محطات في مسيرة الإرهاب التكفيري: منذ حركة جهيمان حتى تفجيرات بئر العبد
الجمل ـ محمد صالح الفتيح: تحاول هذه المقالة تغطية أحداث امتدت على فترة تزيد عن ثلاثة عقود من الزمن لكي تستطيع في النهاية فهم التغييرات في الموقف السعودي من الإرهاب التكفيري وكيف تحول هذا الإرهاب التكفيري، في النهاية، إلى أداة طيعة وجبارة في اليد السعودية في تصفية صراعاتها الإقليمية. قد تسهب المقالة في شرح بعض النقاط ولكن هذا التفصيل ضروري لفهم الصورة الكاملة.
نقطة البداية أو الأزمة المنسية
في مثل هذا اليوم منذ 34 عاماً – 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 الموافق لغرة محرم 1400 هـ – استغل جهيمان العُتيبي، وهو نقيب سابق في الحرب الوطني السعودي، تجمع المصلين لصلاة الفجر في الحرم المكي لتنفيذ مخطط يهدف إلى التمترس بالحرم المكي لطلب مبايعة المهدي المنتظر المتمثل في شخص "محمد بن عبدالله القحطاني" وهو صهر جهيمان العُتيبي. استغل جهيمان وأعوانه أحد الطقوس التقليدية شبه اليومية في الحرم المكي وهي إدخال توابيت للمتوفيين للصلاة عليهم عند صلاة الفجر، فقاموا باستقدام توابيت فارغة تم ملؤها بالأسلحة والمتفجرات لكي تستخدم في العملية الموعودة. كانت العملية في الحقيقة سهلة للغاية، فلم يكن هناك في تاريخ المملكة السعودية أي سوابق للتطرف الديني ناهيك عن عمليات في البقع المقدسة مثل الحرم المكي، لذلك لم يكن هناك ما يدفع الحكومة السعودية للقيام بأي احتياطات أمنية، فلم يكن في الحرم المكي ساعة العملية سوى حارسين اثنين مسلحين بهراوات خشبية، وكان هناك عموماً جو اطمئنان لدرجة أن المصليين في الحرم كانوا هم أنفسهم من حمل توابيت الأسلحة والمتفجرات إلى داخل الحرم. تمت عملية السيطرة على الحرم بسرعة فائقة وبشكل صاعق عند الفجر وقتل الحارسان المذكوران وعند الظهيرة كانت مكة المكرمة والمملكة قد صعقتا بأخبار الحرم المكي وجماعة جهيمان العُتيبي.
صُدمت الحكومة السعودية وجهازها الأمني؛ ولثلاثة أيام كاملة لم يكن هناك أي رد فعل ميداني من قبل أي طرف في الحكومة السعودية وتم تبرير التلكؤ بأنه بسبب انتظار فتوى من هيئة العلماء برئاسة عبد الله بن باز للسماح باستخدام القوة لاستعادة السيطرة على الحرم المكي. في الحقيقة، كان هناك أيضاً اعتقاد بأن سبب التردد هو خشية الحكومة السعودية من أن تكون حادثة الحرم مجرد محاولة لإبعاد الأنظار عن حدث ما يتم التحضير له – ربما انقلاب عسكري مثلاً. صدرت الفتوى المنتظرة ولكن محاولات استعادة الحرم من قبل الشرطة السعودية أولاً ثم الحرس الوطني السعودي باءت بالفشل وانتهت بوقوع عدد من القتلى وصل إلى أكثر من 120 قتيلا في صفوف القوات المهاجمة وليستمر تمترس جهيمان وأنصاره المسلحين، الذين تراوح عددهم بين 200 و 500 مسلح، بالحرم المكي ومعهم عدد كبير من المصليين الرهائن لحوالي الأسبوعين. لم ينتهِ الحصار إلا بعد الاستعانة بقوات خاصة أجنبية كان عمادها القوات الخاصة التابعة للجَندرمة الوطنية الفرنسية (GIGN) وكان اللافت يومها هو التلكُّؤ الأمريكي ورفض المشاركة "الميدانية" في أي عملية في الحرم المكي. تمت استعادة الحرم المكي ولكن بعد وقوع قتلى في صفوف الحجاج قدرت أعدادهم بحوالي 255 قتيل وحوالي 450 جريح. وسقط أيضاً حوالي التسعين قتيلاً في صفوف أنصار العُتيبي كان بينهم المهدي المفترض – محمد بن عبدالله القحطاني - فيما بقي العُتيبي نفسه على قيد الحياة (كما يحصل عادة في مثل هذه الفتن) ليحُكم لاحقاً هو وحوالي الستين من أنصاره بالإعدام في أكبر عملية إعدام جماعي في تاريخ السعودية حيث تم توزيعهم على ثمانية مدن سعودية كبرى وتنفيذ أحكام الإعدام الميدانية العلنية (1).
الصدمة السعودية
يصف السفراء والمسؤولون الأجانب الذين كانوا في العاصمة السعودية يومها بأن الحكومة السعودية قد أصيبت بحالة من الصدمة أو الشلل. فالحادثة المفاجئة، التي لم يكن لدى المخابرات السعودية أي مؤشر عليها، جاءت في توقيت ونفذت بأسلوب وتحت ذرائع مقلقة للغاية. ففي ذلك الوقت لم يكن قد مضى سوى تسعة أشهر على سقوط حكم الشاه في إيران على يد الثوار الإيرانيين المواليين لآية الله الخميني؛ والشاه لم يكن يحكم فقط دولة كبيرة عظيمة الموارد ذات موقع جغرافي مهم بل كان أيضاً "شرطي الخليج" وصاحب الجيش الأقوى في كل الشرق الأوسط وعندما سقط حسَّس حكام الخليج على رقابهم. أما بالنسبة للأسلوب فلم يسبق على الإطلاق أن استهدفت أي من المواقع الدينية في المملكة ولاسيما بهذه الطريقة أو إلى هذا الحد. أما أكثر ما أربك صفوف الحكومة السعودية فهو حجة جهيمان العُتيبي بأن آل سعود قد فقدوا شرعيتهم وقد شوَّهوا الإسلام وتاريخ أهالي الجزيرة العربية ولذلك فلابد من تصحيح مسيرة البلاد. هذه كانت حجة العُتيبي ولعلَّ تلك هي المرة الأولى التي تسمع فيها حكومة آل سعود مثل تلك الاتهامات ولاسيما من قبل شخص قادم من صفوف الحرس الوطني – النخبة المكلفة بحماية وتوطيد حكم آل سعود – وخصوصاً أن كلام العُتيبي كان على منبر المسجد الحرام واستخدمت فيه مكبرات الصوت وتناقلته العديد من الإذاعات يومها (وإلى اليوم مايزال من الممكن العثور عى أجزاء من خطب العُتيبي على مآذن المسجد الحرام).
أقلقت تلك الأزمة صانعي القرار في السعودية فدولتهم التي كان قد مضى على تأسيسها حوالي الخمسة عقود لم يسبق وأن واجهت عدواً يستخدم نفس معتقداتهم وحججهم. ففي عقدي الخمسينات والستينات كان خصم آل سعود هو التيار القومي العربي المتمثل خصوصاً بمصر جمال عبد الناصر الذي كان ينظر إلى السعودية على أنها معقل من معاقل الرجعية العربية. أعلنت هدنة مؤقتة بين عبد الناصر و الملك فيصل في أعقاب حرب الأيام الستة واحتلال الأراضي العربية وعلى رأسها القدس واستمرت هذه الهدنة وتحولت لاحقاً إلى مايشبه التحالف مع الأنظمة القومية العربية – لاسيما سورية – خلال وفي أعقاب حرب تشرين 1973 عندما أمر فيصل بوقف صادرات النفط، وهو الموقف الذي سيدفع حياته ثمناً له. عاش آل سعود بعد فيصل في حال اطمئنان كبيرة فلم يعد هناك من يقض مضجعهم، فحتى التيار العربي القومي كان قد انشغل بترتيب صفوفه بعد حرب تشرين واتفاقيات سيناء والتورط الفلسطيني والسوري في الحرب الأهلية في لبنان وتوقيع مصر منفردة على السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد. هكذا لم يكن في الأفق في مطلع العام 1979 ما يقلق راحة آل سعود إلى أن جاءت الثورة الإسلامية في إيران في شباط منذ ذاك العام ثم ثورة جهيمان العُتيبي التي كان يتداول المواطنون في السعودية أنها أوقعت 4000 قتيل! أدرك آل سعود أن خصمهم هذه المرة هو من جلدتهم هم: أفرادٌ يزايدون عليهم في مسألة تطبيق الشريعة الإسلامة الحقة ويتهمونهم بتشويه العقيدة؛ أفرادٌ تبلغ بهم الجرأة أن يحتلوا أكثر البقع قداسة لدى المسلمين بينما تجد الحكومة السعودية نفسها عاجزة عن الإتيان برد فعل فوري.
الخطر الحقيقي لجهيمان وجماعته
على الرغم من الظهور المفاجئ على الساحة لجهيمان العُتيبي وأنصاره ثم القضاء السريع عليهم، فإن جهيمان لم يكن في الحقيقة مجرد ضابط سابق "ممتعض" من الحرس الوطني السعودي أو شخص مختل عقلياً كما حاول البعض أن يصوره حينها. كان جهيمان العُتيبي قد استقال من الحرس الوطني قبل حادثة الحرم بحوالي الست سنوات وكان حجته الأساسية أن المرء لايستطيع أن يجاهر بالحق إن كان يأخذ مرتباً من الحكومة – بحسب ما نقل عنه الباحث السعودي ناصر الحزيمي الذي كان أحد أعضاء جماعته (2) . في الحقيقة إن جهيمان العُتيبي كان قد عمل بشكل منظم مثير للإعجاب فقد قام بجهد فكري منظم استمر لفترة طويلة قبل أن يقوم بتنفيذ عملية اقتحام الحرم المكي فقد قام بنشر عدد من الكتيبات (3) في الكويت كما نشر عددا من الرسائل – مثل "الرسائل السبع" و "رسالة الإمارة والبيعة والطاعة" و "رسالة الفتن وأشراط الساعة" وغيرها – التي رسم فيها العُتيبي ملامح دعوته وطريقته "الخلاصية" والصورة التي يجب أن يكون عليها المجتمع ونظام الحكم من وجهة نظره. لعل الطريف هنا أن ماكان يكتبه العُتيبي كان يطبع وينشر في الكويت في مطبعة صحيفة "الطليعة" وهي صحيفة يسارية التوجه أخذت على عاتقها مهمة مساعدة العُتيبي في طباعة كتبه ورسائله مقابل مبلغ زهيد في حين أخذ أنصاره على عاتقهم مهمة التنكر بهيئة رعاة الغنم وتهريب مؤلفاته إلى داخل السعودية!
حتى بعد إعدامه، بقيت كتيبات العُتيبي – ورسائله تحديداً – تشكل مصدر إلهام لكثير من الشباب السعودي المتحمس وتشكل، بالتالي، مصدر قلق لدوائر الحكم السعودية؛ لذلك ليس من المستغرب أن نجد – مثلاً – الأمير فهد بن عبد العزيز – ولي العهد السعودي يومها – يصرح لصحيفة السفير اللبنانية في كانون الثاني 1980 مقللاً من شأن العُتيبي قائلاً أنه مجرد "رجل عادي إلى درجة متناهية، وأنه متواضع لغوياً وفكرياً، وأنه لا يمتلك من القدرات ما يمكنه من تأليف كتب".
استمرت ظاهرة العُتيبي بإثارة حالة من الخوف والريبة في قمة الهرم السعودي – سواء قمة هرم الحكم ومؤسسته الأمنية أو قمة الهرم الاجتماعي. فقد أصبح الكابوس الذي يطارد أرباب العوائل الميسورة هو أن يستيقظوا ليجدوا أولادهم وقد أطالوا لحاهم وشرعوا بالمسير على خطى جهيمان، لذلك لجأت تلك العوائل الميسورة إلى إرسال أبنائها إلى الخارج بحجة الدراسة لكي يبقوا بعيداً عن مصادر الاستقطاب والتطرف الديني – وهو نفس الخيار الذي ستجربه الحكومة السعودية نفسها لاحقاً، بعد ثلاثة عقود. ولكن الحكومة السعودية ودوائرها الأمنية أدركت عدم مقدرتها على الهرب وحاجتها بالتالي إلى حل جذري للمشكلة برمتها.
"داوها بالتي كانت هي الداء"
أدركت السعودية يومها أن كل شيء تغير ولم يعد أي شيء كما كان وأصبح الكابوس الذي يطارد آل سعود، ولاسيما تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية آنذاك (وحتى عام 2001)، هو ماذا لو قرر آخرون أن يكرروا فعلة العُتيبي؟ هل سيصمد النظام السعودي مرة أخرى؟ وهل ستجد السعودية من يعينها أم سيتلكأ الآخرون كما فعلت الولايات المتحدة وقت أزمة العُتيبي؟ هذه الأسئلة المُلحة كان لابد لها من حل جذري: لابد من "تصريفة" لهؤلاء "المزايدين"! وجد تركي الفيصل ضالته في "العملية إعصار" (Operation Cyclone) التي كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد أطلقتها منذ منتصف العام 1979 (قبل أزمة العُتيبي ببضعة أشهر وقبل دخول السوفييت إلى أفغانستان في كانون الأول من ذلك العام) عندما عملت على تسليح الميليشيات الأفغانية ضد الحكومة الشيوعية التي وصلت إلى الحكم بعد ثورة نيسان 1978. حصل الغزو السوفيتي لأفغانستان بعد أيام قليلة من نهاية أزمة العُتيبي، وقبل أن يتم إعدام العُتيبي نفسه، فكان ذلك الغزو هو طوق النجاة بنظر آل سعود – أو في الحقيقة تأخير القدر المحتوم. فإذا كان هناك من هو متحمس للجهاد ويمتلك قراءته الخاصة للعقيدة الإسلامية ويريد تطبيق أفكاره الجهادية فليأخذ فرصته ويطبقها ولكن بعيداً، هناك في أفغانستان، "البلد المسلم الذي انقلب الشيوعيون الكفرة فيه على الحاكم الشرعي، ودخله الاتحاد السوفيتي ليفرض الشيوعية المعادية للإسلام بالقوة العسكرية الطاغية". وهكذا أصبحت أفغانستان المتنفس المطلوب، فانخرط آل سعود وبشكل خاص تركي الفيصل في العمل مع المخابرات الأمريكية ليس فقط في تقديم المساندة المعنوية وتقديم الفتاوي المؤيدة لجهودهم بل في تقديم الأموال والسلاح للمجاهدين الأفغان وفي تجنيد المجاهدين أنفسهم والذين قدرت أعدادهم لاحقاً بالآلاف. لعل أهم ما أبرز من أثمرت عنه الجهود السعودية هو أسامة بن لادن، الذي يروى أنه قد توجه إلى أفغانستان بعد أيام قليلة من الغزو السوفيتي، بعد أن استشار تركي الفيصل شخصياً!
تنفس السعوديون الصعداء لأكثر من عقد من الزمن وهم يشاهدون الإسلاميين المتحمسين ينجذبون نحو أفغانستان، كما ينجذب الفراش نحو الضوء فيكون حتفه، فزادوا وضاعفوا من قيمة الدعم المادي، الذي وصل إلى المليارات في نهاية التورط السوفيتي في أفغانستان في العام 1989، وسخَّروا كل ماكيناتهم الإعلامية ومؤسساتهم الدينية لكي يستمر تدفق الشباب المتحمس (أو الخصوم المحتملين) إلى أفغانستان وإلى معسكرات التدريب في غربي باكستان، حيث كان ينشط عبدالله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري. استمر الحال هكذا حتى انسحب السوفييت من أفغانستان فتوقفت "العملية إعصار" ولينسى العالم أفغانستان ومجاهديها العرب منهم والأفغان ولتعتقد السعودية أنه بوسعها أن تطوي صفحة عمرها عقد من الزمن وتودع القلق الذي سببها له المتطرفون والمزايدون؛ ولكن هؤلاء المتحمسين إنما كانوا قد وجدوا في صحاري أفغانستان القاحلة وجبالها الجرداء فرصتهم لتطوير نظرياتهم وأفكارهم ووضعها موضع التطبيق بعيداً عن الرقابة.
مابعد أفغانستان والتخبط مطلع عقد التسعينات
خلال الثمانينات، بقي المجاهدون العرب في أفغانستان منشغلين بصراعهم مع الاتحاد السوفيتي ولم تتح لهم الفرصة لتصدير نشاطاتهم الفكرية والجهادية إلى خارج الحدود الأفغانية، ولكن مع تقهقر الاتحاد السوفيتي عادت الفرصة السانحة لهؤلاء للبحث عن الخطوة التالية خارج الصحاري الأفغانية النائية. فمع نهاية الثمانينات كان الألوف من المجاهدين العرب قد أنهوا تدريباتهم في غربي باكستان، ولكن قلة منهم فقط أتيحت لها فرصة المشاركة فعلياً في القتال في أفغانستان، والباقي كان مايزال ينتظر فرصته. وهكذا عاد التيار التكفيري السري للنشاط وعادت الدعوات لنقل العمل إلى قلب العالم الإسلامي فتم تأسيس منظمة "القاعدة" بشكل سري في شهر آب – أغسطس – 1988 وتم التخلص من كل الأصوات المخالفة – وقد يكون من بين تلك الأصوات عبد الله عزام الذي اغتيل في ظروف غامضة؛ وتم بعث الروح في كل المساعي التي أدخلت في غيبوبة قبل عقد من الزمن. ولعله من الملفت هنا أن نجد بأن كتيبات جهيمان العُتيبي ورسائله قد وجدت طريقها مجدداً إلى المطابع والتوزيع السري وبدا أن العُتيبي مايزال يشكل دافعاً للأجيال التي تلته (4).
هكذا بعثت الروح مجدداً في التيار التكفيري، ولكن السؤال المحير كان هو أين تكون الخطوة القادمة؟ فالعودة إلى السعودية وغيرها من البلدان التي صدرت المجاهدين إلى أفغانستان لم تلقَ الكثير من الحماس، ومع غياب أي جهة راغبة باستقطاب هؤلاء المجاهدين إلى مكان ما – كما فعلت السعودية سابقاً – ومع غياب أي عدو صريح متفق عليه – كما كانت حالة الاتحاد السوفيتي سابقاً – فإن القرار بالكامل كان بين يدي المقاتلين وفقهائهم. فكان الاتفاق هو على الانتقال إلى أي ساحة "جهاد" مفتوحة فكانت المسيرة الأولى إلى البلقان حيث عصفت الحرب الأهلية والصراعات العرقية بدول يوغسلافيا السابقة، فوجد المجاهدون العرب ضالتهم في البوسنة التي سارع جيشها الوطني إلى احتضان الوافدين الجدد عام 1992، قبل أن ينبذهم لاحقاً في العام؛ 1995 ووجد مجاهدون آخرون ضالتهم في الشيشان التي اجتاحتها القوات الروسية في العام 1994 وسعى مجاهدون آخرون إلى الانتقال إلى مصر أو الجزائر التي بدأت فيها الحركات الإسلامية تمارس "أعمالها الجهادية" ضد الحكومات في تلك البلدان فيما انتقل بن لادن نفسه للإقامة لفترة في السودان مطلع التسعينات. ولكن أياً من هذه الخيارات لم يقدم البيئة المطلوبة لتحقيق المشروع الجهادي (التكفيري) الذي بدأه العُتيبي وطوره بن لادن والظواهري. فالشيشانيون كانوا يحاربون الروس لدوافع قومية قديمة أكثر منها دينية وسرعان ما انتهت الحرب فيها في العام 1996 ومصر أيضاً سرعان ما تخلت الحركة الإسلامية فيها عن خيار السلاح في العام 1997، أما الجزائر فقد رفضت أصلاً الحركة الإسلامية فيها انخراط لغير الجزائريين في الأنشطة المعادية للحكومة الجزائرية. أما بالنسبة لإقامة بن لادن في السودان، فبالرغم من كل المشاريع التجارية التي أقامها بن لادن هناك وحصوله على مكانة مميزة نوعاً ما، فلم يستطع أن يأمن على حياته هناك؛ في الحقيقة، كل التقارير التي نشرت مؤخراً تذكر بأن الحكومة السودانية قد أعطت فعلاً الضوء الأخضر للإدارة الأمريكية باعتقال بن لادن أو تصفيته على أراضيها. فاضطر هذا الأخير أن يغادر السودان خشية أن يلقى مصير إيليش راميرز سانشيز "كارلوس" الذي سلمته الحكومة السودانية لفرنسا في العام 1994. وهكذا فإن الخيبات المتتالية في الميادين المختلفة أشعرت قادة التيار الجهادي (التكفيري) بأنه لم يعد هناك من خيار منطقي سوى العودة من جديد إلى نقطة البداية الأولى: إلى السعودية.
العودة إلى نقطة البداية مرة ثانية والعثور على العدو المنشود
مثلت السعودية في ذلك الوقت بؤرة مناسبة لاستقطاب الأفكار الجهادية التكفيرية العائدة من أفغانستان فهي أصلاً المكان الذي انطلق منه هؤلاء منذ أكثر من عقد من الزمن وكان فيها القاعدة البشرية الحاضنة وامكانات التمويل الهائلة التي كان من الأسهل لها أن تقدم الأفراد والأموال لحركة ما داخل الحدود من أن تصدرهما عبر الحدود إلى البلقان أو القوقاز أو المغرب العربي. ولكن أهم متغير، في الحقيقة، هو الوجود العسكري الأمريكي على الأراضي السعودية الذي أعقب حرب الخليج وتحرير الكويت. فقد أثار هذا الوجود في العديد من المدن السعودية حالة غير مسبوقة من الاستياء والتشكيك بما يفترض أنه نظام حكم مبني على الشريعة الإسلامية الصارمة التي ترفض – مثلاً – وجود المسيحيين العرب على أراضي البلاد وفجأة غض الطرف عن وجود من كانت المؤسسة الدينية السعودية تصطلح طوال عقود على تسميتهم بـ "الصليبيين". إضافة إلى عدد من الأحداث الأخرى مثل مساندة الحكومة السعودية لقرار منظمة التحرير الفلسطينية التوقيع على اتفاقية أوسلو للسلام مع إسرائيل في العام 1993 والتي دفعت أسامة بن لادن لانتقاد آل سعود بشكل علني وإعلانه العداء لهم.
هكذا توفرت الظروف المثالية للعمل مجدداً في أرض الحجاز فكان تفجير الخُبر الشهير الذي أودى بحياة 19 عسكرياً أمريكياً وجرح حوالي خمسمئة من الموجودين في المجمع العسكري السكني. كان التفجير صدمة أخرى لنظام الحكم السعودي ومؤسسته الأمنية التي كانت هي من نظم وبنى عملياً شبكة القاعدة وتشكيلات المجاهدين في أفغانستان، وكان أكثر ما أربك وأحرج المؤسسة الأمنية هو استهداف حليفهم الأمريكي على أرض المملكة. بالرغم من أن كل المؤشرات كان تشير باتجاه القاعدة وجماعة بن لادن فإن الإدارة الأمريكية والمؤسسة الأمنية في السعودية لم يكن يناسبهما أن يعترفا بأن "المسخ" الذي خلقوه ونسيوه في صحاري أفغانستان هو من استهدفهما فكان أن اتهم الطرفان منظمة لم يسمع بها أحد في حينه – ولن يسمع بها أحد لاحقاً – وهي منظمة "حزب الله – الحجاز" بالمسؤولية عن تفجير الخُبر.
ماحصل لاحقاً يبقى في الحقيقة سراً ولايوجد سوى بعض الكتابات الصحفية التي ترسم سيناريوهين اثنين للأحداث التي حدثت لاحقاً. السيناريو الأول يقول بأن تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية قد بادر بالاتصال بأسامة بن لادن واتفق معه مباشرة وبدون مواربة على عدم القيام بأي عمليات أو نشاطات داخل المملكة السعودية مقابل منح بن لادن مبلغاً قُدر يومها بحوالي 400 مليون دولار، ربما كان أيضاً تعويضاً عن إيقاف المخصصات المالية التي كانت تقدمها عائلته له في السابق وتقدر بحوالي 7 مليون دولار سنوياً والتي كانت أوقفت بضغط من الحكومة السعودية بسبب انتقادات بن لادن العلنية اللاذعة لمؤسسة الحكم في المملكة. لايوجد مايثبت هذا السيناريو ولكن يوجد مايدعمه. فأسامة بن لادن قد نقل نشاطاته فعلاً إلى أماكن أخرى خارج المملكة ومثل هذا السيناريو، في الحقيقة، ينسجم مع النمط السعودي في حل المشاكل!
أما السيناريو الثاني فيقول بأن تركي الفيصل قد بادر إلى الاتصال بقيادة حركة طالبان واللقاء مع المُلا عمر شخصياً في باكستان والعمل على اقناعه بضرورة أن تنأى طالبان بنفسها عن أسامة بن لادن ومجاهدي القاعدة التكفيريين. تمضي هذا الرواية إلى أن المُلا عمر قد وافق، في الحقيقة، على طرد بن لادن من أفغانستان، ولكنه ماطل في تنفيذ وعده مما أتاح الفرصة لأسامة بن لادن لتنفيذ وتخطيط عملية استهداف السفارات الأمريكية في تنزانيا وكينيا التي نفذت في 7 آب – أغسطس – 1998، وهي الذكرى الثامنة لوصول القوات الأمريكية إلى الأراضي السعودية. هذه المرة كان أسامة بن لادن يعلم أن الولايات المتحدة لن تستطيع غض الطرف كما فعلت عند تفجير الخُبر، فكان الرد بعد أيام – في 20 آب – بقصف مواقع داخل أفغانستان وبقصف مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم هو كل ما يحتاجه أسامة بن لادن، ويعول عليه، لإفشال أي اتفاق بين طالبان والمخابرات السعودية على المدى القصير، ولاستمرار الحالة الجهادية، على المدى الطويل. في الحقيقة، فإن "العدوان" الأمريكي باستخدام صواريخ كروز قد أعطى دفعة قوية للمشروع الجهادي (التكفيري) الذي يقوده بن لادن كما نجح أيضاً في إجهاض المساعي الرامية إلى التخلص من بن لادن وتسليمه، كما نجح – وهذا الأهم – في خلق عدو واحد واضح المعالم يمكن بحجته توحيد الجهود؛ كان هذا العدو هو الولايات المتحدة.
الأخطاء القاتلة
ما أثبتته الأحداث، لاحقاً، هو أن استهداف الولايات بالمتحدة واعتبارها العدو الأول لمنظمة القاعدة وللتيار التكفيري الجهادي كان بمثابة سلاح ذو حدين. فمن ناحية أولى نجح هذا التوظيف فعلاً في إعطاء دفعة معنوية هائلة للقاعدة ومناصريها وساهم في إظهارها على أنها منظمة تنصر المسلمين فعلاً وليس كما عُرفت في البداية في الثمانينات، عندما كانت القاعدة وطالبان والتيار الجهادي التكفيري مجرد أدوات بيد الاستخبارات المركزية الأمريكية. إلا أن هذا العداء، من ناحية ثانية، كان يعني الانخراط في حرب صريحة مع الولايات المتحدة وحلفاءها سواء أكانوا أنظمة الحكم الخليجية أو المرجعيات الإسلامية التي تنضوي تحت أجنحة أنظمة الحكم تلك وبالتالي – عملياً – تنضوي تحت الجناح الأمريكي. باختصار، ماقام به التيار الجهادي التكفيري يومها هو فتح النار على الجميع!
