هذه العوامل قادت إلى حالة من الازدواجية والوعي الزائف بالأنا والآخر... ومن ثم كان طبيعياً ان تكون عوامل الردة والرجوع إلى الخلف هي السائدة اكثر من عوامل التقدم على رغم تناقض المجتمعات العربية في سلوكياتها مع الحضارة الغربية ومخرجاتها.
ومن هنا فالتساؤل يدور بالأساس حول المنهاجية التي يمكن من خلالها دراسة المفاهيم السياسية في الخبرة الإسلامية والتي هي بدورها تراث إنساني قبل أن يكون إسلامياً او عربياً، بحكم التوصيف، كونه يعكس تجربة حضارية من تجارب البشر. حيث على قدر ما كانت لهذه التجربة من إيجابيات كثيرة على قدر ما تواجد بها شأن أي تجربة سلبيات كثيرة، بمعني آخر ليس كل ما ينقله التراث لنا من أفكار صالحاً بالضرورة للوقت الحاضر والعكس. ولكن كيف تتحقق الإفادة وسط هذه الثنائية؟
بداية يجب التفريق بين سنن مرتبطة بالتراث الإنساني والسنن المرتبطة بالزمان والبيئة التي نشأت فيها الحضارة... فالأولى هي ما نطلق عليه السنن المستمرة مع التجربة البشرية عموماً وتقوم على ركيزتين أساسيتين الأولى هي: العقل والثانية: الذاكرة البشرية والقدرة على حفظها لتاريخها حيث في حال وجود تفاعل هاتين الركيزتين تكون هناك ثمرة تختلف في نتائجها عن المدخلات... أما السنن المرتبطة بالبيئية ووقت ظهور التجربة هي سنن مساعدة للسنن المرتبة بالتجربة البشرية... ومن هنا تكمن إشكالية الثقافة العربية الإسلامية في الماضي والحاضر على وجه الخصوص أنها ركزت على سنن البيئة والزمان وأغفلت السنن المرتبطة بوحدة التجربة البشرية.
عزمي عاشور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد