اليرموك: يوم دُفِعَت «حماس ــ سوريا» إلى حضن دمشق
تشقّ شمس العصر سبيلها إلى أرضية مخيّم اليرموك جنوب مدينة دمشق، خارقةً أعمدة الركام المعلّق بين الأرض والسماء. المشاهد في حارات أكبر تجمّع للشتات الفلسطيني تكاد تكون نفسها بالنسبة إلى الآتين من خارج هذا الجحيم: أتربة وغبار رمادي وحجارة اسمنتية حدّبتها القذائف والانفجارات، وبيوتٌ لملم أهلها أرواحهم وما تيسّر لهم من الذاكرة وهجروها، تاركين خلفهم خِرق ثيابٍ ممزّقة وبقايا أثاثٍ يقتات على معدنها الصدأ.
التجوال في الأجزاء الشمالية من المخيّم، التي يسيطر عليها مقاتلون فلسطينيون من «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة» محفوف بالذهول والخطر. ليس بعيداً عن المدخل الشمالي، جنوبي حي الميدان الدمشقي، تتنقل بضع دجاجات بنية وإوزات رمادية أجنحتها ممشّحة بالأبيض فوق مستنقعات صغيرة من المياه الخضراء، تقتات على فتات الطعام والخضار الذي كوّمه أحد المقاتلين أمام أنقاض غرفة نوم!
«الوقت ليس وقت شماتة»
وفي مكانٍ ما لا تصله الشمس، ينفث «أبو العمرين»، أو «الحاج» خالد جبريل ابن الأمين العام للجبهة أحمد جبريل، وقائدها العسكري، دخان سيجارٍ يغطّي على ملامح الوجه الأبيض الذي ازداد نحافةً، منذ آخر لقاء في مخيم برج البراجنة.
خريطة المخيّم على شاشة هاتف عملاق بين يديه، يختصر الرجل توزّع سيطرة القوى على الأحياء بعد اجتياح «وحوش داعش» لمناطق سيطرة الإرهابيين الآخرين، في جنوب ووسط قَاطِعَي «اليرموك» و«فلسطين» من المخيّم. قبل عشرة أيام، كانت «القيادة العامة» تسيطر على ما يعادل 20% من مساحة المخيّم من القَاطِعَين، شمالاً. لكنَّ اجتياح «داعش» جنوبي المخيم من منطقة الحجر الأسود، رسم خريطةً جديدة، بعد تبديل مسلحي «أكناف بيت المقدس» البندقية من كتف إلى كتف، وتحالفهم مع «القيادة العامة» وباقي الفصائل الفلسطينية كـ«جبهة النضال» و«فتح الانتفاضة». فليس خياراً صائباً أن يستمر مسلّحو «الفرع السوري» لحركة حماس بالعداء للجيش السوري و«القيادة العامة»، ورؤوسهم المقطوعة يعلّقها «حليف الأمس» الداعشي في ساحات المخيّم. لكن الوقت ليس وقت شماتة بالنسبة إلى الحاج، و«هذه بداية مخرج لحماس، إن اتقت شرّ القتال إلى جانب أعداء سوريا وفلسطين». الآن، يسيطر الفلسطينيون على نحو 40% من المخيّم، وتحديداً، أحياءه الشمالية. وبينما يسيطر «داعش» وحليفته «جبهة النصرة» على الـ60% الباقية (وسط المخيم وجنوبه)، تتضارب الأرقام حول أعداد المدنيين الباقين تحت حدّ قطع الرؤوس و«محاكم الشريعة» التكفيرية، بين 9000 و 13000 مدني، بعد نزوح أكثر من 5000 آلاف مدني خلال الأيام الماضية إلى يلدا وببيلا و2000 إلى داخل مدينة دمشق.
الوصول إلى مسلحي «الأكناف» «التائبين» ليس بالأمر السهل
«الدواعش قاعدين هون»، يشير أبو العمرين على الخريطة إلى صفّ أبنية مطلّة على «ساحة الريجي» شرقي وسط قاطع اليرموك. بالنسبة إلى أبو العمرين، «الدواعش» أسطورة، «هادول ما عندهمش شي اسمو دفاع، كلّو هجوم، رح أعلمهم كيف يدافعوا». لم يعد خافياً أن الجيش السوري والفصائل الفلسطينية اتخذوا قراراً بطرد «داعش» منه في أسرع وقت ممكن، وأن «الأكناف» يقاتلون الآن إلى جانب الفصائل، بعد أن سلّم أكثر من 150 مسلحاً منهم نفسه للجيش وعاد لقتال «الدواعش». وبالتوازي مع الهجوم على أغلبية المحاور، تبدو الخطوة المهمة الأولى هي السيطرة على الريجي. لكن الحاج لا يخفي أن الأبنية المطلّة على ساحة الريجي تشكل خطراً كبيراً على القوات التي تريد التقدم، فالدمار الجزئي يعني أماكن حصينة ومموهة لقناصي «داعش»، تكلّف المهاجمين دماءً كثيرة، و«احنا أخذنا قرار بالريجي». والحل؟ «بالصواريخ الثقيلة» والتقدم، يقول أبو العمرين. وعندما يبدأ الوصف، يحضر صاروخ الكاتيوشا الذي كان ينقله المقاتلون في الخارج على عربة صغيرة، بعد أن أصابته «البدانة» جراء إضافة المواد المتفجرة حوله.
الأنفاق حرفة الفلسطينيين
يكلّف الحاج ولده العشريني محمّد مهمة الدليل «الحربي»، في رسالة طمأنينة للزوّار بأن حياة محمّد ليست أعزّ من حياة ضيوف المخيّم. خطّ سير الجولة يمرّ على الكمائن المتقدمة بين الركام، وعلى نفقٍ عميق تحت الأرض لا يتوقّف الحفر فيه، يقطع المخيم عرضياً من شارع اليرموك إلى شارع الثلاثين غرباً.
«خليك جنب الحيط، مقنوصة هالمسافة»، يقول محمّد. ومن فجوة في الحائط إلى فجوة أخرى وسط أكوام الردم، يظهر فداء وعائد (أسماء مستعارة) بَاسِمَين.
فداء، ابن 22 عاماً، عيناه متقدتان وذقنه خفيف الشعر، يقبض بذراع نحيفة على بندقية كلاشنيكوف. الغزاوي من سكّان اليرموك، ورث غزّة ولهجتها عن جدّه وأهله، وعلى ما يقول، سيحفرها على ألسنة أولاده إن نجا وأنجب أولاداً. لم يتسنّ لفداء أن يبدّل «الحفاية» التي ينتعلها في قدميه ويلبس حذاءه العسكري، فالزوّار باغتوه على عجل، وكلّ همّه أن لا تظهر «الحفاية» في الصور. هذا الفتى الصلب، وزميله عائد ابن طبريا، وحسن ابن عكّا المقاتل في الكمين القريب، لا يخافون من شيء. «الدواعش رجال على اللي مثلهم، أما احنا ما يقدروش علينا»، يقول عائد.
وجود «فرن» ذي «عيون أربع» بين بقايا غرفة، جزء من سريالية الصورة. بالنسبة إلى الشبان، هو «غاز» وفرن وطاولة يفرشون عليها طعامهم في الوقت القليل المستقطع من الحرب. لا يزال «مقلى» البيض ساخناً، والجبهة باردة قليلاً على «المتراس» القريب جدّاً، بعد اشتعال الجبهات الشرقية. وهؤلاء الفقراء الأقوياء لديهم أحلام أيضاً، تتسلّل إليهم حين يفرغون قليلاً من الضغط على الزناد.
السلم الطويل المتدلّي تحت الأرض حتى قعر النفق ينقل النازلين إلى «العالم السفلي»، حيث يكبر يرموك آخر بهمّة المقاتلين وزنودهم. السقف يقارب ارتفاعه المترين، والعرض لا يتجاوز المترين أيضاً، فيما حصّة «كابلات» الاتصالات والإنارة، محفوظة في زوايا النفق العلوية. «الفلسطينيون حريفة حفر، والقيادة العامة شغلتهم الحفر» يقول جهاد مزهواً. «... للأسف، اخترعنا الأنفاق لنحارب إسرائيل، تعلموا جماعة إسرائيل الحفر!»، يتابع القائد المسؤول عن أحد كمائن المراقبة. في النفق يردّد الصدى فلسطين كلّها، حيفا ويافا وعكا وطبريا وغزّة وصفد، في لهجات هَجَّنَها الزمن وروح اللكنة الدمشقية على ألسنة الشباب اليافعين. يجلس غيّاث وعمّار أمام شاشتي تلفاز تبثان نقلاً حياً من «فوق الأرض» عبر عدة كاميرات. ركامٌ ما بعده ركام يظهر، ولا شيء يتحرّك سوى رقعٍ يحركها الهواء الشحيح هنا تحت التراب. «الغلط هنا ممنوع»، يشرح عمّار، «إذا بتسهى عينك، يعني تسلّلوا الع...ت، ويذبحوا رفقاتك وأهلك».
حنظلة يدير ظهره هنا
يجد الفلسطيني وقتاً ليرسم، مهما كان عمله وحياته، فكيف إذا كان مقاتلاً. الألوان تُؤنسن الحيطان الرمادية المدماة بالرصاص والشظايا، وتشحذ الشوق لفلسطين. «يا عدو الشمس سأقاتل، ولآخر نبض في عروقي سأقاوم» مطلع أغنية لجوليا بطرس غنتها للصهاينة، خطّها الفلسطينيون فوق صورة مُذلة للملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز. و«حنظلة»، الفلسطيني الذي رسمه ناجي العلي، مرسوم هنا على لوحة أخرى تحمل أسماء أشهر شهداء فلسطين. حنظلة يدير ظهره في اليرموك أيضاً، لأولئك الذين ارتكبوا خطيئة توريط المخيّم في طعن دمشق من خاصرتها الجنوبية وطعن حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم.
كيف سقط اليرموك بيد «داعش»؟
في كانون الأول 2012، اجتاح مسلّحو المعارضة السورية على مختلف تشكيلاتهم مخيم اليرموك، وسيطروا عليه بنحو كامل تقريباً، بعد أن شكّل عدد من عناصر «جيش التحرير الفلسطيني» وحركة حماس خلايا نائمة للمعارضة، في محاولة للسيطرة على المخيم لاختراق العاصمة دمشق ضمن الخطّة التي بدأ تنفيذها بندر بن سلطان في تموز 2012. عزل الجيش السوري المخيّم من الشمال من حيّ الميدان والغرب من شارع الثلاثين، وبقي المخيم مفتوحاً من الحجر الأسود ويلدا وببيلا والتضامن من الجنوب والشرق، مع قرارٍ واضحٍ بعدم الدخول إلى أرض الشتات الفلسطيني. لكنّ إعلام المعارضة والدول الداعمة لها صوّر الجيش السوري وكأنه يحاصر المخيم من الجهات الأربع. ومع مرور الوقت، شكّل مسلّحو حماس تنظيم «أكناف بيت المقدس» وضمّ نحو 750 مسلحاً، أنكرت حماس على مدى عامين صلتها بهم. فيما وصل تعداد مسلحي «النصرة» و«جيش الإسلام» ومجموعات إرهابية أخرى إلى أكثر من ثلاثة آلاف. استطاع مقاتلو «القيادة العامة» تحقيق تقدم بسيط في شمال المخيم في قتالٍ معقّد وحرب عقول عسكرية، لكنّ المفاوضات لم تتوقّف منذ اليوم الأول لمحاولة تحييد المخيّم وانسحاب المسلحين منه، الذين يتقاتلون أصلاً في ما بينهم. يوم الخميس 2 نيسان 2015، كان موعد توقيع اتفاق التحييد الذي وصلت إليه الفصائل الفلسطينية والدولة السورية مع مسلحي «الأكناف» و«النصرة»، وقد عُرقل التوقيع مرات عدّة في الماضي، منذ حزيران 2014. قبل أيام من الاتفاق اغتالت «النصرة» يحيى الحوراني مسؤول حماس «الرسمي» في المخيم، ثمّ شنّ إرهابيو «داعش» فجر يوم الأربعاء مدعومين من إرهابيي «النصرة» بزعامة أبو علي الصعيدي وخلايا نائمة في الداخل هجوماً عنيفاً سيطروا سريعاً بعده على أماكن مناطق المسلحين في المخيم. قطعت الرؤوس وسحلت الجثث في الشوارع، وحُرقت أعلام فلسطين. تلا «الأكناف» فعل الندامة متأخرين، واستفاق بان كي مون ليشجب، وعلّق «مجلس الأمن»، كعادته دائماً، منذ احتلال فلسطين.
العقيد خالد الحسن شهيداً
الوصول إلى مسلحي «الأكناف»«التائبين» ليس بالأمر السهل. هناك في قاطع فلسطين من المخيّم، يبتعد الحمساويون عن الإعلام، «أبو همام لا يريد الحديث الآن، قريباً إن شاء الله»، لا يزال لديهم وقت طويل في القتال، وكلام لا يُقال الآن. وأبو همام مرافق القيادي الحمساوي موسى أبو مرزوق، هو الفلسطيني نضال أبو العلا القيادي في «الأكناف». أما محمد الزغموط ـ الملقّب بالمشير، فهو مرافق أبو الوليد، رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل. والمشير تعرّض لإطلاق نار على يد مرافقه، بعد أن قرّر تسليم نفسه للجيش السوري وقتال «داعش». أصيب المشير في خاصرته ورجله، ونجا من الموت، وعاد إلى القتال.
للعقيد الذي انشقّ عن جيش التحرير الفلسطيني، «الشهيد» خالد الحسن ذكرى طيبّة عند أبو حسن، مسؤول القيادة العامة في قاطع فلسطين، إذ سلّم الحسن نفسه ومعه مجموعة من الفلسطينيين بينهم «النقيب سليمان،» للجيش السوري، وعادوا لقتال «داعش». يقول أبو حسن إن «خالد استشهد بطل، مات في خندق فلسطين، وقاتل الدواعش من شباك لشباك». «والله هوي وابنه أبطال، أنا شفت ابنو عم يقتحم معه، وعم يقاتل بالمسدس». «الله يرحمه، قلنا قولوا لأبو جهاد (جبريل) إني بدي استشهد».
الترانسفير الفلسطيني يحصل
الفلسطيني سيئ الطالع، وحال السوري أو اللبناني أو العراقي ليس أفضل طبعاً، لكن الفلسطيني كتب عليه أن يعيش جلجلته، وجلجلة الآخرين من بعده أيضاً. من مخيّم اليرموك والنيرب والست زينب وقبلها من نهر البارد، الطريق مفتوح أمام الفلسطيني إلى بلاد الله الباردة، هناك في السويد والدنمارك والنروج وألمانيا التي وصلها حتى الآن 68 ألف فلسطيني سوري بحسب إحصاءات مجموعات عمل فلسطينية. البكاؤون على اليرموك الآن تركوا البحر ليبتلع الذين ابتلعهم من الفلسطينيين الهاربين بالقوارب الخشبية على شواطئ مصر وليبيا واليونان وإيطاليا، والناجين منهم لمل الفراغ البشري في دول الصقيع. العرب لا يمنحون الفلسطيني تأشيرة دخول إلى بلادهم، لكن يدعمون غزو المخيم لإسقاط دمشق، وتشتيت اللاجئين. تجربة اليرموك أثبتت أن «الترانسفير» الفلسطيني يحصل.
فراس الشوفي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد