الحتمية الشرق أوسطية وتراجع النفوذ الأمريكي

الجمل: تساؤل قد يبدو خافتاً ولكنه يحمل بين طياته بركاناً سياسياً إن لم يكن براكيناً وهو سؤال يقول بكل وضوح: من يشكل مستقبل الشرق الأوسط، دول المنطقة أم الدول الكبرى؟
الشرق أوسطية، الشرق الأوسط الكبير، الشرق الأوسط الجديد، وما شابه ذلك من المصطلحات التي تشير إلى إدراك بعض الأطراف الدولية الإقليمية وسعيها من أجل إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.
* الشرق الأوسط: بين الخصوصية الدولية والإقليمية:
يقوم البنيان الدولي على وجود نظام دولي معاصر يتكون من أنظمة فرعية وإقليمية مثل الشرق الأوسط، جنوب شرق آسيا، غرب أوروبا، وما شابه ذلك.
تشكلت خارطة المكونات الإقليمية للنظام الدولي المعاصر وفقاً لنتائج مجريات الوقائع التاريخية الإقليمية والدولية، لجهة علاقات الصراع (الحروب) وعلاقات التعاون (التكامل). بعد صعود قوة الولايات المتحدة وسيطرة جماعة المحافظين الجدد على إدارة بوش ظهرت فكرة تشكيل الشرق الأوسط الجديد تبرز بشكل مؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية ولكن ميدانياً لم تنجح عملية فرض هذه الفكرة بسبب رفض شعوب المنطقة للمشروع الإسرائيلي – الأمريكي، أو بالأحرى شراكة واشنطن – تل أبيب.
* إشكالية بناء النموذج:
تتضمن السياسة الخارجية، أي سياسة خارجية، منظورين أساسيين لجهة الإدراك والتعامل مع الآخر وقد تجسد هذا المضمون بالنسبة للشرق الأوسط ضمن محورين:
• محور يسعى لمقاربة الشرق الأوسط على أساس المنظور المثالي الذي رسم خارطة الشرق الأوسط بما يتناسب مع إدراكه وحاول فرضها على الواقع، وعندما وجد الممانعة ومقاومة الواقع لم يلجأ لتعديل إدراكه وخارطته بما ينسجم مع الواقع وإنما استمر في غلواءه المثالي محاولاً تغيير الواقع بقوة السلاح والعقوبات والضغوط من أجل أن يتقبل قسراً تطبيق الخارطة الجديدة.
• محور يسعى لمقاربة الشرق الأوسط على أساس المنظور الواقعي الذي يتعامل مع الواقع الموجود محاولاً استخدام رد الفعل في تعزيز الفرص لجهة دعم حلفاءه ودرء المخاطر لجهة التصدي للتهديدات.
هذان المحوران شكلا مسارات وتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية طوال الحقبة الماضية، وبعد مرور حقبة من المآسي والكوارث التي سببتها هذه السياسة، باتت الآن في مواجهة السؤال الحرج القائل بأن التعامل مع الفاعلين الدوليين لم ينجح في إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط وبالتالي لابد من بروز الفاعلين الإقليميين فهل ستستمر أمريكا في محاولاتها لإعادة تشكيل المنطقة عن طريق "الضغط الخارجي" أم أن الفاعلين الإقليميين سيتصدون لمهمة إعادة تشكيل المنطقة باستخدام "الضغط الداخلي"؟ وما هو شكل الصراع المحتمل بين قوى الضغط الداخلي والخارجي ومن سيتراجع أمام الآخر؟
* مثلث أنقرة – دمشق – طهران: الفاعل الإقليمي المرتقب:
خلال فترة الحرب الباردة المرتفعة الشدة، وتحديداً خلال الفترة من مطلع حقبة خمسينات وحتى نهاية سبعينات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تفرض نفوذها القوي على أنقرة وطهران، ولكن بسبب التوجهات الخاطئة للسياسة الخارجية الأمريكية فقد خرجت طهران عن سيطرتها وانضمت إلى دمشق التي ظلت عصيّة على السيطرة والنفوذ الأمريكي، والآن بسبب عدم استفادة السياسة الأمريكية من أخطاء الماضي، فإن سيناريو "خروج طهران" أصبح على وشك أن يتم إعادة إنتاجه مرة أخرى مشكلاً ما يمكن أن نطلق عليه تسمية "خروج أنقرة".
سيناريو خروج أنقرة من النفوذ بالأساس قد بدأت حلقاته ومشاهده الأولى عند فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الانتخابات البرلمانية وتقدمت فصول وحلقات السيناريو أكثر فأكثر بسبب:
• الدور الأمريكي المعلن وغير المعلن في توجيه الأزمة الكردية.
• الدور الأمريكي المعلن وغير المعلن في توجيه أزمة عريضة المدعي العام التركي ضد حزب العدالة والتنمية.
* مثلث دمشق – أنقرة – طهران:  الفرص والمخاطر:
تقبع دمشق وطهران حالياً خارج دائرة النفوذ الأمريكي، أما أنقرة فقد أصبحت عملية خروجها مسألة وقت لا أكثر، ففي حال صدور قرار المحكمة الدستورية التركية بعدم إدانة حزب العدالة والتنمية، فإن خروج أنقرة من دائرة الهيمنة الأمريكية سيكون جزئياً بسبب أمل أنقرة في أن تقدم لها واشنطن المساعدة في ملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أما في حالة صدور قرار المحكمة بالإدانة فإنه بغض النظر عن شكل النظام التركي القادم فإن مشاعر العداء لأمريكا وإسرائيل ستصل إلى قمتها في أوساط الرأي العام التركي، وهو الأمر الذي سيترتب عليه نشوء مواجهة تركية – تركية، قد تكون بالوسائل السياسية وقد تكون بالوسائل العسكرية أو ربما بالاثنين معاً، بما يؤدي إلى دفع أمريكا وحلفائها الأتراك إلى خارج الساحة السياسية وهو الأمر الذي سيؤدي إلى خروج أنقرة نهائياً من دائرة النفوذ الأمريكي.
توجد العديد من الفرص أمام صعود قوة مثلث أنقرة – دمشق – طهران كفاعل إقليمي في المنطقة ومن أبرز هذه الفرص:
• عوامل القوة الجيوستراتيجية: وتتمثل في وجود هذا المثلث ضمن المنطقة التي تتحكم في التفاعلات العالمية بمختلف أنواعها.
• عوامل القوة الاقتصادية: وتتمثل في أن هذا المثلث يستطيع التحكم في حركة نقل النفط القادم من آسيا الوسطى والخليج العربي والشرق الأدنى طالما أن أنابيب النفط والغاز لا يمكن تمريرها خارج إطار هذا المثلث.
• عوامل القوة السياسية: وتتمثل في تكامل وجهات نظر الأطراف الثلاثة، إزاء القضايا الآتية:
* أزمة الملف الفلسطيني.
* أزمة الملف اللبناني.
* أزمة ملف الاحتلال الإسرائيلي للجولان.
* أزمة ملف الاحتلال الأمريكي للعراق.
* أزمة الملف الكردي.
أما أبرز المخاطر التي تواجه هذا المثلث فتتمثل في:
• السياسة الخارجية الأمريكية التدخلية التي تسعى حالياً لاستخدام الوسائل العسكرية ضد إيران والوسائل الاستخبارية ضد أنقرة وتمارس تهديداً ضد دمشق عن طريق ملفات لبنان والعراق وفلسطين.
• العامل الإسرائيلي: ويتمثل في السياسات الجزئية والكلية التي تقوم بها إسرائيل، فعلى المستوى الجزئي نجد أن إسرائيل تنتهج استخدام القوة العسكرية والدبلوماسية في الضغط على دول المنطقة، وعلى المستوى الكلي تستخدم إسرائيل نفس هذه الوسائل في إضعاف قوام المنطقة، بما يؤدي إلى الإبقاء على إسرائيل كياناً متفوقاً على كل دول المنطقة، وذلك بما يتيح لإسرائيل مزايا توجيه المنطقة عن طريق إدارة أزماتها.
• حلفاء واشنطن في المنطقة: ويلعبون دوراً رئيسياً سلبياً في التأثير على استقلالية المنطقة، ويتمثل أبرزهم في تحالف المعتدلين العرب ونظام المتعاملين العراقيين وقوى 14 آذار والمعارضة الإيرانية وحلفاء أمريكا في الساحة التركية.
• المشروع الإسرائيلي: ويتمثل في تداعيات السياسات العدوانية الإسرائيلية التي تستخدم الوسائل العسكرية والاستخبارية من أجل التأثير على زخم الوقائع والأحداث بما يؤدي إلى توجيهها وإعادة توجيهها في الاتجاه الذي يؤدي من جهة إلى عرقلة وإعاقة علاقات التعاون بين أطراف المثلث ومن الجهة الأخرى الدفع باتجاه تصعيد علاقات الصراع بين أطراف هذا المثلث.
عموماً، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واجهت منطقة الشرق الأوسط ظاهرة اختلال توازن القوة الاستراتيجية التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وبالفعل على خلفية تراجع عامل القوة السوفيتي نشأ الفراغ الذي حاولت الولايات المتحدة التقدم لملئه، وكان يمكن أن تحقق ذلك إذا استخدمت علاقات التعاون مع أطراف المثلث ولكنها بسبب تحيزها لإسرائيل فقد لجأت لاستخدام علاقات الصراع مع أطراف المثلث وتشير الوقائع إلى أن واشنطن قد خسرت الصراع مع هذه الأطراف، ولم يتبق لها سوى احترام قواعد اللعبة عن طريق اللجوء لخيار تصحيح الموقف الأمريكي إزاء قضايا المنطقة وهو الأمر الذي سيترتب عليه نشوء خلافات أمريكية – إسرائيلية، أو اللجوء إلى خيار التمادي أكثر فأكثر في توجهاتها الحالية وهو الأمر الذي سيعرض أمريكا لخسائر فادحة. وهكذا، فقد أصبحت الحتمية الشرق أوسطية تؤكد بقوة على تراجع النفوذ الأمريكي تماماً على غرار تراجع قوة النفوذ السوفيتي وسينشأ الفراغ آجلاً أم عاجلاً بسبب التراجع الأمريكي، فهل ستتقدم أطراف المثلث لملء الفراغ وصياغة معادلة توازن القوى من الداخل أم ستتقاعس ريثما تأتي القوى الكبرى لصياغة معادلة توازن القوى من الخارج؟

الجمل: قسم الدراسات والترجمة