تقهقر ذلك التيار قليلاً بعد الضربات الصاروخية في صيف العام 1998، ولكنه انتعش أيضاً مستغلاً مشاعر الإحباط والاستياء التي انتشرت لدى الجمهور المسلم عقب الضربة الأمريكية للعراق في شهر كانون الأول – ديسمبر – 1998 والتي انتهت تماماً قبل بداية شهر رمضان في ذلك العام، ثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول – سبتمبر – 2000. كانت العودة المفاجئة لهذا التيار من خلال تفجيرات نيويورك الإرهابية، أو مايفضل أنصاره أن يطلقون عليها اسم "غزوة مانهاتن"، والتي لايحتاج القارئ أي تذكير بأحداثها وعدد ضحاياها. أياً كانت التسمية التي تعجب القارئ، فقد كانت أحداث نيويورك نقطة تحول هائلة في التاريخ الحديث وبداية لأحداث دراماتيكية أصابت كل بلدان العالم وإن بنسب متفاوتة. فيما يخص أفغانستان والقاعدة والتيار التكفيري الجهادي الذي كان ينشط هناك، فقد أتت العواقب سريعاً من خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان في العام 2002 والذي أنهى الوجود العسكري لطالبان في بداية الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي، والتي أدت عملياً إلى تشظي منظمة القاعدة ومعها التيار الجهادي التكفيري وانتشار أفراده عبر العالم، حيث نشطوا لاحقاً بدرجات متفاوتة.
العودة مرة ثالثة إلى نقطة البداية
من جديد، كان لابد لأفراد التيار الجهادي التكفيري من الانكفاء إلى الأراضي السعودية حيث حاولوا أن ينظموا صفوفهم بعد نكسة أفغانستان. تتالت النكسات من خلال اعتقال أفراد كثر من التنظيم وإرسالهم إلى معتقل غوانتنامو في كوبا، ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق والذي أثار من جديد حالة من السخط الشديد لدى الجمهور الإسلامي، وخصوصاً بعد تردد أقوال المحافظين الجدد التي تصف الحرب الأمريكية على العراق بحرب صليبية جديدة. إذاً لم تكن الانتكاسات الميدانية التي مني بها التيار الجهادي (التكفيري) لتوقفه تماماً، فمازال لديه جمهوره ومازالت الحرب مستمرة والمطلوب هو فقط تحديد موقع المعركة التالية. مرة أخرى قرر هذا التيار أن تكون معركته التالية من جديد في أرض الحجاز فتم استهداف مجمعات سكنية يسكنها بالدرجة الأولى عناصر أمنية أمريكية وغربية تعمل في تدريب الحرس الوطني السعودي. بلغ عدد القتلى 31 والجرحي حوالي 150 وكانوا بأغلبهم من جنسيات غربية. استشاطت الأجهزة الأمنية السعودية غضباً، ونفذت حملة اعتقالات واسعة شملت حوالي 600 ممن وصفتهم الماكينة الإعلامية السعودية بالإرهابيين. إلا أن كل الأطراف المنخرطة في الصراع كانت مدركة تماماً بأن الحرب لم تحسم إلا أن جميع الأطراف أيضاً قد أدركت أن قواعد اللعبة يجب أن تتغير.
كيف وضع التيار الجهادي التكفيري ونظام آل سعود قواعد تفاهمهم غير المعلن
بعد ربع قرن من الزمن على أحداث الحرم المكي 1979، وجد قادة الصراع أنفسهم وجهاً لوجه، مراوحين في نفس المكان. فلا التيار الجهادي التكفيري نجح في توطيد تجربته في أي منطقة من العالم وتحويلها إلى دولة أو دويلة مبنية على تفسيرهم الخاص للعقيدة الإسلامية، ولا مؤسسة الحكم في السعودية استطاعت أن تجد حلاً يضمن لها القضاء على المنغصات في الداخل والانتقال السلس للحكم بين أفراد العائلة الحاكمة الذين بلغوا – جميعاً – من العمر عتياً، ولم يعودوا قادرين على تلقي الصدمات؛ وفي الوقت نفسه كان المطلوب إيجاد حل يتناسب مع المتغييرات الإقليمية في المنطقة ولاسيما النفوذ الإيراني المتزايد في الخليج والعراق.
ماحصل في الحقيقة هو أن الحل قدم نفسه بنفسه. فالمطلوب للتيار الجهادي (التكفيري) هو العثور على خصم واحد متفق عليه يمكن تبرير العداء له على أساس شرعي فقهي والعثور على ساحة للاشتباك مع هذا الخصم. فما ثبت تاريخياً هو أن التيارات الجهادية ولاسيما التيارات الجهادية التكفيرية لايمكن أن تستمر بدون أن يكون هناك طرفٌ ما يتم إلباسه ثوب العداء. في البداية، لبست المؤسسة الحاكمة في السعودية ذلك الثوب، ثم لبسه بعدها الاتحاد السوفيتي، ثم لبسته لاحقاً الولايات المتحدة، ثم عاد الثوب مرة أخرى إلى السعودية! أما المطلوب بالنسبة للمؤسسة الحاكمة في السعودية فهو إيجاد تصريف، من جديد، للمتحمسين والمزايدين، ومنعهم من إثارة القلاقل داخل السعودية. هو عملياً نفس ما كان مطلوباً منذ ربع قرن من الزمن، ولكن الكثير قد تغير هذه المرة. فلم يعد هناك من يرغب بالذهاب إلى أفغانستان التي لم تسلم حتى كهوفها من القصف "السجادي"؛ أما البلقان قد نبذ العنف تماماً وشرع في بناء دويلاته ومجتمعه المدني؛ أما الجزائر فقد انهت "عقدها" الدموي وبدأت حملة للصلح الأهلي؛ أما الشيشان فقد سحق المقاتلون فيها بعدما حاولوا نقل صراعهم إلى داغستان المجاورة في العام 1999، وتنفيذ عمليات داخل الأراضي الروسية، ولاسيما عمليات احتجاز الرهائن كما حصل في مسرح دوبروفكا في موسكو عام 2002 ومدرسة بيسلان عام 2004، والتي انتهت بشكل دموي للغاية. وبالطبع، لم يكن مسموحاً أبداً مساندة من يشهر العداء للولايات المتحدة، وخصوصاً بعد الدعوات القضائية التي رفعت في الولايات المتحدة بحق تركي الفيصل وثلاثة آخرين من الحكومة السعودية بحجة أنهم قدموا لأسامة بن لادن مساعدات مالية هائلة (5) استخدمت لاحقاً في تمويل الأعمال الإرهابية على الأراضي الأمريكية.
وضعت إذن مقاسات الثوب الذي يجب أن يرتديه الخصم المطلوب للتيار الجهادي التكفيري كي يستمر بالنشاط ولكي تحصل الحكومة السعودية على ماتلفت به أنظار المتحمسين بعيداً عنها؛ هذه المقاسات التي شرحت أعلاه لم تكن تلائم سوى إيران حينها، وتيار الممانعة في المنطقة لاحقاً - أو ما يصطلح مثقفو البترودولار والإدارة الأمريكية على تسميته اليوم باسم "الحلف الشيعي" أو "الهلال الشيعي". بعد إيجاد الخصم كان اختيار ساحة القتال أمراً سهلاً؛ فالعراق الذي احتل في العام 2003 ونجحت فيه الأغلبية الشيعية، المنظمة بشكل جيد في أحزاب سياسية قديمة طالما عارضت نظام صدام حسين، في الانتقال إلى صدارة المشهد والإمساك بمقاليد الحكم، بدا أكثر الساحات ملائمة للاشتباك مع الخصم الجديد: إيران. وهكذا تم الترويج لما يعرف اليوم باسم الحرب السنية الشيعية والتي تلعب فيها المملكة السعودية دور حامية السُنة وهي بذلك تكون قد نجحت ليس فقط بالتخلص من الخطر الداهم المتمثل بالشباب المتحمس وبالمزايدين على تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة، بل تكون قد نجحت أيضاً في الحصول على شرعية من نوع ما، طالما افتقدتها وكانت بأمس الحاجة إليها. وتكون أيضاً قد نجحت في تجميع أعوانها في المنطقة بشكل علني وصريح ضمن تحالف يحظى بالرعاية الأمريكية الصريحة ودون أن تشعر المملكة السعودية – أو يشعر أعوانها هؤلاء – بأي حرج من عمالتهم للسعودية أو الولايات المتحدة – كما هو الحال في لبنان اليوم مثلاً.
النشوة السعودية وكيف وصلت حد الجنون؟
تعيش المؤسسة الحاكمة في السعودية اليوم نشوة غير مسبوقة، فلأول مرة تتمكن المملكة من الحصول على "آلية" ما ليس من سماتها فقط أنها آلية دفاعية لتصريف الأخطار الداخلية ولكنها أيضاً آلية هجومية متكاملة قادرة على العمل ضمن مساحة الإقليم برمته وبكلفة منخفضة نسبياً، إلا أنها آلية فعالة وقادرة على إيقاع إصابات هائلة إن لم تكن إصابات مميتة في صفوف الخصم. الأمر المثير للاهتمام هو أن المملكة السعودية التي كانت دوماً تصنف ضمن المراتب العشرة الأولى عالمياً من حيث قيمة الإنفاق على المصاريف العسكرية (6) لم تشعر أبداً بذلك الشعور بالنشوة والقوة الذي أعطاها إياها التحكم بالتيار الجهادي (التكفيري) والذي كان ينتشر أفراده في الشرق الأوسط اليوم ولاسيما في العراق وسورية ولبنان. هذا الشعور بالنشوة دفع السعودية إلى التصرف بطريقة غير مسبوقة في تاريخها المعاصر حيث تجرأت لتعلن اختلاف رؤيتها عن الرؤية الأمريكية لما يجب القيام به في سورية وفي الشرق الأوسط عموماً (لعل الاستثناء الوحيد هو قرار فيصل بوقف تصدير النفط في العام 1973).
هذه النشوة السعودية تستوجب المتابعة الدقيقة؛ خصوصاً مع الإشارات الأخيرة التي يمكن أن تفسر على أن السعودية قد وصلت إلى مرحلة الجنون أو شبه الجنون بعد التفجيرين الانتحاريين الذين استهدفا قبل يومين السفارة الإيرانية. فقبل التفجير كانت كل التسريبات الإعلامية تفيد بأن الهدف القادم للعمليات الانتحارية في لبنان هو استهداف الاحتفالات بذكرى عاشوراء سواء في التجمعات أو في المواكب الشعبية. مضت ذكرى عاشوراء بسلام، ولم يحصل أي تفجير انتحاري أو غيره. ولكن يجب أن لا ينخدع المرء؛ فعدم وقوع تفجير لا يعني أنه لم تكن هناك محاولات للتفجير، والتفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية، وإن لم ينجح في تفجير السفارة نفسها، يجب أن لا ينظر إليه فقط بحجمه الحالي الذي أوقع أكثر بقليل من عشرين شهيدا، فما تم استهدافه هو السفارة بكاملها والهدف كان تدمير السفارة بمن فيها من مسؤولين ودبلوماسيين إيرانيين. مثل هذا التفجير هو دليل جنون غير مسبوق ومجهول العواقب.
ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو متى بدأ هذا الجنون فعلاً؟ هل بدأ مع استخدام غاز السارين في غوطة دمشق في 21 آب والذي صرحت مصادر دبلوماسية روسية بأن عملاء تابعين للسعودية كانوا هم من نقل هذا الغاز عبر الأردن إلى الغوطة حيث استخدموه لاتهام الحكومة السورية؟ أم أن الجنون السعودي بدأ أبكر من ذلك بكثير. بدأ في لبنان تحديداً ومنذ أكثر بقليل من عام؛ وبطريقة غامضة مشابهة لما كان قد حصل في غربي بيشاور عندما تم اغتيال الشيخ عبد الشيخ الله عزام في تشرين الثاني 1989، بعد أن بدا واضحاً بأن وجوده قد أصبح عائقاً في وجه طموحات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. ألا يجب أن نتساءل اليوم لماذا كانت المخابرات الإماراتية هي تحديداً من حذر العميد وسام الحسن رئيس فرع المعلومات في لبنان من أن القاعدة تخطط لاغتياله؟ ولماذا لم يصله مثل هذا التحذير من قبل الجهاز المخابراتي الذي يرعى عملياً القاعدة في المنطقة كلها ويملي عليها خطواتها وأهدافها؟ وكيف لم يكن بوسع هذا الجهاز المخابراتي أن يحمي أحد رجاله في لبنان من "النيران الصديقة"؟ أسئلة كثيرة تبقى بلا إجابات والحقيقة الوحيدة أن الإجابات السهلة على هذه الأسئلة تعني فقط بأن هناك في الشرق الأوسط من تجاوز منذ زمن بعيد مرحلة الجنون آخذاً نفسه وحلفاءه والشرق الأوسط برمته معه إلى المجهول.
***
(1) تم تنفيذ حكم الإعدام بناء على الأمر الملكي رقم 24207/ الذي أصدره الملك خالد بن عبد العزيز بقتل المتورطين من جماعة العُتيبي المقبوض عليهم وتوزيعهم في عدد من المناطق للعبرة ، حيث تم قتل 63 متورطًا موزعين على ثمانية مدن سعودية على النحو التالي: مكة المكرمة 15 ، المدينة المنورة 7، الرياض 10 ، الدمام 7، بريدة 7، حائل 5، أبها 7، تبوك 5.
(2) في مقابلة مع مجلة "المجلة" حول جماعة العتيبي نشرت في العدد 1533 الصادر في شهر تشرين الثاني – نوفمبر – 2009.
(3) الكتيبات التي نشرها العُتيبي في الكويت: "الخليفة: مبايعة الإمام والتعهد بطاعته" وهو كتيب من 37 صفحة يشرح فيه كيف خدع الحكام المثقفين و عامة الشعب؛ "حقيقة التوحيد كما جاء في القرآن الكريم" وهو كتيب من 48 صفحة؛ "الدعوة الإخوانية: كيف بدأت وما هي أهدافها" وهو كتيب من 36 صفحة يتضمن إرشادات وتحذيرات بشأن المخاطر الجسيمة والفساد الموجود بالمدارس والجامعات؛ و "ميزان حياة البشر: الأسباب التي من أجلها حاد الإنسان عن الطريق المستقيم" وهو كتيب من 27 صفحة.
(4) ذكر أسامة بن لادن جهيمان العُتيبي وجماعته وأبدى تعاطفه الشديد معهم ولاسيما من حيث إدانته لرد الفعل العنيف الذي قامت به الحكومة السعودية ضدهم لأن "الموجودين في الحرم بضع عشرات، وأسلحتهم خفيفة، أكثرها بنادق صيد، وذخيرتهم قليلة وهم مُحاصَرون، ولكن عدو الله... فعل ما لم يفعله الحجاج من قبل، فعاند وخالف الجميع، ودفع بالمجنزرات والمصفحات إلى داخل الحرم، ولا زلتُ أذكرُ أثر المجنزرات على بلاط الحرم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا زال الناس يتذكرون المآذن يكسوها السواد بعد قصفها بالدبابات، إنّا لله وإنا إليه راجعون" (من خطبة لأسامة بن لادن بعنوان "النزاع بين حكام آل سعود والمسلمين والسبيل إلى حله" نشرت على "موقع التوحيد والجهاد" على الإنترنت في شهر ذي القعدة 1425 هـ الموافق كانون الثاني 2005م؛ وهي متداولة أيضاً في العديد من المواقع على الانترنت تحت عنوان "من هم أصحاب الفكر الضال, والزمرة الفاسدة ؟؟").
(5) تعتمد هذه الدعوات على الاتهامات التي وجهت تحديداً لتركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية حول تقديمه مبلغ 400 مليون دولار لأسامة بن لادن بعد تفجيرات الخبر.
(6) بحسب إحصاءات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي عن الإنفاق العسكري العالمي في العام 2013 فإن المملكة السعودية تأتي في المرتبة السابعة عالمياً من حيث الإنفاق العسكري بإجمالي يقدر بـ 56.7 مليار دولار مقارنة مع فرنسا التي تأتي في المرتبة السادسة عالمياً بإجمالي 58.9 مليار دولار وروسيا التي تأتي في المرتبة الثالثة عالمياً بإجمالي 90.7 مليار دولار. إجمالي الإنفاق العسكري السعودي السنوي يعادل ماتنفقه تركيا وإسرائيل وإيران وباكستان والجزائر مجتمعين.
التعليقات
استقراء أكثر من رائع .. نستحق
إضافة تعليق جديد