التَّدين الحافي والفهلوي وضرورة الإصلاح الدّيني
عندما نتأمَّل بعقليَّة المهتم والباحث السّياقات التَّاريخيَّة والاجتماعيَّة والسّياسيَّة والثَّقافيَّة الفكريَّة للمجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة فإنّنا ﻻنستطيع لأسباب علميَّة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا قبول تسمية الجماعات والحركات الإسلاميّة بجماعات "الإسلام السياسي" أنّها تمارس كفرق مذهبيَّة طائفيَّة شكلا إيديولوجيا متخلّفا من التَّدين الإسلامي الَّذي ﻻيمكن أن يعبّر أو يحتكر بشكل مشروع في صورته الأحادية المتصلّبة والمغلقة الإقصائيّة التَّنوع والتّعدد والاختلاف الَّذي عرفه الدّين الإسلامي في صيرورته التَّاريخيَّة واﻻجتماعيَّة والثَّقافيَّة. وبتعبير أدقّ هي بعيدة كلّ البعد عن الممارسة السّياسيَّة الفكريَّة الَّتي تؤسّسها الأطر المعرفيَّة الاجتماعيَّة المنتجة للتَّفكير والفكر والتَّراكم المعرفي. بمعنى أنَّها تفتقر بشكل مدقع للخلفيات الفلسفيَّة والمعرفيَّة والفكريَّة السّياسيَّة، إنّها في مستوى ما دون الفكر عموما والفكر السّياسي خصوصا، أي ذلك الفكر المبدع الخلاق المواكب للفعل المجتمعي الفاعل في التَّجديد والبناء وفي الاستعداد للتَّغيير القادم في منطق تطوّر حركة التَّاريخ. فنحن نلاحظ بأنَّ هذه الجماعات تتوفّر على إمكانيات ماديّة ورمزيّة، مثلا على مستوى الكتب الرَّخيصة المنتشرة بصورة مهولة إلى جانب نشاطها على مستوى تكنولوجيا الإعلام والاتّصال والوسائط الاجتماعيَّة التَّقليديَّة والحديثة، بالإضافة إلى سيطرتها تنظيميا على الفعل المجتمعي اليومي، دون أن يعني هذا أنّ لها القدرة الفكريّة والثّقافيّة والقوّة الإقناعيَّة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لما يطمح ويتطلّع إليه النّاس كبديل لكلّ ما هو سائد ومفروض كأمر واقع. إنّها لا تمثّل مشروعا مجتمعيا راهنا يستجيب لمتطلبات ومقتضيات العصر، وبما يجعل الشّعب يفكّر عالميا ويتصرّف محليا حتَّى على مستوى التَّدين المتحرّر من المسلّمات الفقهيَّة في التَّقليد كاجتهاد بشري، ومن القواعد العقليَّة للتَّنميط العقلاني للدّين في سدّ تلك القواعد للأفق الابستمولوجي للخيال الخلاَّق في الرُّوحانيات المثرية لمجهولات العقل الإيديولوجي الأداتي، وذلك انطلاقا من الشَّرط الحضاري الإنساني: في الحريَّة والديمقراطيَّة والكرامة، وفي كلّ ما يهمّ تطوّر الانتظام الاجتماعي الإنساني، وفي العلم والتكنولوجيا، وفي المقاربات والمنهجيات الحديثة، والقيم الإنسانيَّة الكونيَّة...
هذه الجماعات الإسلاميَّة تمثّل تدينا سطحيا متخلّفا ليس بالمعنى القدحي الأخلاقي، بل المعرفي الرُّوحي الَّذي يجعل الإنسان فوق أي اعتبار. وابتعادها وتناقضها مع هذا الأفق هو الَّذي يجعلها في عداء صريح للقيمة الإنسانيَّة في صورتها الشَّاملة للنَّوع البشري عبر العالم، وما يجعلها في الوقت نفسه في حقد وكره وعداء للسّياسي والممارسة السّياسيَّة، بما هي تعبير عن حقّ البشر في السّيادة والحريَّة والعدالة والكرامة، وصنع الرَّاهن وتقرير المصير وبناء المشترك المحلي والعالمي.
لهذا نرى بأنَّ هذه الجماعات في تدينها كفعل إيديولوجي توجد في موقع ما تحت خط الفقر الفكري السّياسي، أي تعاني من فقر الدَّم السّياسي والثَّقافي التَّاريخي الاجتماعي. لذلك يصحّ القول فيها أنَّها تمثل الإسلام الحافي، ونحن نستعير في هذا الدَّلالات العميقة لرواية محمد شكري "الخبز الحافي" حيث لا أفق سوى لذكاء القفازة والشَّطارة والفهلوة، وهي الخصائص الفكريَّة والمعنويَّة الَّتي تجمعها الاستعارة الشَّعبيَّة المكرّسة في عبارة " أولاد الحرام" بما يتجاوز المعاني البسيطة في القدح الأخلاقي ليفيد التَّرجمة الدَّقيقة لـLe sacré
ففيه الحرام الخبيث المدنَّس والحرام الجميل المقدَّس. فهم غير مهتمين بالمقدَّس إلَّا لتبيض ريعهم الدّنيوي المدنَّس من خلال آليات الشَّطارة والفهلوة.
لكن إذا كانت حقًّا هذه الجماعات الإسلاميَّة ليست أكثر من فرقة دينيَّة، أو بتعبير أدقّ شكلا تديني لممارسة إيديولوجيَّة دنيويَّة متخلّفة بالمعنى الحافي الَّذي أشرنا إليه سابقا، ليس فقط في خلق الوهم والتَّضليل، بل أيضا في التَّشويه والتَّحايل، باستعمال كلّ الوسائل والأساليب اللاَّأخلاقيَّة كالكذب والغشّ والخداع والنّفاق الدّيني والاجتماعي، وفي الانشطار الوجداني والازدواج الشَّخصي في التَّستر على خبث الفعل والسُّلوك والتَّصرُّف والمعاملة بمظهر اللّباس وقناع الوجه وحسن القول وحلاوة اللّسان، قلت لكن ما الَّذي يجعل هذه الممارسة الاجتماعيَّة للإسلام الحافي الفهلوي رغم هشاشته المعرفيَّة والرُّوحيَّة أكثر حضورا وسطوة على الإسلام في صيغة الجمع كتنوّع وتعدُّد واختلاف، وهي ليست أكثر من مفرد اعتقادي لسانه على قشور الدّين وقلبه وعينه على دنيا غنيمة السُّلطة لا تنام؟ وما الَّذي يجعل من الإصلاح الدّيني ضرورة فكريَّة سياسيَّة اجتماعيَّة، وإن كان مشروعا مجتمعيا صعبا، أو مستحيل التَّحقيق؟
أوَّلا: في الجذور التَّاريخيَّة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة السّياسيَّة للإسلام الحافي
غالبا ما ارتبط الإسلام الحافي الفهلوي عبر التَّاريخ الإسلامي بالسُّلطة السّياسيَّة المتسلّطة والاستبداديَّة الَّتي وصلت أحيانا إلى درجة الطّغيان، بإنكار القيمة والكينونة الإنسانيَّة للأفراد والجماعات، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، الَّتي تعيش تحت سلطتها القهريَّة. أي أنّ هذا النّوع من الاعتقاد الَّذي تمارسه هذه الفرقة وما تنتجه من تصوّرات ومعتقدات كعقائد دينيَّة هو جزء عضوي من بنية السُّلطة في مصالحها الماديّة والرَّمزيَّة، ومن موقعها هذا تخوض صراعا تاريخي اجتماعي سياسي بأدوات العنف والإرهاب والقمع المادي والإيديولوجي الدّيني. ولأنّها لا تملك قوَّة الفكر ومنطق حجته وبرهانه، فهي تمارس الإخضاع والخنوع والطَّاعة والاستسلام، ولا تعرف سبيلا إلى الحوار والإقناع. وما يجمع السُّلطة القهريَّة وهذه الفرقة الَّتي تحتكر الإسلام في شكل ممارستها لقناع التَّدين هو مصالح دنيويَّة في السّيطرة والهيمنة باعتماد آلية الهدر كما بين ذلك مصطفى حجازي في كتابه "الإنسان المهدور" وهو يتحدَّث عن بنية الاستبداد والعصبيات والأصوليات: هدر الحياة، هدر السّياسة، هدر الفكر...
فالإسلام الحافي الفهلوي هو إسلام السلطة العارية سياسيا ومعرفيا واجتماعيا والبعيدة كليا عن مفهوم المدينة والتمدن في ابسط معانيه التي تأخذ مصالح الانتظام الاجتماعي الإنساني بعين الاعتبار. إن هذه الجماعات سواء كانت متحالفة مع السلطة القهرية او في صراع معها من اجل احتلال موقع الهيمنة في السيطرة الاجتماعية السياسية على جهاز الدولة كأداة للاحتكار والتصفية والإقصاء والقمع والهيمنة السياسية والثقافية من خلال الجهل المقدس الذي هو الشكل الايديولوجي للإسلام الحافي الفهلوي، من أبسط ممارسته الفقهية كخرافة وشعوذة وتحايل على العقل البشري باستغلال المعتقد الإيماني للناس في الحياة اليومية وتكريس الجهل المقدس والمؤسس في ثقافة الحس المشترك خدمة للمصالح الدنيوية وتأبيدا لسلطتها،إلى تجفيف ينابيع الفكر العقلاني النقدي الذي ينطلق من قلق الشك والسؤال خدمة للتراكم المعرفي والتقدم الاجتماعي، إشعاعا لنور القلب والعقل والقيم الإنسانية، بالإضافة إلى انها تحرم الجدل والسؤال كأدوات للرفض والتمرد والتغيير، و لتأسيس حرية الإنسان في مسؤولية لتشكيل وعيه ومعارفه، وصناعة حياته ومصيره بعيدا عن قدره المزعوم. فإنها تعبر عن تحالف التحريم الديني الفهلوي مع التجريم السياسي للاستبداد سلطة القهر والطغيان.
هذه الجماعات الإسلامية تكره الفعل الثقافي السياسي الذي يؤسس وجود المجال العام الذي يسمح بالتنوع والتعدد والاختلاف في تناول كل ما يهم المجال العام كشأن اجتماعي سياسي ثقافي. لذلك فان ممارستها التدينية تستهدف هدر السياسية والفكر والوعي لمعاودة انتاج العلاقات الاجتماعية الثقافية التي تبرر وتشرعن الاستبداد والتسلط، بواسطة قيم ثقافية اجتماعية مقدسة لها منطق الغفلة والشطارة والفهلوة وذكاء التدليس والتلبيس وحل كل التناقضات المادية والرمزية من خلال العقل الفقهي التخريجي الذي يعتمد العقل و آلياته العقلية في التحايل على نفسه والتهام وجوده في الحياة المجتمعية، كعقل ثقافي اجتماعي سياسي أخلاقي، حيث لا يستطيع عقل هذه الجماعات ان يكون إلا من خلال إقصاء أو اغتيال العقل كمعرفة وفكر ووعي وقواعد للتفكير المنطقي العقلاني و النقدي.
جذور هذا الإسلام الحافي مرتبطة بالسيرورات التاريخية الاجتماعية السياسية للصراع حول السلطة ليس بالمعنى الحضاري الأخلاقي السياسي، بل بمعنى الفتن والحروب الداخلية، فهي لا تستطيع الحضور كفئات مجتمعية من خلال جدلية الامتداد والتمركز بما يفيد البناء الاجتماعي السياسي للمجتمع والدولة ومؤسساتها، والإنتاج المادي والفكري الثقافي، بل من خلال اقتصاد غنيمة الريع التي تنشر التقهقر والانحطاط والتجزيء الاجتماعي والسياسي، والتصحر الثقافي والرمزي. لذلك فهي لا تعرف غير المنع والتكفير و العنف والإقصاء إلى درجة القتل الوحشي. وهذا ما يجعل تدينها الثقافي الايديولوجي وحشيا عاريا حافيا من أي حس ثقافي إنساني. لذلك لا غرابة في ان تعيش هذه الجماعات رغم قوتها التنظيمية في غربة داخل مجتمعاتها وعبر العالم، مع إدانة شاملة لوحشيتها،لأنها تحمل في أعماقها هوية ازدواجية قاتلة بين القول والفعل، بين القيم والممارسة، لهذا من الطبيعي أن تنتشر فضائحها الاجتماعية والأخلاقية عبر شبكات التواصل الاجتماعي كما حدث مؤخرا في المغرب في خلوة الشاطئ تيمنا بحديث ابن تيمية : جنتي تحت حزامي، وشاطئي خلوتي وأنا في سياحة...
ونلاحظ أيضا هذه الازدواجية بين الواقع الاجتماعي الحي واستيهامات المتخيل الإسلامي كسردية الطاقية، أحادية، وثوقية، لا مجال فيها للنسبية والتاريخ، فكيف لها أن تسمى بالإسلام السياسي، وإن كانت التسمية يراد بها سطوة وشهوة الغلة والسلطة، ونزوة التسلط؟
ومع ذلك مازال السؤال يطاردنا ويفرض نفسه باستمرار: فإذا كانت طبيعتها هذه، حيث لا مضمون معرفي اجتماعي سياسي قوي يسند ويدعم سطوتها واحتكارها للإسلام المتعدد، وتواصلها كعملية حرق للمدونات الأخرى، حيث لا تكف عن تكرار عملية الحرق والإلغاء لوجهات نظر مختلفة، ولأصوات متنوعة متعددة، ولمشاريع فكرية ثقافية، واكتساحها للمجال العام المجتمعي قصد تدميره وليس بنائه، فلماذا لها هذا الحضور في التواطؤ الذاتي النفسي والاجتماعي الثقافي كاستلاب عقائدي يحول بين المسلم ومعتقده الإيماني في نمائه وثرائه الحضاري الإنساني، بما ينفع حياته الاجتماعية التاريخية، و تصوراته ومعتقداته،في أفق انفتاحها كتركيب إيماني لا يقلل من قيمة الأديان الأخرى كتطور لما دشنه النص الديني في سياقات قراءته الحوارية للحقل والمجال الديني المتنوع والمتعدد السائد وقتئذ، لضرورات ورشات التأسيس للدين الجديد؟
إنّ السر في ذلك يكمن في الانحطاط العام للمجتمعات العربية والإسلامية الذي يسمح للإسلام الفهلوي بالسحب من الموروث الديني والثقافي للفرقة التي أحرقت رمزيا وماديا الكثير من التنوع والتعدد والاختلاف الفكري والسياسي الإسلامي الذي بلورته الكثير من الأقلام العقلانية المتنورة، وهي تحاول تجسيد مفهوم التركيب المؤسس لرؤية النص الديني في مجادلته ومحاورته للأديان الأخرى انطلاقا من الإطار الثقافي الاجتماعي الديني السائد. أنجزت ذلك هذه الأقلام المتنورة بالتفاعل مع الواقع الحضاري للشعوب الأخرى، من خلال الانفتاح على الأديان الأخرى، و الاتصال بالتراث الفكري والفلسفي للفرس واليونان...
