الصيف السوري الساخن... سباقات الوقت المتبقي وعقباتها
ما زالت الحلقة الضرورية لرسم مراحل الحل في سوريا مفقودة، لا تتفق عليها الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة، وتشكل العقبة الرئيسية أمام انطلاق قطار الحل السوري بركابه الجاهزين والموافقين، أو أولئك الذين لديهم بعض التحفظات القابلة للنقاش، أو المتشددين الذين سيتم الاستغناء عنهم قبيل الانطلاق، وركنهم في ظلام الصورة الجماعية للمحتفين ببداية نهاية تسويات الأزمة والحرب السورية.
تتمثل هذه العقبة في مماطلة واشنطن في الاعتراف بالتصنيفات المقترحة، من موسكو وحلفائها، للمجموعات الإرهابية، إضافة إلى المحاولات الأميركية للتنصل من بعض التزاماتها بشأن استهداف «جبهة النصرة» والفصائل المرتبطة بها، وهو ما جعل الروسي يؤجل قصفه لمواقع «النصرة» ومرتبطيها في إدلب وحماة وريف حلب، بناء على رغبة أميركية في فك بعض الفصائل ارتباطها بـ«النصرة».
سبق أن اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قراره المفاجئ بوقف العمليات العسكرية في سوريا، وبدء سلسلة هدن مع المسلحين لا تشمل «النصرة» و«داعش». حدث ذلك في وقت كان فيه الجيش السوري وحلفاؤه يحققون تقدماً ملحوظاً في أرياف حلب واللاذقية ومدينة تدمر ودرعا، وكانت الأنظار تتجه إلى هدف قريب بإغلاق الحدود التركية، التي لطالما شكّلت المصدر الرئيسي والباب الأوسع لكل عوامل التفجير والتخريب في الحرب السورية. ثبت فيما بعد، صحة بعض اعتراضات وتحفظات عديد من السوريين وحلفائهم، على قرار الانسحاب الروسي، كونه جاء قبيل ذروة الاندفاعة الكبرى للقوات الحكومية في هجومها على الجماعات المسلحة والإرهابية، وبداية ظهور بوادر انفراج نحو استعادة الجغرافية السورية، بعدما قُطع مشوار مهم في تحرير الريف الحلبي، وأصبح الطريق نحو ضرب «النصرة» في معاقلها ضمن إدلب عبر ثلاثة اتجاهات: من ريف حلب الغربي الجنوبي، ومن شمال حماة، وشرق ريف اللاذقية مروراً بجسر الشغور.
ظهر القرار الروسي بوقف الهجوم وكأنه حقق خرقاً سياسياً كبيراً ـ حسب المنطق الروسي ـ ليعزز الثقة بموسكو، كوسيط مقبول يعتمد الحلول السياسية والدبلوماسية التفاوضية، بعد أن أظهر قدرة عسكرية وازنة، غيرت الصورة العامة لمشهد الميدان. ويضاف إلى ذلك عملية نزع الذرائع والحجج أمام كل الأطراف الدولية على مبدأ «ملاحقة الكذّاب لباب الدار»، وتجلى ذلك في مراقبة الخروقات الكبيرة الوقحة للهدنة، والتي قام بمعظمها «جيش الفتح» بمكوناته المختلفة في ريف حلب والمدينة. وأدت هذه الخروقات إلى تغيّرات واضحة في الميدان السوري، إن في جنوب حلب عبر قطع الطريق الواصل إليها مؤقتاً أو عبر احتلال بلدات خان طومان والعيس والقرى المجاورة، وهي متغيرات لا يمكن نكرانها عند مناقشة تصنيف الجماعات الإرهابية، والجهات المعتدية التي خرقت الهدنة. فهل تستطيع واشنطن ايجاد ذرائع وحجج جديدة لعدم تصنيفهم في قوائم الإرهابيين المستهدفين؟! خاصة مع ارتباطات مثبتة بتنظيم «القاعدة» ورفض طلب فك هذه الارتباطات، اضافة إلى أن هذه الأطراف ترفض الانخراط في أي حل سلمي، وهي بديل مرفوض من قبل الولايات المتحدة نفسها.
بات في حكم المفهوم والمعروف أن الوجود الروسي في سوريا جاء في وقت حساس، ليسد فراغاً استراتيجياً، مستفيداً من الأفول الأميركي عن المنطقة، إلى جانب التأثيرات المدمّرة والمؤثّرة على استقرار المنطقة، من قبل بعض الأطراف الإقليمية كوكلاء حصريين للجانب الأميركي الآفل، الذي ترك التفاعلات الاقليمية لتظهر مدى نفوذها الأقصوي، وترسم مناطق تقاطعها وتنافرها. كذلك جاء التدخل الروسي ليحافظ على مصالح الأقطاب الدولية الوليدة، ويؤمّن نفوذها العالمي، لتلعب ـ روسيا والصين بشكل أساسي ودول «بريكس» بعدهماـ دوراً مناهضاً لسياسة إسقاط الأنظمة عبر الثورات الملونة والمفتعلة، التي قامت بها السياسات الأميركية عبر الشعارات الجديدة والثورات الأتبورية، بعد أن أسقطت كثيراً من أنظمة العالم بالتدخل المباشر. اليوم تعرض روسيا والصين نفسيهما كحاميتين للشرعية الدولية، ولمنع إسقاط الأنظمة بالقوة أو التدخل العسكري لأغراض إنسانية ملفّقة كاذبة، وهو الأسلوب الذي اتبعه «الناتو» في ليبيا، ووجد في الكاتب الفرنسي الصهيوني برنارد هنري ليفي، بوقاً ومروجاً له. ولطالما كرّر الساسة الروس أن تجربة إسقاط ليبيا لن تحدث ثانية.
وما تزاحُم أنظمة الخليج ونظام أنقرة على أعتاب الكرملين، إلا محاولة للاحتفاظ بعلاقات ضرورية لأيام حرجة، تهتز فيها شرعيةُ هذه الأنظمة عبر ثورات شعبية أو عبر تفسخات مجتمعية أو انقلابات عسكرية. ففي زمن السيولة الجغرافية واختلال المفاهيم الجيوسياسية الذي نعيشه، ليس لهذه الأنظمة ضمانة بالبقاء، بعد أن رأت حليفها الماستر الأميركي يتخلى عن عماله ومندوبيه في المنطقة، كما في تونس ومصر. هذه الأنظمة فقدت ثقتها بمشغّلها، وستتخبط يمنة ويسرة وستدخل في تحالفات واهية تعتمد فيها على شراء الذمم والرشى المقنعة بالصفقات العسكرية الضخمة، أو عبر استثمارات تبييض الأموال. يحدث ذلك مع فرنسا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية، وما الاندفاعة الجديدة لدول الخليج وتركيا إلى تطبيع علاقات مكشوفة مع الكيان الصهيوني إلا رغبةً في كسب ودِّ «الرب اليهودي» في منظمة «آيباك» الأميركية، للحفاظ على مشروعية هذه الأنظمة المتهالكة التي تموج على سطح رهيب من المتغيرات.
أما في سوريا، فيكاد الوقت ينفد أمام الجميع. فبعد أن كان قرار التدخل الروسي مرتبطاً بشكل أساسي بكونه أتى في زمن تحول فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما، إلى بطة عرجاء، إذ اتّهم طوال فترته الرئاسية الثانية بالتردد ونقص الفاعلية، من داخل أميركا ومن قبل حلفائه في الإقليم، الذين راهنوا على تدخله في سوريا عبر القصف الجوي، وأمنّوا له كل المستوجبات الميدانية ومتطلبات كسر خطوطه الحمر، عبر تزويد بعض فصائل المعارضة المسلحة بالغازات السامة، وفق ما اعترفت أخيراً المرشحة للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، في مقالة سيمور هيرش في صحيفة «غلوبال ريسرش».
اليوم وأمام استكمال الأعمال العسكرية ضد المجموعات الإرهابية من قبل كلا التحالفين على الأرض السورية، يتسابق المنخرطون إلى تحقيق الإنجازات الميدانية بشكل رئيسي. الحلف السوري ـ الروسي ـ الإيراني يسعى للاستفادة القصوى من فترة السماح التي تقدمها مرحلة الانتخابات الأميركية، حتى دخول الرئيس/ة الأميركي/ة الجديد/ة إلى البيت الأبيض، حيث تدخل المنطقة في حسابات جديدة خاضعة لعوامل مختلفة، وفق ما تراهن بعض الأطراف الإقليمية. بينما سيكون التحالف الأميركي مع القوى التي يدعمها على الأرض، مثل قوى «الحماية الكردية» و«سوريا الديموقراطية» في شمال سوريا، وقوى الجيش العراقي في الفلوجة والموصل، بحاجة إلى إنجازات «عاجلة وواضحة ونظيفة وإعلامية» في وجه «داعش»، ليصرفها الرئيس أوباما وحزبه «الديموقراطي» في محصلة الانتخابات الأميركية ضد البلدوزر الإعلامي الجمهوري دونالد ترامب.
تبدو سوريا موعودة في صيفها القادم بتغيرات عميقة في الميدان، إن باتجاه الحرب مع «النصرة» ومرفقاتها في إدلب ـ المهمة الرئيسية للدولة السورية وحلفائها في القريب القادم ـ أو باتجاه الرقة ودير الزور والشمال السوري، وهي مَهمة ضد قوى «داعش»، ستتولاها أطراف متعددة، بسبب الاتفاق الدولي المجهز سابقاً عبر الإعلام، على اعتبار أن «داعش» هي الشكل المتمظهر النموذجي للإرهاب في كل العالم. وتبقى عقبة أخرى في انطلاق قطار هذه التغيرات الميدانية الكبرى ـ قطار محاربة الإرهاب واجتثاث بقاياه التي تهدد السلم العالمي والأمن الدولي ـ وهي تأمين الغطاء السياسي والمظلة الشرعية لحل سياسي مقبول يتوافق عليه السوريون، وعند ذلك فقط سيظهر النور في الأفق الاستراتيجي السوري وسيصبح الباقي من الأحداث الميدانية والمفاوضات السياسية كما انتظار القطارات السريعة في محطاتها المحددة... غالباً ما تصل بسرعتها المتوقعة وفي مواعيدها ومن دون مفاجآت.
عبد المعين زريق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد