مراسل الـCNN: غزة حطمت جدرانها فمن يحطم بقية جدران العرب
مراسل الـ CNN بن ويدمان كان شاهدا على العديد من الأحداث الرئيسية في سجل الصراع العربي الإسرائيلي.. وآخرها سقوط الحائط الذي يفصل بين غزة ومصر. حيث كتب:
ثمة بالتأكيد أمر مشوق وغامض يحيط بفكرة التبخر المفاجئ للحدود.. أمر يشبه تشبّع الأجواء بسريان تيار كهربائي يمكن لمسه براحة الكف، وإن كان من المستحيل، رؤيته.
لقد كانت مشاهدة عشرات الآلاف وهم يجتازون السور الحديدي الشاهق الذي بنته إسرائيل على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة أمراً مدهشاً.. فالحاجز المرعب الذي فصل غزة عن العالم بات اليوم مسجى على ظهره، وقد حولته أقدام الفلسطينيين إلى معبر أو ممشى صغير يدوسونه عند دخولهم مصر.
ولا أخفيكم سراً إذا قلت أن الأمر أنعش في أذهان البعض ذكريات فترة خلت، كان آخرها زمن الإمبراطورية العثمانية التي أفل نجمها مطلع القرن الماضي، حين كان السكان ينتقلون من بغداد إلى القدس والقاهرة وتونس دون أن يعترضهم سائل، وقبل أن يرسم الاستعمار والدول الحديثة خطوط الحدود الحالية.
وفي الواقع، فإن العرب في مختلف دول المنطقة تواقون بعمق للوحدة وحرية التحرك عبر الحدود، وتغمرهم حيال ذلك مشاعر جياشة... وليس عليك لمعرفة السبب سوى محاولة اجتياز الحدود.. أما بالنسبة لي كغربي، يحرص الجميع على أن أتلقى معاملة "خمس نجوم" عند النقاط الحدودية.
لكن الأوضاع قد تصبح صعبة جداً بالنسبة للمواطن العراقي أو الأردني أو السوري، الذي يصطدم غالباً بفظاظة رجال الأمن وسوء معاملتهم، أو بمطالبتهم بدفع رشى "عن طيب خاطر" أو ترك الأمر "لتقدير" حارس الحدود الذي قد يكتفي بوضع يده على بعض متعلقات المسافرين الثمينة خلال تفتيش الحقائب.
وعبر التاريخ، سيطرت على مختلف الأحزاب السياسية العربية هواجس وحدة المنطقة التي يتشارك أبناؤها التراث الديني والعرقي.. فمن جهة، برز الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي دعا لإعادة إحياء "سوريا الكبرى."
كما برز حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حُظر في العراق بعد ما نسب إليه من جرائم في ظل نظام الرئيس الراحل صدام حسين، فيما لا يزال جناح آخر منه ممسكاً بالسلطة في سوريا، والذي نظّرَ لـ"أمّة عربية واحدة من الخليج إلى المحيط الأطلسي."
وعلى المستوى الإسلامي، يبرز أيضاً حزب التحرير، الذي يؤمن بضرورة إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، ويعتبر الحكومات العربية وخطوط الحدود الحالية "غير شرعية."
ورغم أن مطالب تلك الفئات قد تبدوا للمراقبين من الخارج خيالية، إلا أن أفكارهم تلقى رواجاً في مجتمعات تعيش القهر والفساد من حكامها.
ففي بوابة صلاح الدين، المعبر الرئيسي الذي يصل ما بين غزة ومصر، قابلت رجلاًً عجوزاً يرتدي بدلة وربطة عنق ويحمل حقيبة كبيرة، وبرفقته زوجته وابنه الشاب، وقد شرح لي - بهدوء لكن بشكل طارئ - أنه يأمل بأن يتمكن من الوصول إلى مطار القاهرة لإرسال ابنه إلى المغرب من أجل ارتياد الجامعة.
لم أعرف ما إذا كان هذا الرجل وعائلته قد نجحوا ببلوغ العاصمة المصرية، بعدما حظر الأمن المصري على الفلسطينيين الذهاب أبعد من مدينة العريش، على مسافة 40 كيلومتراً شرقي رفح.. وهكذا تعود الحدود لتصبح عائقاً من جديد.
ومعظم من تحدثت إليهم من الفلسطينيين كانوا سعداء بفتح الحدود، إذ قال لي أحدهم: "نحتاج الطعام والدواء والوقود.. نحتاج كل شيء.. بينما يحتاج المصريون للاتجار معنا.. وهذا ما يجب أن يكون الأمر عليه.. فهم بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليهم."
وأضاف آخر: "نحن شعب واحد في بلدين.. يجب أن نكون في بلد واحد."