فبناء على هذا التغلب التاريخي السلطوي الأحادي والقهري والمتطاول مع القرون ساد الإسلام الحافي الفهلوي، وتشكل كشفرة وراثية نفسية اجتماعية ثقافية وكلاشعور ديني معرفي واجتماعي، إلى درجة ادعائه تمثيل البعد الطبيعي الفطري للمسلم الذي عليه أن يتمسك به ويرقى إلى تجسيده كنموذج للمسلم الأعلى الذي لا يكف عن إرهاقه بمتطلبات جهنمية تفرض عليه عبودية الخنوع والسحق التام لإنسانيته بتحويله وحشا بشريا. وفي هذا المعطى الذي نشير إليه كتحليل موضوعي، هو ما أضاءته بشكل رائع الكثير من الكتابات النقدية التاريخية والسوسيولوجية والنفسية الاجتماعية...وعلى رأسها هنا كتابات محمد أركون التي حللت بشكل جميل هذا العمق للإسلام الفهلوي في اتكائه التاريخي على الجهل المقدس والمؤسس، من خلال تطاوله في الزمان عبر قرون التخلف والانحطاط. كما أضاءته الكتابات النفسية لمصطفى صفوان وفتحي بن سلامة وعدنان حب الله ومصطفى حجازي. فمع التطاول في الزمان تشربت المجتمعات العربية والإسلامية هذا الإسلام الحافي الفهلوي في صمائمها النفسية الأولية كحقيقة دينية مقدسة اطلاقية من عند الله، وهي في حقيقتها التاريخية الاجتماعية مجرد عقائد لفرقة دينية اعتبرت نفسها ناجية وحرقت بشكل أو بأخر ليس فقط التنوع والتعدد والاختلاف بل العوامل والشروط الموضوعية للاستمرار الحضاري الإنساني، والحضور الفاعل في الانفتاح على العالم من خلال جدل الأخذ والعطاء، وجدل المثاقفة المتسامحة مع نفسها، أي لا وجود لأخر غريب في الداخل، ومع الآخر في الخارج من منطلق جدل التكامل، و أن لا ثوابت تحكم رؤيتنا للآخر، وان ما قيل في القرون الأولى دينيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا... لقد وقعت فيه وعليه تحولات كثيرة تستلزم في كل مرحلة تاريخية تغيير المنظور وبناء الاستيعاب على مفهوم التركيب كرؤية ابستمولوجية فلسفية لها إرهاص خصائص معنوية وفكرية كامنة في أسئلة ورشات النص الديني. بمعنى أن نشوء الحضارات واستمرارها وتطورها يتطلب شمولية واسعة في احتضان العالم، بما يؤسس لقيم اجتماعية وثقافية جديدة تتجاوز الانتظام الاجتماعي السابق على المراتب التقليدية بين الرجل والمرأة، وبين الحر والعبد، وبين المسلم والديانات الأخرى، أو بين المؤمن والكافر... أو في الزكاة والحج...
ثانيا في ضرورة الإصلاح الديني
أشرت سابقا إلى الظُّروف والشُّروط الموضوعيَّة الَّتي عملت على تكريس تأبيد وديمومة الإسلام الحافي، إلاَّ أنَّ من بين الأسباب الَّتي ساعدت على انتشار هذا التَّخلُّف في فهم وقراءة وتأويل الدّين هو غياب مشروع اجتماعي سياسي فكري يأخذ على عاتقه مهمّة التَّغيير برؤية وصورة شاملة تستحضر الدّين كبراديغم اعتقادي ثقافي حاضر بقوَّة في المتخيل الرَّمزي الاجتماعي في رؤية الإنسان للذَّات والآخرين والعالم، كأسلوب حياة ونمط وجود وطريقة في التَّفكير والسُّلوك. بمعنى أنَّ رؤية الإصلاح والتَّنوير ينبغي أن تأخذ براديغم الدّين لمواجهة ومجابهة التَّدين الحافي الفهلوي الَّذي يجهد بشكل محموم لإخفاء حقيقة عريه القيمي الدّيني والأخلاقي الإنساني، كجثث دنيويَّة علمانيَّة تعيش حياتها على آخر موضة في التَّجهيزات الحديثة بالأقنعة الدينيَّة، كالحجاب، وفي الحضور في المجال العام الاجتماعي اليومي بلباس نمطي متشابه، ووجوه متماثلة مقنعة بفهم ساذج للدّين، تعبيرا عن إزدواجيّة كامنة في الأعماق. بالإضافة إلى الفساد الاجتماعي السّياسي، من خلال نشر ثقافة العبوديَّة والخنوع والطَّاعة والتَّبعيَّة والرّعب والكراهية بين مكوّنات المجتمع، خاصّة ضدّ المرأة، وفي الانتصار للغة القهر والاستعباد والتَّجهيل والتَّفقير...
