جمال البنا: الحدود المُفترى عليها
جاء تعبير «حدود الله» في آيات تتعلق بالصيام والطلاق والمواريث والظهار، ولم تُرتب عليها عقوبة دنيوية، بل تُرك أمرها لله يوم القيامة أو فُرض عند مخالفتها صيام.. أو صلاة.. أو "عَتق رقبة"، وهذه الحقيقة تختلف عما هو شائع بين الناس عن أن الحدود هي عقوبات على جرائم محددة.
الجرائم التى حدد القرآن لها عقوبات والتي يطلق عليها «الحدود المقدّرة» هي: السرقة وعقوبتها القطع، والقذف وعقوبته ثمانون جلدة، والزنى وعقوبته مائة جلدة، ولم يحكم القرآن بعقوبات على جرائم مثل شرب الخمر، والردّة، والزنى للمحصن، وهذه لم يرد عنها تحديد في القرآن، كما أن القتل يدخل في باب القصاص وهو لمن يَقتل عامدًا متعمدًا.
وقيل إن السُّـنة فرضت عقوبات، ولكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نفسه يقول: «الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرّمه الله في كتابه»، وجعله الله رحمة للعالمين، وليس مما يتفق مع ذلك أن يأمر بعقوبات لم ترد في القرآن أو تكون أقسى مما ذكرت في القرآن لأن الرسول قد نزل «رحمة»، وقد قال تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ».
لا يمكن معالجة العقوبات المقدرة كما لو كانت عقوبات في أي قانون وضعي للعقوبات، لأن صفتها الإسلامية تربطها بالإسلام وتسمح بأن تؤثر العقيدة على الشريعة.
والإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر، أما الشريعة فهي «الدنيويات» أي ما يتعلق بالمجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وتدخل فيها العقوبات المقدرة, وهذا الارتباط ما بين العقيدة والشريعة يسمح بنوع من التأثير المتبادل كل على الأخرى، وهذا لا يمنع من أن نظرة الإسلام إلى العقوبة أنها «زاجرة» أو «رادعة»، لأن الجريمة تمثل انتهاكاً للقانون، وبالتالي يجب توقيع عقوبة «تردع» الباقين عن الوقوع في الجريمة، ومن هنا فإن العقوبات تكون قاسية، ولكنها تُعَد أكثر رحمة من عقوبات خفيفة تسمح للناس باقتراف الجريمة، خاصة إذا كان الغنم أكثر من الغرم.
ولكن هذه النظرة تتعرض لتدخل العقيدة، ومدخلها ومنطلقها مختلف عن مدخل ومنطلق الشريعة.
العقيدة ترى في الجريمة ضعفاً بشريًا يمكن أن يعالج بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولكن الشريعة ترى في الجريمة انتهاكاً للقانون يعالج بجعل الجريمة زاجرة ورادعة.
العقيدة تجعل العقوبة مكفرة، ومطهرة من قذارة الجريمة، وكان من يرتكب جرمًا يأتي الرسول صائحًا «طهرنى».
وتؤثر العقيدة في جعل الإقرار هو سند العقوبة، وأن يكون هذا الإقرار مؤكدًا، وقد يصل أثر العقيدة على العقوبة أن تأخذ بالشبهة لتدرأ العقوبة، أو أن تأخذ بإنكار المتهم، أو حتى تصل إلى حد تلقين المتهم إنكار الجريمة، أو بالتعبير «ما يُسقط الحد»، وحدث هذا أيام أبي بكر وعمر.
جاء في كتاب فقه السُـنة للشيخ سيد سابق تحت عنوان «تلقين السارق ما يُسقط الحد»: «ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يُسقط الحد»، رواه أبوأمية المخزومي (أن النبى عليه الصلاة والسلام أُتى بلص اعترف ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت، قال: بلى، مرتين أو ثلاثاً) رواه أحمد وأبوداود والنسائي، ورجاله ثقات.
وقال عطاء: كان من قضى (أي تولي القضاء) يؤتي إليه بالسارق، فيقول: أسرقت؟.. قل لا، وسمى أبا بكر وعمر، رضى الله عنهما (أي ذكر أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك حينما توليا القضاء).
وعن أبي الدرداء: (أنه أُتى بجارية سرقت، فقال لها : أسرقت؟ قولي لا، فقالت: لا.. فخلى سبيلها).
وعن عمر أنه أُتى برجل سرق فسأله: (أسرقت؟.. قل لا، فقال: لا) فتركه». (انظر «فقه السُـنة»، ص ٤٧٥، ج ٣، طبعة دار الفتح).
ومن آثار العقيدة على الشريعة الأخذ بفكرة التوبة، وكذلك فرض «التزامات» كتكفير عن مخالفات كالصوم مثلاً أو عتق رقبة.
إن مضي العقيدة إلى درجة تلقين المتهم الإنكار يَعرض لنا صفحة لا نجدها في أي تشريع آخر، ويضرب مثلاً ليس هناك ما يجاوزه في الحرص على المتهم.
ولكن الشريعة تأتي فتجعل العقوبة الأصلية رادعة، كالقطع والجلد، وهذا يعود لأن منطق الشريعة ليس هو المتهم، ولكن القانون، ومن هذا فإن من يسرق عشرة جنيهات كمن يسرق ألف جنيه من ناحية أنه انتهك القانون، كما يلحظ أنها شخصية، أي تقع على شخص الجانى، ومن هذه الناحية فإنها تـَفـْضُـل السجن الذى يعاقب أسرة المتهم جنبًا إلى جنب المتهم نفسه.
فى مقابل هذا، فقد فتحت الشريعة نفسها باب الاجتهاد فى الإجراءات القانونية وفى فهم التهمة، ومن ذلك أن تطبيق حد القطع يتطلب مواصفات معينة فى المسروق وفى السارق، وفى طريقة السرقة، وفى موضوع السرقة.
وهذه نجدها فى الفقه السلفى القديم، كما نجد اجتهادات بعض الفقهاء المحدثين مثل الشيخ عبدالمتعال الصعيدى الذى رأى أن القطع يمثل الحد الأعلى الذى يمكن الأخذ به فى حادث السرقة الشنيعة التى تسىء إلى المجتمع كنهب البنوك وخزائن الشركات، أو رواتب عاملين... إلخ، أما فى غيرها فيمكن الأخذ بالحبس أو الغرامة.
وعندما ضيق الأزهر الخناق على الشيخ عبدالمتعال فإنه استخرج شواهد من الفقه القديم تحل الغرامة أو السجن محل القطع، منها:
قال الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره- المسألة الخامسة- قال الشافعى: أغرم السراق ما سرق، وقال أبوحنيفة والثورى وأحمد وإسحاق: لا يجمع بين القطع والغرم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم، وفصَّل مالك بين الموسر والمعسر فى الغرامة، ثم ساق الفخر حجج المذاهب وذكر مذهب القائلين بأن التوبة قبل الحد تسقط الحد وذكر حجته.
وقال ابن العربى فى كتاب «أحكام القرآن»- المسألة التاسعة عشرة- قال أبوحنيفة: إن شاء أغرم السارق ولم يقطعه، وإن شاء قطعه ولم يغرمه، فجعل الخيار إليه، والخيار إنما يكون بين حقين هما له، والقطع فى السرقة حق الله تعالى، فلم يجز أن يخيَّر العبد فيه.
وجاء فى شرح الزيلعى عند قول المتن: ولا يجتمع قطع وضمان وتردُ العين لو كان قائمًا، وفى المكافى هذا أى عدم وجوب الضمان إذا كان بعد القطع، وإن كان قبل القطع فإن قال المالك أنا أضمنه لم يقطع عندنا، وإن قال أنا أختار القطع يقطع ولا يضمن، وهذا نص صريح فى صاحب المكافى يرى تخيير المسروق منه بين القطع والتغريم، وهذا أبعد بكثير ممن يرى التخيير للإمام الذى يناط به تنفيذ الأحكام والسهر على حقوق الله تعالى.
وجاء فى المغنى والشرح الكبير للحنابلة، وقال الثورى وأبوحنيفة لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم.
فلو ذهب ذاهب أخذاً من هذه النصوص إلى أن الواجب الأصلى فى السرقة إنما هو الغرم والقطع بدل عنه، ويكون حيث يراه الإمام مصلحة، لما كان بعيدًا، وقد نسب ابن رشد فى كتاب «بداية المجتهد» إلى الكوفيين: أن الواجب الأصلى عندهم هو الغرم، وأن القطع بدل عنه.
وإنى أذكر هذا بياناً لأن المسألة يجوز أن تكون محل اجتهاد، وإن كنت لا أوافق عليه، وإنما رأيى فى ذلك ما بينته من قبل.. والله ولى التوفيق.
وبهذا يكون القطع اختياريًا، للإمام أن يعدل عنه فى حالات السرقة الطفيفة أو للمرة الأولى، كما أن له أن يأخذ بالقطع فى الحالات الجسيمة، كما يجب أن يلحظ أن الآية استخدمت لفظ السارق والسارقة مما يوحى بأنه المتعود السرقة بحيث يطلق عليه «سارق». انتهى كلام الشيخ عبدالمتعال الجبرى.
ورأى المفكر الإسلامى الأستاذ عبدالله العلايلى أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفيًا، بل بغاياتها، وبهذا يكون القطع هو الحد الأعلى والأقسى بعد أن نفى أى روادع أخرى.
كما يرى المفكر الإسلامى الدكتور شحرور أن القطع هو الحد الأعلى الذى لا ينفى وجود ما هو أخف منه ويستأنس بتعبير كلمة «حد» التى توحى بوجود حد أعلى وحد أدنى.
كذلك هناك وجهة نظر أن الحد لا يطبق إلا على من تعود السرقة بحيث يصح عليه تعبير سارق، وبهذا أخذ الدكتور إسماعيل معتوق، عضو مجلس الشعب عن دائرة قنا ١٩٧٦ــ ١٩٧٧م، عندما وضع مشروع قانون إسلامى وأورد نصًا رُوى عن عمر بن الخطاب، لما أراد قطع يد شاب سرق، أن أمه قالت له: اعف عنه يا أمير المؤمنين، فإن هذه الصفة أول مرة، فقال لها عمر: إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة.
«لو سترته بثوبك كان خيرًا لك»
كما يجب دراسة ما ذهبت إليه الزيدية من إمكان عفو المجنى عليه في جريمة السرقة، بل هم يرون أكثر من ذلك أن للإمام مع وجوب إقامة الحد أن يُسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة، وله أن يؤخر إقامة الحد إلى وقت آخر لمصلحة (انظر جرائم السرقة بين الشريعة والقانون للأستاذ عبد الخالق النواوى وقد استند فى هذا إلى «شرح الأزهار»، جـ ٤، ص ٣٧٤).
ومن اجتهادنا الخاص أن الآية «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» أن المفسرين جميعًا اعتبروا أن من اللمم السرقة الأولى ثم يتوب، والزنية الأولى ثم يتوب، بل إن الشهيد سيد قطب ذهب إلى أن المغفرة تضم «كَبَائِرَ الإِثْمِ» بدليل ما جاء بعدها «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» ولا يكون واسع المغفرة إذا كانت مقصورة على اللمم، ونعتقد أن الرسول الذي قال لرجل جاء بآخر ليوقع عليه عقوبة الزنى: «لو سترته بثوبك كان خيرًا لك»، وأن أبا بكر وعمر عندما لقنا المتهم الإنكار كانا يتأولان هذه الآية.
جمال البنا
المصدر: المصري اليوم
إضافة تعليق جديد