لكن "الأفكار السامية" لم تكن في بال جميع الفلسطينيين الذين عبروا الحدود.. فبعضهم كان له أحلامه "الدنيوية البسيطة،" كذلك الرجل الذي قال لي: "لا بد لي أن أذهب إلى القاهرة.. أحمل جواز سفر أمريكي.. ولم أذق البيرة منذ خمسة أعوام."
أما على الجانب الآخر من الحدود، فسرعان ما امتزج المصريون، المميزون بلهجتهم المعروفة، بأهالي غزة الذين صارعوا شظف العيش طويلاً، ودخل الجميع في معمعة البيع والشراء الممزوج بنفس ثوري.
وبالطبع، لم يخل الأمر من بعض لحظات التوتر، كما حدث عندما حاول حرس الحدود المصري وقف دخول الفلسطينيين إلى مصر لفترة، فتبادل الجانبان تراشق الحجارة والشتائم.
لكن عندما عاد الأمن المصري لفتح الحدود، تعانق السكان، وعلت الصرخات التي تشكر الرئيس المصري، حسني مبارك، على هذا القرار، حتى أن البعض وزّع وروداً على عناصر الأمن المصري الذين راقبوا المكان بصبر شديد.
وهناك الكثير من التحليلات حول حقيقة ما حدث في رفح، والمدى الذي يتحكم بالأحداث، ومن الصعوبة الإحاطة بها جميعها.
فقد حاولت إسرائيل الضغط على حركة حماس، وذلك عبر قطع إمدادات الوقود والبضائع عن القطاع، على أمل أن يُحدث ذلك ضغطاً شعبياً على الحركة لوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل.. لكن الأمر انقلب عليها، فما من أحد اليوم يشك بأن حماس استغلت الفوضى لإدخال الأسلحة التي تحتاجها وتثير خوف تل أبيب. بل وتمكنت الحركة من حشد التأييد الشعبي لها من مختلف الفصائل، حيث رأى الكثير من الفلسطينيين أن خطوة فتح حدود القطاع جريئة بكل المقاييس.
حتى أن بعض الأوساط الإسرائيلية بدأت تتساءل حول جدوى قرار الحكومة في تل أبيب بمقاطعة حماس، وتقول بأنها (الحركة) المتهمة بشن هجمات انتحارية وقصف صواريخ على إسرائيل تثبت بأنها خصم جدير لم يسبق لإسرائيل أن قابلته في الساحة الفلسطينية.
وفي الوقت عينه، يحاول رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، صرف النظر عمّا يحدث في رفح.. فقد سبق له أن طلب من إسرائيل علناً تخفيف وطأة الحصار المفروض على القطاع، غير أن تل أبيب تجاهلت مطالبه، قبل أن تقوم حماس بتنفيذ ما تريد بالقوة وتطيح بالأسوار التي تطوق غزة.
في العالم العربي، يندر الرجال الذين يقدمون الأفعال على الأقوال، وفي حال وجدوا، فإنهم يتحولون إلى أبطال بشعبية طاغية، أياً كان رأي الغرب بتصرفاتهم.
وعلى الولايات المتحدة الآن أن تبدأ البحث في إجراء مراجعة سريعة لسياستها المتعثرة في الشرق الأوسط.. ففي العام الماضي، دعمت عباس وقواه الأمنية التي سرعان ما تهاوت وسقطت أمام حماس في غزة، كما دعمت الحصار الإسرائيلي على القطاع، وسرعان ما سقط الأخير بدوره.
أما أحلام الرئيس الأمريكي، جورج بوش، بإحياء عملية السلام، ومؤتمر أنابوليس، الذي عقدت عليه الآمال للوصول إلى تسوية، فقد طوتها الأحداث المتسارعة.
لكن الأمور لن تستمر على حالها في رفح.. فصباح الاثنين شاهدنا عناصر الأمن المصري يقومون بوضع أسلاك شائكة فوق حائط منخفض الارتفاع، يحدد المنطقة المحظورة بين قطاع غزة ومصر، وبصورة تدريجية، بدأ الوضع يعود إلى السيطرة، لكن غزة حققت سابقة ستبقى في الأذهان.
لأيام قليلة على الأقل، سقطت الحواجز والجدران التي طوقت غزة، وتلاقى الفلسطينيون والمصريون في مشهد بدا اعتيادياً وطبيعياً، لا بل ظهر وكأنه المسار الذي يجب أن تكون الأمور عليه أصلاً بالنسبة للسكان على ضفتي الحدود.
لقد هز سقوط جدار غزة العالم العربي، وقد يهز أيضاً كل الأسوار والحدود التي تفصل بصورة مصطنعة - وفق ما يقول البعض - هذه المنطقة.
المصدر: CNN
إضافة تعليق جديد