سورية واستراتيجية الاتحاد من أجل المتوسط
الجمل: بعد سنوات من الخلاف وتدخلات الأطراف الثالثة التي ظلت تحاول مراراً وتكراراً القضاء على نسيج وروابط العلاقات الفرنسية – السورية، فقد حمل المشهد السياسي الدولي منظراً يشير إلى نقطة تحول جديدة في علاقات دمشق – باريس بما يمكن أن يؤدي إلى المزيد من التغيرات والتبدلات في الخارطة المتوسطية الجيوسياسية.
* الأسد على منصة الشرف الفرنسية:
تناقلت وسائل وأجهزة الإعلام العالمية صور الرئيس السوري بشار الأسد وهو يقف على منصة الشرف الفرنسية المخصصة للعرض العسكري الفرنسي احتفالاً بالعيد الوطني الفرنسي.
خلال الفترة الماضية تدخلت الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية مستخدمة شتى الضغوط والوسائل في عملية الدفع باتجاه إتلاف وتقويض النسيج التاريخي الطويل الذي اتسمت به العلاقات السورية – الفرنسية، ولم تتوقف هذه الأطراف بل واستمرت محاولاتها الرامية إلى تقويض العلاقات السورية – الفرنسية حتى خلال تواجد الرئيس الأسد مؤخراً في العاصمة الفرنسية ولكن برغم كل ذلك، فقد كان الحضور السوري في القمة المتوسطية فاعلاً وبرزت بوضوح الإشارة المؤكدة على ذلك.
* واشنطن و"التقاط الإشارة":
كان واضحاً أن وجود الأسد على منصة الشرف الفرنسية وفي مناسبة العيد الوطني الفرنسي هو وجود له أكثر من دلالة ويحمل المزيد من الإشارات والتداعيات ومن الواضح أيضاً أن الحدث سيعقبه بالضرورة قيام الأطراف الثالثة بتغيير الكثير من الحسابات لجهة تعديل معادلات توازن القوى في المنطقة.
استلمت واشنطن الرسالة المتوسطية بغضب، والتقط خبراؤها الإشارة بنفاذ صبر وعلى صفحات الموقع الإلكتروني الخاص بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي نشر الخبير لي هدسون تيسليك تحليلاً حمل عنوان «موعد شرق متوسطي» وقد تطرق التحليل إلى النقاط الآتية:
• إن الرئيس ساركوزي ليس سوى مجرد شخص طموح.
• يريد الرئيس الفرنسي إصلاح اقتصاد وسياسات بلده العسكرية.
• يريد الرئيس الفرنسي إعادة تحديد كيفية تفكير الأوروبيين حول حلف الناتو والدفاع الجماعي.
• يريد الرئيس الفرنسي ترتيب الأوضاع في العديد من المستعمرات الفرنسية السابقة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ويشير التحليل الأمريكي بغضب إلى أن الرئيس ساركوزي قد تولى مؤخراً رئاسة الاتحاد الأوروبي وعندها بدأ بالدفع باتجاه حلم ليلته الأولى المتمثل في مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط التي جاءت إلى الوجود يوم 13 تموز 2008م.
ويرى التحليل بأن هدف ساركوزي هو إقامة كيان يضم مجموعة متنوعة تتكون من 27 دولة في الاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب مع 17 دولة من شمال إفريقيا وشرق المتوسط. وتقوم فكرة ساركوزي على أن هذا الكيان الشرق متوسطي الجديد سيتقاسم أعضاؤه الهموم حول العديد من القضايا المشتركة التي تتمثل في ملفات الهجرة ومكافحة الإرهاب والبيئة والتنمية الاقتصادية. ويضيف التحليل قائلاً بأن المزيد من الشكوك وحالات عدم الثقة واللايقين ما تزال ماثلة ومن أبرزها:
• أن ألمانيا قد شاركت بعدم رضا عندما تبين لها أن المبادرة قد تؤدي إلى تكوين تكتل قد يقود إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي.
• إن تركيا قد شاركت لمجرد التمهيد لإتمام وإكمال انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
• إن بريطانيا قد شاركت مع التشديد على أن إقامة الاتحاد من أجل المتوسط يجب أن لا تكون بديلاً يغني عن مشروع توسيع الاتحاد الأوروبي.
وأشار التحليل الأمريكي الغاضب إلى عدم وجود مطابقة بين مفهوم الاتحاد من أجل المتوسط وطبيعة الأعضاء الذين حضروا القمة التأسيسية مدللاً على ذلك من خلال الإشارة إلى أن موريتانيا والأردن قد حضرتا وشاركتا رغم أنهما لا يقعان على البحر المتوسط، وفي نهاية التحليل لم ينس كاتبه أن يشير إلى أن ساركوزي قد حاول من خلال مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط التصدي لمواجهة بعض المشاكل والقضايا التي ليس بمقدوره أن يفعل إزاءها شيئاً طالما أنه لا يملك قدرة النفوذ والسيطرة الحقيقية على ملفاتها.
* سوريا واستراتيجية الاتحاد من أجل المتوسط:
برغم الانزعاج والغضب الأمريكي وبرغم التحايل الإسرائيلي وبرغم جهود بريطانيا وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الأطراف التي شاركت في القمة التأسيسية والساعية إلى القيام بدور "حصان طروادة" الأمريكي داخل أروقة الاتحاد من أجل المتوسط فإن سوريا نجحت في أخذ مكانها الطبيعي كبلد شرق متوسطي فاعل ولاعب رئيسي في المنطقة.
يقول تحليل موقع ستراتفور الأمريكي الاستخباري أن قمة الاتحاد من أجل المتوسط قد أخفقت إلى حد ما في ما يتعلق بمحادثات سوريا – إسرائيل وذلك بسبب عدم قيام الرئيس السوري ورئيس الوزراء الإسرائيلي بمصافحة بعضهما البعض. وأشار التحليل إلى أن باريس قد زودت صالة الاجتماعات بعدة مخارج ومداخل بما يتيح للطرفين السوري والإسرائيلي عدم لقاء بعضهما البعض.
* دمشق والدور المركزي الجديد على خلفية إعلان باريس:
يرى المنظور الفرنسي بأن ثمة إنجازات قد تمت في منطقة شرق المتوسط وكان لدمشق دوراً بارزاً في تحقيقها ومن أبرز هذه الإنجازات:
• * القضاء على ظاهرة فراغ السلطة الرئاسية في لبنان بعد أن دعمت دمشق انتخاب الرئيس اللبناني الجديد.
• نجاح حوار ساركوزي مع الأطراف اللبنانية المختلفة والذي لم يكن ممكناً من دون دعم دمشق.
• توازن مكانة فرنسا في منطقة الشرق الأوسط والتي سبق أن اختلت بسبب توجهات الرئيس السابق شيراك وقد عادت العلاقات على خط باريس - دمشق وما كان ممكناً ذلك لولا تعاون سوريا.
ولكن، على الجانب السوري يوجد ما هو أهم والذي يتمثل في ملف استقرار منطقة شرق المتوسط وهو ملف لا يمكن كما أكدت التجربة العملية إنجاز أي خطوة فيه دون التفاهم والتعاون المسبق مع سوريا ولما كانت باريس على ما يبدو قد قررت عدم تكرار خطأ واشنطن التي حاولت التعامل مع ملف شرق المتوسط عن طريق استبعاد سوريا فإن الخطوات القادمة في التعامل مع هذا الملف يجب أن تنطوي على الآتي:
• إن انتخاب الرئيس سليمان لا يمثل نهاية الأزمة اللبنانية وإنما يمثل بالأحرى بداية لحل الأزمة وبالتالي لا بد من المزيد من التفاهم على خط باريس – دمشق – بيروت لجهة الدفع باتجاه حل بقية القضايا العالقة مع ضرورة الوضع في الاعتبار لأهمية استبعاد الأطراف الثالثة الأخرى التي لا تملك أي وجود حقيقي يؤهلها للانخراط ضمن البيئة الإقليمية الشرق متوسطية.
• إن الخطوة المهمة الثانية في الساحة اللبنانية هي الحفاظ على توازن القوى الجديد ضمن السلطة التنفيذية اللبنانية لجهة قطع الطريق أمام محاولات استخدام بعض الأطراف اللبنانية للجهاز التنفيذي في القيام بدور "الوكالة" خدمة لمصالح الأطراف الخارجية التي ظلت لفترة طويلة وتستخدم الحكومة اللبنانية السابقة باتجاه تقويض الاستقرار وزعزعة العلاقات السورية – اللبنانية والعلاقات اللبنانية – الفلسطينية وإضافة إلى محاولات إشعال الصراع اللبناني – اللبناني الداخلي وجر البيئة الداخلية اللبنانية إلى نموذج الصراع السني – الشيعي الذي قوض وأتلف النسيج الاجتماعي العراقي.
• على تفاهم دمشق – باريس القادم أن يركز ليس على تطبيق نماذج إبعاد الدول عن بعضها البعض على غرار نموذج إبعاد دمشق عن طهران أو إبعاد أنقرة عن دمشق وما شابه دلك، وإنما يتوجب التركيز في هذا التفاهم على فتح المزيد من قنوات الحوار البناء الذي يعزز الفهم المشترك بما يؤدي إلى التعاون الحقيقي الذي يفسح المجال والسبيل أمام الاستقرار الإقليمي من خلال نموذج علاقات التعاون بين أطراف شبكة عواصم شرق المتوسط، التي تضم دمشق وأنقرة وعمان وبيروت وبالطيع لن يتجاهل أحد تل أبيب طوال ما كانت ملتزمة بتطبيق السلام العادل القائم على رد الحقوق المشروعة إلى أصحابها وعدم الاعتداء على دول المنطقة والالتزام باحترام حقوق الشعب الفلسطيني وتطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد