التوحيد الإسلامي وكيفية الرؤية الحضارية للتاريخ
يبقى التاريخ سجلاً لخبرات البشر، ومحاولاتهم الدؤوبة لترقية أنماط عيشهم. غير أنه يستحيل فاعلاً في هذه المحاولات نفسها إذ يتمكن من ترسيخ «رؤى» متمايزة لدى الجماعات البشرية المختلفة إزاء غايات وجودهم على الأرض، ومصيرهم بعد الموت. وعلى رغم أن هذه الرؤى تستلهم مقوماتها من فلسفاتهم وأديانهم وتجاربهم في الماضي، فإنها تصير بالتواتر حاكمة لحركتهم نحو المستقبل، ومن هنا تأتي أهمية الرؤية التاريخية لدى الحضارات المختلفة ومنها الإسلامية التي استلهمت إدراكها للتاريخ من عقيدة التوحيد التي صبغت هذا الإدراك بقسمات ميزته عن مثيله لدى اليهودي والمسيحي والبوذي.
فاليهودية تعكس تشوهاً في رؤيتها للتاريخ بفعل قصورها المبدئي عن إدراك جوهر الإله «يهوه» وخصوصاً وحدانيته المطلقة، وشمول ربوبيته للبشر أجمعين. ذلك أن الرغبة في التجسيد تبقى بمثابة توق لم يتوقف عند بني إسرائيل، حتى وهم لا يزالون في لحظة الانبثاق كجماعة مؤمنة تلقت لتوها النصر العظيم على الفرعون الغارق. فبينما كان موسى عليه السلام لا يزال يتلقى ألواح الشريعة، كانوا يشرعون في عبادة العجل حنيناً إلى التجسيد الذي ألفه العقل البدائي، والحس المادي. ومن ثم كان «يهوه» مشدوداً دوماً إلى الفلك الإنساني، ليس من موقعه العلي المتسامي، ولكن من داخل هذا الفلك البشري وعلاقاته وشروطه. ويحكي سفر التكوين كيف أن يعقوب تمكن عبر مصارعته لله - تعالى شأنه - من الحصول على الوعد بالملك والاختيار، أي بملكية الأرض المقدسة، وتتويج الشعب الإسرائيلي شعباً مختاراً اختصه الله بألوهيته، مقابل أن يختصه بنو إسرائيل بعبوديتهم، فصار يهوه إله بني إسرائيل وحدهم من بين العالمين، وفي المقابل صار بنو إسرائيل شعب يهوه وحده من بين الآلهة، وهنا أضيفت العنصرية للوثنية كآفة مصاحبة لها، بل ومترتبة عليها.
وعلى رغم أن اليهودية، بعد تاريخ ملتبس وعبر مسار متعرج، أخذت تتخلص من آفة الوثنية منذ عصر النبي أشعياء الثاني، والتحرك صوب التوحيد الذي ترسخ لديها بفعل نمو العقل البشري وتأثير الإسلام حتى كانت الصياغة التنزيهية للعقيدة اليهودية من قبل موسى بن ميمون، لم تستطع البراء قط من آفة العنصرية التي جعلت منها ديناً مغلقاً يرفض أتباعه التبشير به ليبقوا، وحدهم، شعب الله المختار لمجرد الميلاد من أصل يهودي. ولا شك في أن هذه الخيرية السابقة على الوجود والفعل والاختيار تحرم الإنسان من حضوره الأخلاقي في التاريخ، إذ تنفي كل قيمة موضوعية لهذا الحضور الذي يصبح مكملاً وعرضياً، على هامش مسار تاريخي تحدد سلفاً، ومن ثم فلا معنى هنا لحرية الإرادة الإنسانية.
وفي سياق هذه الخيرية المدعاة، عاش اليهودي تاريخه كله بإحساس ملتبس، ففي ردح من الزمن بدا «متعالياً» بها، حتى إذا ما دالت دولته وجدناه يحيا «آسفاً» عليها إذ يجد نفسه «عادياً» في التاريخ منذ أن سبى البابليون أجداده، وفتك بهم الرومان، وخصوصاً منذ جاء المسيح إلى الأرض نبياً للرحمة لا القتال رافضاً أن يكون ملكاً مقدساً لهم، فاتحاً شريعة موسى ودين الرب لجميع الأغيار/ الأمم، مانحاً الخيرية الحقة لكل المؤمنين المنتمين لإبراهيم بالروح لا الجسد، وبالعقيدة لا العرق. ومن لحظتها لم يعد اليهودي يرى في التاريخ سوى لص قام بسرقته، فعاش من أجل الثأر، منتظراً عودة المسيح إلى الأرض المقدسة مسترداً له خيريته التي لا يستطيع رؤية الزمن إلا من خلالها إما احتفاء بحضورها، أو حسرة على غيابها.
وفي المسيحية، نجد صورة أكثر ضعفاً وذبولاً لدور الإنسان وموقعه في الوجود، قياساً إلى حضور الإنسان في اليهودية، وذلك لأمرين أساسيين. أولهما الطابع المفرط في المثالية وتسود فيه مبادئ الزهد واللاعنف والامتناع عن مقاومة الشر، إذ تنبذ المسيحية الأولى أي توجه لتغيير العالم الخارجي نحو الأفضل، وتنظر إليه على أنه نوع من خداع النفس لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركاً خلفه عالمنا الخاوي، الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، أن يهيمن عليه أو يتورط فيه! وتصوغ الأناجيل الأربعة، في عمومها، سيكولوجية رافضة للانشغال بالعالم الدنيوي: «لا تقلق على حياتك فتقول ماذا ستأكل وماذا ستشرب» (متى، 6: 31)، وأيضاً غير مهمومة بحركة التاريخ: «سمعتم أنه قيل: أحبب صاحبك، وأبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وصلَّوا من أجل الذين يضطهدونكم» (متى، 5: 43 ـ 44). وإذ تسير هذه المطالب ضد المنطق العملي للحياة الدنيا، فلا يمكن فهمها إلا في ضوء التبشير بعالم آخر، كما قال المسيح: «مملكتي ليست في هذا العالم» (يوحنا، 18: 36).
وثانيهما شيوع فكرة الخطيئة الأولى، فعلى العكس من اليهودي لم يأت المسيحي إلى العالم مختاراً، بل محملاً بخطيئة آدم التي ربطت الكنيسة، منذ بولس، بينها وبين قضاء الموت عليه وعلى أبنائه، ومن لم يربط بين الخطيئة وقضاء الموت جعل الهلاك الروحي قضاء محتوماً بديلا من موت الجسد. ومن ثم فلا يوجد طريق فردي إلى الخلاص الروحي لدى المسيحي «التقليدي» بل لا بد من تدخل قوة خارجية تحمل عنه الوزر وتمنحه الشفاعة. هذه القوة ليست إلا الكنيسة التي لا مرد لسلطانها كوكيل المسيح على الأرض، وراعية الإيمان، فلا إيمان من دون رعايتها ووساطتها ورقابتها، حتى أن فتنة كبرى قد ثارت عندما نادى دوناتيس أسقف قرطاجنة في القرن الرابع الميلادي، بضرورة التيقن من صلاح القساوسة وحسن سيرهم كشرط لسلطان الكنيسة على الإيمان، إذ أكدت الكنيسة الكاثوليكية استمرار تسلط القساوسة بغض النظر عن صلاحهم أو فسادهم الشخصي، لأن سلطتهم ترجع إليها ذاتها، فلا يسقطها فساد القائمين عليها! ومن ثم فإن المسيحية «التقليدية» منحت المؤمن بها شعوراً بالعجز عن التأثير في التاريخ، وصبغت روحه بطابع سلبي، تشاؤمي، انسحابي.
وإزاء الطبيعة اللا تاريخية للمسيحية التقليدية التي صاغت العصور الوسطى، جاء انسحابها تدريجياً ودموياً - إثر اختزالات علمية وفكرية عدة استمرت عبر قرون النهضة والإصلاح الديني، والتنوير - من بؤرة التاريخ الغربي إلى هامشه تاركة موقعها الإنسان/ العقل الحديث الذي ادعى احتلال موقع الله في الكون وأخذ ينشر دينه المدني/ العقلي الجديد الذي أنتجته تجربة الحداثة وحاولت فرضه كنموذج عالمي، يبشر بالدنيوية، وينتهج المادية المفرطة، ويعتنق الرأسمالية المتوحشة، كما يحتل الشعوب ويقمعها بدعاوى عنصرية ومقولات استعلائية لا تنتمي، ولو من بعيد، إلى ذلك التبشير الروحي العظيم للمسيح.
وهكذا يعيش المسيحي «المؤمن» بشخصية مزدوجة أو في عالمين منفصلين لا يربط بينهما رباط... المثل الأعلى الروحي المنشود، ولكن المرتبط بالخطيئة الأصلية المكبلة للإرادة الإنسانية، حيث لا مكان للتاريخ من ناحية. والواقع الدنيوي الصعب، الذي انفلتت فيه الإرادة إلى حد الطغيان، بحجة السيطرة على التاريخ من ناحية أخرى. هذان الخطان يسيران في الاتجاه نفسه متجاورين ولكن على غير اتصال، ومن ثم فالمسيحي المؤمن مطالب بالاختيار من بين شرين، فإما امتلاك التاريخ وفقدان الإيمان، وإما تجسيد الإيمان والنفي من التاريخ! ولا أمل في أن يتلاقى الخطان إلا بعودة المخلص في آخر الزمان، ففي العقيدة الألفية وحدها، وعبر ألف عام ممتدة، يمكن للملكوت الأرضي أن يخلو من الألم، وأن يحقق السعادة للإنسان، ومن ثم فالتاريخ الحقيقي لدى المسيحي المؤمن يفترض أنه لم يبدأ بعد!
وفي البوذية لا يأبه المؤمن بالتاريخ ولا يحس بوجوده لأن التاريخ هو ما سجله البشر من أعمال في عالم المادة والحس. أما البوذي فمشغول أبداً بعالم الروح واللانهاية، وكل شيء في عالم الفناء المحدود لا قيمة له عنده، ولا طريقة للتعامل معه سوى «النرفانا» و «اليوغا». فالبوذي يهدف إلى الاندماج في الكون، والذوبان في الوجود كي لا يبقى من ذاته المتميزة أثر، لأنه يؤمن بأن الوجود وحدة واحدة، وأنه لا يعدو كونه جزءاً منه انفصل عنه في لحظة سابقة، ولا يبغي، منذ انفصاله سوى العودة إليه، فعندئذ فقط، أي عندما يعود الجزء إلى الكل، تتحقق له غاية وجوده وهي الفناء في الكائن الواحد القدسي الذي هو فوق الجميع، وتلك هي «النرفانا».
وبهذه النفس الغائبة عن فرديتها، الذاهلة عن كل ما يحيط بها في المكان والزمان، ترتفع الروح إلى ما يشبه الاتحاد الصوفي بالكائن القدسي. وتنتفي لدى البوذي قيمة الجسد الإنساني، فلا تصير له أهمية في ذاته لأنه جزء من عالم المادة الفاني، وتنبع قيمته فقط من كونه وعاء لروحه الخالدة، ومن ثم لا يتوانى عن محاولة قهره وقمع شهواته ليكف عن الإلحاح برغباته التي تطمس نقاء الروح الإنساني. ولأن الجسد الإنساني برغباته ونوازعه واحتياجاته هو أحد أهم دوافع الفعل والإرادة والسلوك لدى مجموع البشر، فإن محاولة قمعه على هذا النحو تؤدي إلى تعطيل الإرادة الإنسانية، ووأد ملكاتها وقدرتها على التأثير، وتلك هي «اليوغا».
وإذ تبدو البوذية مساراً للاندماج في الكون يذيب الوجود الفردي عبر «النرفانا»، وطرقاً لرياضة النفس والتحلي بالزهد من خلال «اليوغا»، فإنها تصبح طريقاً للخلاص من التاريخ، لا الفعل فيه، ومن ثم فالتاريخ بالنسبة إلى البوذي شيء ساقط من الحساب، لأنه خارج حدود الوعي والإرادة.
وأما الإسلام، فيقدم للإنسان صورة بالغة الحيوية، عبر صورة بالغة السمو لـ «الألوهية»، وصورة بالغة الإنسانية لـ «النبوة» تتفق ونضج العقل البشري في التاريخ. فالمسلم لا يتمتع مسبقاً بأي نوع من الخيرية الزائفة كاليهودي، لأن الإسلام دين إنساني وفكرة التفضيل السابقة على الوجود لأي فرد أو شعب أو جنس لا تعدو نوعاً من العنصرية المقيتة. ولكنه، في المقابل، مولود بغير خطيئة أصلية تثقل كاهله ولا يوجد لديه أي شعور بالإثم أو الدونية كالمسيحي.
وفي مقابل رفضه الخطيئة الأولى، يرفض الإسلام فكرة «المخلص»، ويعد الزعم الديني بأن المسيح كان الحَمل الذي ضحى بنفسه لخلاص العالم تجديفاً وزندقة، إذ إن طريق المسلم إلى الخلاص من الشرور وإدراك النعيم الأخروي، ليسا إلا إيمانه الحر. ويترتب على ذلك أن صارت عبادة المسلم فردية بالأساس، متحررة من أي طقوس جماعية، فلا يحتاج إلى وساطة من أحد، ومن ثم تحررت إرادته من كل هيمنة سلطوية، فلم يعرف الإسلام الكهنوت، ورجل الدين فيه ليس إلا فقيهاً وداعياً إلى الله بالحكمة، ولكنه لا يملك على المسلم أي سلطة ولا يمثل أي نوع من الرقابة على إيمانه، كما أنه غير معصوم من الخطأ كعصمة البابا في الكاثوليكية، بل محتمل وقوعه في الخطأ، وهو على رغم ذلك مدعو إلى الاجتهاد وله الأجر حتى لو أخطأ، ولكن الأجر يتضاعف فيما لو أصاب ليكون في ذلك دافعاً للاستزادة من المعرفة.
ومن ثم فإن المسلم يحس إحساساً جاداً بالتاريخ، فهو يؤمن بإمكان تحقيق ملكوت الله على الأرض، وبأن الله وضع نظاماً عملياً واقعياً صاغ قواعده في سنن تاريخية ومجتمعية، وضمَّنه «بنود عهد الاستخلاف» ليسير البشر في الأرض على مقتضاه ويحاولون صوغ واقعهم في إطاره لأنه قابل للتحقيق، ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك. وهكذا يصبح التاريخ، حقاً، في نظر المسلم هو سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض، وتتكامل له أبعاده الثلاثة في علاقة جدلية واضحة وراسخة، فالحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل ينهض على ما نقوم به في الحاضر، فإذا كان ثمة مصاعب أو أخطاء نعانيها اليوم فمن الممكن تلافيها غداً لأنها ليست قدراً محتوماً بل هي محصلة تفاعل إرادتنا التي نملكها، مع التاريخ الذي لم ينته بعد، والذي يبقى في نظر المسلم فضاءً للأمل في غد أفضل مهما كان اليوم شاقاً أو عسيراً. ولعل ذلك يفسر لنا ما يملكه المسلم من شعور بالثقة حتى وهو في أسوأ لحظاته، وحضور الإسلام في مواجهة كل عدوان تاريخي على حضارته وبلدانه، كما يبرر قول أحد المستشرقين عنه «انه دين مذكر»، قاصداً، كونه ديناً شاملاً يشعر بأن من واجبه، وفي إمكانه التأثير في حركة التاريخ وصناعة ملكوت الله هنا، وعلى هذه الأرض، بدلاً من انتظاره الخجول في السماء!
وعلى هذا النحو، وبينما نجد اليهودي يفهم الماضي على أنه ميزة خصوصاً ان الحاضر اختطفها منه جهلاً وعدواناً وأن المستقبل لا بد وأن يعيدها إليه مع عودة رمز الاختيار والتفضيل في نهاية الزمن، وبالتالي ضرورة الانتظار والتقوقع ثم الملل والعدوانية. وبينما المسيحي «التقليدي» يضطرب بين حاضرين متناقضين لا تتسق رغباته مع قدراته نحوهما. وبينما البوذي يتجاوز الماضي ويتناسى الحاضر بحقائقه الواقعية قصداً إلى تهاويم روحية في عالم اللانهاية، نجد الفهم الإسلامي «القرآني» للتاريخ تعبيراً عن ترابط واتساق أبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل على نحو يجعل الفعل الإنساني مسؤولية، بقدر ما أن الإرادة الإنسانية حرة. ومن التوازن بين الإرادة والحرية يكتسب التاريخ معناه وتتدفق إيقاعاته في انتظام وفي تراتب عميق.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد