شهادة جاك نيريا: تجربة إسرائيل في لبنان... «حمرنة»!
أطلّ مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، جاك نيريا، أخيراً، لينسف في شهادته كل ما رُوّج عن حكمة المسؤولين الإسرائيليين الذين كانوا في مواقع اتخاذ القرارات منذ عام 1982 حتى عام 2000، ومن بينهم من قادوا «عملية أوسلو». نيريا، المنحدر من أسرة يهودية «هاجرت» من عينطورة إلى إسرائيل في الستينيات، ومؤلف كتاب «قصة صعود وهبوط بشير الجميّل وغوص إسرائيل في المستنقع اللبناني»، يلخّص تجربة إسرائيل في لبنان بكلمة «حمرنة»!
مثّل إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أخيراً، وقف العمل بالاتفاقيات الموقّعة مع إسرائيل، نقطة انطلاق حديث جاك نيريا، المستشار السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، قبل أسبوع، إلى قناة «i24» العبرية. إعلانٌ لا يرى فيه نيريا حدثاً «مفاجئاً»، بقدر ما يعتقد أن «المفاجأة هي في التوقيع عام 1992 على اتفاق أوسلو»، على رغم أنه هو نفسه لعب دوراً مهماً في المحادثات التي خيضت في تلك الفترة، مستفيداً في ذلك من أصوله اللبنانية ومعرفته باللغة العربية.
عباس «هو من جعلنا نوافق على الاتفاقيات»، يقول السياسي والأمني اللبناني الأصل، شارحاً أنه بتاريخ 16/8/1992 وصل إلى مكتبه في الساعة الـ8 صباحاً ظرف يحتوي إجابة «أبو مازن» عن الأسئلة الخمسة التي طرحتها إسرائيل باللغة العربية، و«عندما أخبرت رابين بذلك، أمرني بألا أطلع أحداً على الموضوع». حديثٌ يُفهم منه أنه كان ثمة خلاف بين شمعون بيريس الذي قاد المفاوضات في تلك الحقبة مع الجانب الفلسطيني وبين رابين، لا على مضمون الطروحات، بل بسبب اختلاف هويّتَي الرجلين؛ فبيريس هو «المهاجر» المحاط بهالة مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون، أما رابين فهو «المولود في الأرض»، والمتفوّق عسكرياً على خلفية مسيرته في الجيش.
برأي نيريا، فإن اتفاق أوسلو كان بمثابة «جبنة سويسرية مليئة بالثقوب»؛ إذ إنه لم يتضمن أي حل للمسائل النهائية مثل اللاجئين والحدود وغيرهما، ولولا هذه الحقيقة «لما وقّعت إسرائيل ولا منظمة التحرير عليه». وبحسبه، فإن المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين كانوا على دراية بتلك الثقوب. «كان أبو عمار يقول لي دائماً لن أكون رئيس بانتوستان، أو رئيس دولة غزة، وإسرائيل كان كل همّها أن نتخلص من غزة، وكانت تعتقد أنه إذا أعطينا الفلسطينيين غزة وأريحا فإن المشكلة ستنتهي. وحتى رابين نفسه لم يطرح موضوع الدولتين إطلاقاً، ففي آخر حديث له في الكنيست قبل اغتياله، قال رابين لن نعطي الفلسطينيين دولة، بل كياناً فيه أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة»، يقول. ويضيف أنه بعد التوقيع على الاتفاق عُقد لقاء إسرائيلي ــــ فلسطيني في طابا، حيث «طلب منّا الفلسطينيون عرض طرحنا بالنسبة إلى الأمن بيننا وبينهم. وبعد خمس دقائق فقط، خرج المسؤولون الفلسطينيون غاضبين. ولو لم يكن أبو مازن بيننا لما كنّا توصلنا إلى اتفاق».
لكن، هل أفشل «أبو عمار» الاتفاق بالفعل بذهابه إلى انتفاضة؟ يعتقد نيريا أن الرجل «أخطأ»، معتبراً أنه كما «لا يفهم الإسرائيليون عقلية العرب، فالعرب أيضاً لا يفهمون عقلية إسرائيل». يوضح وجهة نظره بأن خيار «أبو عمار» كان مبنيّاً على الاعتقاد بأن الانتفاضة ستشكل ورقة ضغط على إسرائيل «لتقديم تنازلات»، مستدركاً بأنه بينما نجح هذا الأسلوب في لبنان، إثر تكبّد إسرائيل أكلافاً بشرية جسيمة دفعتها إلى الانسحاب، لم يحظ عرفات بعمق استراتيجي؛ «فالقتال يجري في حدود متشابكة على أرض إسرائيل. وفي النهاية (رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرئيل) شارون حاصر أبو عمار في غرفة، ووصل الموضوع لأكله وشربه الذي كان يجلبه من الخارج، وقد تسبّب ذلك في موته».
أما إذا عاد الزمن بالمستشار السياسي لرابين إلى الوراء، فهو لن يتنازل مطلقاً عن أمن إسرائيل، ولذلك فإنه لن يقترح صيغة مختلفة في جوهرها عن صيغة اتفاقية أوسلو. لكنه يرى أنه «كان يجب أن ندعس أكثر على دعسة البنزين»، في إشارة مبطنة إلى أن الاتفاق استهدف أساساً إيجاد صيغة تكون كفيلة بإنهاء «المسألة الفلسطينية»، حتى تتمكن إسرائيل من بناء علاقات مع دول الجوار العربي. يشرح نيريا ذلك بالإشارة إلى أن الاتفاق وُقّع في مرحلة تاريخية تميّزت بنهاية الثنائية القطبية، والاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستحكم سيطرتها على العالم، فيما ستصبح إسرائيل مركزاً ريادياً في المنطقة ومنفتحاً على المحيط، والمدخل إلى هذا كان بتوقيع اتفاق مع الفلسطينيين.
المستنقع اللبناني
«إذا كان فيني لخّصا بكم كلمة بقلك حمرنة! إسرائيل ما فهمت لبنان ولا راح تفهمو». هكذا يقيّم ضابط شعبة الاستخبارات العسكرية (سابقاً) تجربة إسرائيل في لبنان بعد 37 عاماً على اجتياح بيروت، و13 عاماً على عدوان تموز. يوضح وجهة نظره بالقول إن «الإسرائيليين لم يفهموا أن المسيحيين في لبنان لديهم أهدافهم الخاصة». صحيح أن «إسرائيل لم تجتح لبنان لمساعدة بشير الجميّل، بل لتقطع رأس الحيّة المتمثل بأبو عمار ومنظمة التحرير» بحسب قوله، ولكن «بشير استطاع بكلامه وشخصيته إقناع الإسرائيليين بأنه يجب عليكم مساعدتي حتى أساعدكم»، ولعلّ ذلك هو الذي جعل إسرائيل تراهن عليه مع أن علاقتها بكميل شمعون كانت جيدة. يرى نيريا أن «اللبنانيين غير شي (عن الفلسطينيين). إسرائيل كانت تعتقد أن كل العرب مثل الضفة، حتى اكتشفت لبنان. لبنان عنده ثقافة، ويحكي ناسه ثلاث لغات»، واصفاً بشير بأنه «سياسي فريد من نوعه، فهو استطاع توحيد المسيحيين بعد حوالى سبع سنوات من التناحر (بين الكتائب والشمعونيين)»، ومع ذلك فهو «لا يختلف عن يوسف كرم الذي انتهت حياته في نابولي. كلاهما اعتمد على الخارج وفي النهاية قتلا».
راهنت إسرائيل على بشير الجميل لتحقيق «حلم» الدولة المسيحية، إلى جانب «تطهير» لبنان من «منظمة التحرير». ولكن، لأن «لبنان هو دولة طائفية، وليس مثل مصر الدولة التي تعود جذورها لأكثر من 5000 عام، غفلت إسرائيل عن أن لبنان، حتى بعد طرد الفلسطينيين من أرضه، سيكون بحاجة إلى محيطه العربي». كان وزير الأمن (في تلك الحقبة)، أرئيل شارون، «يقول دائماً إن علينا إخراج منظمة التحرير من لبنان ورميها في البحر»، والسبب هو أن «إسرائيل عندما وقّعت على اتفاق سلام مع مصر، وافقت على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً «لايت» في الضفة الغربية، ولكي نطبق ذلك كان علينا التخلص من المنظمة وأبو عمار. ولكن هذا الأخير أخرجناه من الشباك، فعاد لنا من الباب». بحسب نيريا، تعاملت إسرائيل، وخاصة رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن، مع المسيحيين «على أنهم يعيشون أبوكاليبس، وأنهم مستعدون لخوض معركة حقيقية للدفاع عن أنفسهم». ولكن في الواقع، وتحديداً «عندما بدأ التلفزيون الإسرائيلي بنقل صورهم وهم يشربون الويسكي في أماكن السهر وغيرها، أثار ذلك جدلاً في إسرائيل، حتى إن بيغن نفسه قال في خطابه في الكنيست كنا نعتقد أن المسيحيين يريدون أن يحاربوا، ولكنهم تركونا وحدنا مقابل منظمة التحرير».
وبما أن نيريا كان في منصب مساعد رئيس شعبة الاستخبارات في عام 1983، أي لدى تسلّم إيهود باراك رئاسة «الشعبة»، فقد سأله الأخير: «هل ننسحب؟ فأجبته بالموافقة، لأنني كنت أعتقد أننا فشلنا في لبنان، حيث تكبّدنا الكثير من الخسائر البشرية. وقد طرح باراك المسألة على الحكومة، غير أن رابين لم يقتنع بذلك، وأصرّ على البقاء 16 سنة أخرى على الحزام الأمني. وماذا حصل؟ خرجت إسرائيل مثل الدجاجة المنتوفة من لبنان. فحتى 1992 لم يسقط صاروخ على إسرائيل من قِبَل حزب الله الذي تسبّبت في وجوده. وباغتيالها عباس الموسوي، نقلت إسرائيل الحرب إلى داخلها!». وبحسبه، فإن إحدى أبرز النتائج السلبية لبقاء إسرائيل في لبنان حتى الانسحاب، هي حزب الله.
ما بين الرجوب ودحلان
من بين كل الطاقم السياسي الفلسطيني، يبدي جاك نيريا إعجابه، خصوصاً، بشخصية القيادي «الفتحاوي» جبريل الرجوب، والقيادي المفصول من الحركة، محمد دحلان. يقول نيريا إن «الرجوب، أبو رامي، كان ينتظرني في مطار تونس، ومن اللحظة التي رأيته فيها أُعجبت بشخصيته، فهو يتحدث العبرية بطلاقة، وقد ترجم كتب مناحيم بيغن إلى اللغة العربية. أما دحلان، فصحيح أن له شخصية مختلفة عن الرجوب، ولكن كنت على اتفاق معهما، ولولاهما لما تمّ التوصل إلى اتفاق إطلاقاً».
«هدية» إميل إدّه
يروي نيريا، في سياق حديثه، قصة تاريخية (لا يوضح مصدرها) جرت وقائعها بين الرئيس اللبناني إميل إدّه، وحاييم وايزمن، فيقول إنه في فندق في لندن عام 1936، التقى الرجلان بعد صدور مخرجات «لجنة بيل»، التي قسّمت فلسطين إلى دولة للعرب ودولة لليهود، بموجب قرار التقسيم. «قال إدّه لوايزمن مبروك لرئيس دولة إسرائيل، جارتنا. لديّ لك هدية. فسأله وايزمن عن الهدية، فقال الرئيس اللبناني عندي لك قطعة أرض جنوب بيروت فيها متاولة، ضُمَّها إلى الأراضي الإسرائيلية، فما كان من وايزمن إلا أن أبدى رفضه للاقتراح، قائلاً لا أعرف من هم المتاولة، ولكن بكل الأحوال لا أريد الهدية»، يتابع نيريا.
الأخبار
إضافة تعليق جديد