إنَّ التَّقليل من شأن هذا البراديغم بدعوى التَّنوير العلماني هو في حدّ ذاته رؤية أحادية سلفيَّة لوجوه وأبعاد التَّنوير في شموليته الاجتماعيَّة والسّياسيَّة الفكريَّة والدينيَّة في طرح وممارسة قيم دينيَّة بديلة للإسلام الفهلوي الَّذي لا يمكن أن يكون إلاَّ إرهابيا رمزيا في أبسط تجلياته، وإرهابيا وحشيا في ماديته المباشرة، أو عبر الإعلام البصري بمختلف أشكاله التَّواصليَّة والفضائيَّة. لذلك ينبغي للإصلاح الدّيني أن يؤسّس وجوده المباشر الحيّ، بإبداع أشكال جديدة للفعل الأخلاقي المعرفي التَّواصلي، بالمعنى الَّذي يطرحه هابرماس ومحمّد الحدَّاد، في العلاقات الاجتماعيَّة مع النَّاس لتأسيس المشترك، بدل الاستعلاء والابتعاد، أو احتقار الشُّعوب في تصوّراتها ومعتقداتها طريقة تفكيرها، وفي كيفيّة تصريف تمثلاتها الدينيَّة. " إنّ حياة المجتمعات غير حياة الأفراد: هبّ أنَّ الفرد يمكن أن يكون وليد يومه لا غير، أفليس المجتمع أثقل على التّكيف مع المستحدث، فلا يتغيّر إلاَّ في ظلّ حلول يحفظ فيها توازن الوجدان والذَّاكرة؟ إنّ كلّ محاولة للقفز عن المراحل تؤدّي إلى توسيع الهوّة بين الأفراد الَّذين يدعون إلى التَّغيير والشَّرائح الاجتماعيّة الَّتي ستقطع حبل التَّواصل معهم إذا تكلموا بلغة بعيدة جدّا عن معتادهم، وطرحوا قضايا لا يتبيّن بوضوح علاقتها بواقعهم ومعاشهم."( محمّد الحداد)
وذلك بإعادة النَّظر في البارديغم الدّيني، على المستوى التَّربوي والإعلامي، وإدخال برامج ذات مضامين اجتماعيََّة وثقافيَّة وتربويَّة جديدة لوظائف المساجد، ومختلف مجالات التَّدين، عوض جعلها وقفا للإسلام الحافي الفهلوي. دون أن ينسى الإصلاح الدّيني في سياق هذه الرُّؤية أنّ الكثير من الممارسات والتَّصوُّرات والمعتقدات التدينيَّة تحتاج إلى سرديات بديلة انطلاقا من استثمار الكثير من المكتسبات التَّأصيليَّة الَّتي أنجزتها الكثير من الأقلام الحديثة والمعاصرة ذات النَّزعة العلميَّة والعقليَّة والنَّقديَّة من داخل الفكر الإسلامي، على مستوى الإيمان والمصالح والإحسان، مثلا في توسيع مفهوم الإيمان كاقتدار معرفي واجتماعي ديني يرحب بالتَّنوُّع والتَّعدُّد والاختلاف، بما يسمح بحريَّة المعتقد في تجاوز للمذهبيَّة والطَّائفيَّة والتَّصنيفات الدينيَّة. وأيضا على مستوى التَّعبير عن قيم جديدة تتمظهر بصورة أو بأخرى في وعي النَّاس كتعبيرات ثقافيَّة اجتماعيَّة شعبيَّة تحتاج إلى فاعلين اجتماعيين لهم فكر إصلاحي مؤسّس على العلم والمعرفة في نقد ونقض للجهل المقدَّس، وفهلوة الشَّطارة والتَّدليس والعقليَّة التَّخريجيَّة. كما ينبغي لهذه الرُّؤية الإصلاحيَّة أن تنعكس في سلوكات مدنية تفكّر في بناء المدارس والمستشفيات كبيوت لله، لفعل الخير والتَّقرب إلى الله أسوة بالمساجد الَّتي تحتضن قيم معرفيَّة وتربويَّة، ووظائف الدّين البديل، بمضامين إيمانيَّة ثقافيَّة تتجاوز محدوديَّة السَّقف الاختزالي للإيمان والتَّعبد، والشَّيء نفسه فيما يخصّ الحجّ والزَّكاة وعيد الأضحى...بتقوية روح الإيمان الحقيقي لما فيه مصلحة وخير للإنسان والإنسانيَّة.
ولا يمكن لكلّ هذا أن يكون له معنى ووقائع في الواقع الحيّ إذا لم تطرح بجرأة وبصوت عال قضيّة المرأة كذات حرَّة مستقلّة منتجة وفاعلة في الديناميَّة المجتمعيَّة للإصلاح الدّيني في التَّأسيس لعلاقات اجتماعيَّة نقيضة لما سيده الجهل المقدَّس والمؤسّس للإسلام الفهلوي. لأنَّ واقعا مجتمعيا جديدا تحترم فيه إنسانيَّة المرأة وكرامتها يعني اختراق وهدم كلّ قيم التَّقليد المتخلّفة الَّتي يدافع عنها التَّدين الحافي الفهلوي بشكل مستميت، لأنَّه يعرف أنَّها بؤرة هشاشته ونقطة ضعفه. وما يجعلها صلبة القناع هو أنَّه يؤسّس انطلاقا من إيديولوجته العقائديَّة للكثير من الجدليات المتحكّمة قهريا في حياة النَّاس، كجدل الرَّغبة والشَّريعة، باعتماد آليات النَّفي الرَّمزي والاجتماعي لوجود المرأة كذات حرَّة مستقلّة، وآليات التَّحريم والتَّحكم في كينونة الإنسان بالسَّطو والتَّملك لرغباته وأحلامه وأفكاره. وبناء على هذا ينتج الإسلام الحافي الفهلوي أشكال تواصله التَّحكمي القهري العمودي، بواسطة تمثّلات وتصوّرات ومعتقدات تدينيَّة داخل الفعل المجتمعي كحقيقة مطلقة نازلة من السّماء، توفّر الشُّروط النَّفسيَّة الاجتماعيَّة لقبول حاكمية فقهاء الفهلوة الدينيَّة، مع تصريف قيم تقليديَّة مذهبيَّة طائفيَّة، في الإيمان والكفر والهويَّة والانتماء...
وهذه جوانب محوريَّة أساسيَّة قلَّما انتبهت لها قوى الإصلاح والتَّنوير ليس فقط في الاعتراف بالمرأة كذات إنسانيَّة مستقلَّة، بعيدا عن أيَّة وصاية مهما كانت طبيعتها اجتماعيَّة، ثقافيَّة تدينيَّة، أو سياسيَّة، بل أيضا الاشتغال على فهم جديد لقيم: الرَّغبة، القانون، نحن، الهويَّة، الانتماء...كتواصل مجتمعي عبر أشكال مختلفة للفعل المدني والسّياسي والثَّقافي والإعلامي...
لحسن أوزين
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد