مارتا: قصة ليندا المرقبي
ليندا المرقبي:
" مارتا..." .
حين تستوطن النوافذُ ...غرفةً...
لن يغير الضوء عاداته مهما امتد الدهر ..
وستبقى أمه الشمس ترسله لصا يسرق جهارا الغفلة من عيون العباد ويشرق عليهم من النوافذ .
نافذة "مارتا" ....كانت استثنائية...
نافذةٌ خزنت اضواء شموس الأكوان كلها وحفظتها في خشبها العتيق المعتق بخمرة تجرعها يوما ما.. عاشقان، كانا ينظران ويتهامسان من وراء زجاج كان لها يوما على ماكانت تطل عليه من شوارع وبيوت، وشَمَا الخشبَ بعطر وماء جسديهما المتعاركين بشوق في وصال همجي التنقلات للأكف والاذرع المتكئة على درفتها ذات زمن...
ليسقيا النافذه ذكرى حب ستحمله معها حين تُقْتَلَع من حائطها وتسكن غرفةً ...
هي غرفة "مارتا"
-----------
" فلامنغو ".. في أواخر عام ٢٠١٥ ..
عام لي في "الريو" كان قد مر ..
شاء القدر ان استأجر غرفة في احد منازل "فلامنغو" . حي انيق في "ريو دي جانيرو" البرازيلية مقابل جبل السكر المطل على المحيط ...
سبعة اشهر ونيف شاركتُ فيها سيدة برتغالية الام وبرازيلية الاب اوقاتا بالوان الطيف السبعة..
فحين تسكن مكانا ما.. فهو يسكنك وان لم تنوي. ومحتويات وقصص منزل "مارتا" السيدة غريبة الاطوار سكنتني .
سيدة هي في منتصف الستينات من عمرها عشرينية القوام ثلاثينية الهيئة، اربعينية النظرة الشاردة، خمسينية الزهد المبكر ..
"مارتا" العاشقة لكأس الوسكي جمعت في منزلها تحفا من كل بلد زارته. فهنا تمثال بوذا وهناك اهرامات مصر وعلى الحائط تعويذة "الكابالا" وعلى احد الصناديق الكبيرة التراثية التي اتخذتها كطاولة،صور عائلتها حتى لأم جدتها! وكأن المكان هارب من موقع تصوير احد افلام العصر الفيكتوري.
حين دخلت منزلها لاول مرة -مع رفيق غائب اليوم حاضر في الذاكرة ابدا- . حينها.. لم افكر بذاك المبلغ الضخم لإيجار غرفة في المنزل لاني كنت مشتتة بين ان استغل الدقائق لاحفظ في ذاكرتي صور واشكال التحف واللوحات، وبين فكرة اني سأقطن في منزل به حيوان اليف يقفز علي منذ الان لاول مرة، وهذا بحد ذاته كان شيقا ان اجربه ايضا. نقلت امتعتي الى فلامنغو ولم احتج وقتا طويلا لأتاقلم مع هذا "اللوكيشن" الفريد الذي يناسب شخصي..
"مارتا" كانت تقضي في غرفتها معظم الاوقات. ولباقتي وتربيتي منعاني لفترة طويلة من انتهك عزلتها في غرفتها المنزوية والتي كنت امر ببابها النصف مفتوح فتزاورني من وراء الشق رسوماتٌ ولوحات لها رسمت بالرصاص وعلقت على الجدار. و بطريقة صبيانية كنت اتلصص قليلا علني اتلقف مشاهد اكثر ليرتطم بصري بدرفة نافذة خشبية قديمة التصميم فيكتورية الاقواس .
لاول وهلة ظننته شباكاً في الغرفة لكن اي شباك هذا بميلان وانحناء يشبه من يتهيا لفقدان وعيه؟! وعلى ماذا يطل ...!؟
و يبدو ان عدم فضولي العلني -في ظاهره- اثار اعجاب السيدة التي بدات تأنس لوجودي معها، وحظي الاكبر انها كانت تتكلم الانكليزية، فلم يكن حينها اي مجال لي لاي حوار معها بالبرتغالية الصعبة ..
فتحت مارتا" باب غرفتها لي وقفزت كلبتها "كليو" علي تدعوني مع سيدتها للدخول..
حالةُ نصف السُّكْر الدائم التي كانت تلازم السيدة اضفت عليها مع اضواء غرفتها الصفراء الكلاسيكية، سريالية محببة لي وانا المهووسة بقصص السيدات الوحيدات طوعاً وما اكثرهن في الريو .. ما اكثرهن ..!
جلست على طرف سرير "مارتا" التي كانت تضحك من كلبتها التي مسحت ارضية الغرفة المغبرة وهي تتلوى وتقفز مرحبة بالضيفة ...
لكن الكلبة وصاحبتها لم يستطيعا ان يحيدا بصري عن درفة الشباك المتكئ على الحائط.
لاحظت المراة ذلك فقالت بالانكليزية:
"شباك الريح" . Wind window..
واردفت .. رياح الحب ..
شعرت بزهوة النصر في داخلي لاني توقعت قصة حب من وراء النافذة النائمة في الغرفة ..
جيد ان "مارتا" كانت في حالة سُكر فحماسها زاد ودعاها اكثر لتحكي وتروي عن شباك احضرته معها من غرفة جمعتها يوما مع حبيب جزائري الاب وبرازيلي الام..
ولعلها بمالها اقنعت صاحب الغرفة ان يقتلع الشباك وتشتريه منه كما اقتلع حبيبها لها قلبها يوماً...حين هجرها.
احبت فيه ملامحه العربية الافريقية.. فصورته بين الاصدقاء تسيدت معظم الصور المصطفة على جدران الممر في الرواق.
اما في غرفتها... كانت الصور افرادية له وحده، يقف ..يجلس..يتمدد..
لوحده تفرد بوجوده..
رجل جميل المحيا اسمر البشرة بذقن دائرية متعارف عليها في بلادنا ( السكسوكة) وهذا نادرا ماتراه عند الشاب البرازيلي. طويل القامة بابتسامة عريضة واسنان جميلة، أنف عريض عربي وعينين تلمعان بشقاوة تحبها حواء. الرجل كان وسيما في صوره الملتقطة بكاميرا الستينات والسبعينات ..
قلت لها مشجعة لان تتابع السرد: "رجل وسيم محظوظة انتي يا سيدتي" ..
ضحكت بهستيريةِ الممسوس، فعرفت ان للقصة تلابيب واطراف..
- "محظوظ به الرب اليوم، فهو توفي منذ تسعة اعوام "..
هنا ..سقط قلبي حينها واعتذرت وتململت، فقصص الفراق تشل لباقتي فأسهب في الكلام المتفلسف معتقدة اني اقدم عونا معنويا.
وانقذتني السكيرة من تلبكي بقولها..
- " لاباس ..لم اكن اعيش معه حين غادر العالم الارضي..فهو كان مغادرا منذ البدء.. لافرق لافرق ..كنت قد تركته عند الباب هنا قبل موته بخمسة عشر عاما " !.
شككت بنفسي اني لم افهم الانكليزية المخلوطة بالبرتغالية وبنكهة الويسكي،
فوضحت لي انهما كانا مفترقين منذ خمسة عشر عاما حين سمعت بوفاته من صديقة مشتركة..
الرجل مات..اذا .. منذ عقد..
مات وفي قلبه ذهول من "مارتا" التي لم تنطق حين عاد اليها في اواخر الثمانينات بعد هجره لها لاعوام ، رادةً له الصاع بخمسة عشر عاما من الاقصاء عن عالمها ..حين عاد.
هكذا..عاد وبكل بساطة ..
طرق الباب..
ولعلها كانت متمددة بزهد كعادتها في بيتها هذا الذي ورثته عن اهلها..قامت من سريرها، ولم تكن عندها كلبتها "كليو" حينها. فالقصة قديمة منذ اكثر من خمس وعشرين عاما عن اليوم..! كانت البرازيل حينها تعيش فوضى الانقلابات والتظاهرات، كانت أواخر الثمانينات بداية النهاية لحكم العسكر الذي انهك البلاد في مظاهرات اعتقدت "مارتا" بسببها ان بابها لم يطرق، بل لعله صوت المفرقعات في التظاهرات. لكن الباب كان قد طُرِق بقرع محموم مقترن بالجرس: " تن تتنتنن .تن تن"....كما قلدت لي بحركة كوميدية اضحكتني وانا سريعة الابتسام بما لايتناسب مع الموقف ..
فتحت المراة الباب واعتقدت نفسها تهذي فعادة شرب الوسكي رافقتها من صباها ..
كانت في نهاية الثلاثينيات حينها وهي من مواليد 1954..
رجلها الطويل.. كان واقفاً امامها بيديه المرتخيتين وشيب كسر سواد شعره القاتم ... تغيرت ملامحه عليها -كما قالت- حد التباين، صوته كان كل ماحافظ عليه ..
" Oi.. volta.. "
كلمتين فقط ماقاله..
- " مرحبا ..عدت .."
لن انسى الطريقة التي روت بها السيدة القصة..! هي تعلق في ذاكرتي اكثر من تفاصيلها بملامح "مارتا" وخطوط وجهها وصوتها الهازئ وضحكتها التي لاتناسب الصبغة الحزينة للقصة وخلطها كل حين بين اللغتين الانكليزية البرتغالية وانا اجهد بأن افهم اكبر قدر من الحكاية مرددة بوجه مشدوه : " اي.. اي" ! بالعربي ، بمعنى: اكملي ماذا حدث بعد ذلك؟!
- مم لاشيئ..لم يحدث شيئ..تركتُ له الباب مفتوحا ودخلت الغرفة بعد ان طعنته بنظرة مني في خاطره، هزأت منه بضحكة على وجهي و نجحت ان اكبح دمعتي من النزول
وكنت اعلم انه لن يدخل ورائي ..وخفت ان يخيبني ويلحق بي ..و جيد انه لم يفعل ..دقائق مرت قبل ان اتاكد انه غادر ..."
وكررت عبارتها بعينين الى السقف..
- "جيد انه لم يفعل" ..
ذهلت منها ..
فصور الرجل تملا المكان..
ورسائل الحبيب مكومة باناقة على طاولة بجانب سريرها بلونها الاصفر القديم، مربوطة بشريط اسود الى جانب كومة رسائل اخرى مربوطة بعناية بشريط احمر،
وحين سألتها عن هذه المغاليف، وضحت لي ان الرسائل ذات الشريط الاحمر، رسائلها اليه، اما التي بالاسود فهي منه لها قبل ان يهجرها الى دبي ويتزوج هناك ..
رسائلٌ من ايام الحب العشريني، كان يكتبها لها حتى حين يتنقل بين المدن في عمله كمهندس، لقد كان كان يكتب لها دائما..هو يكتب وهي تجيب ، والشرائط تنتظر مع الزمن لتَصِرَّ الورق وتحفظ السطور.. ويتلاشى الافراد ويذوون بالفناء..
قصة المراة التي تعيش مع حبيبها في زوايا المنزل فقط بصوره ورسائله وبقايا عطره وانفاسه المدفونة على درفة شباك قديمة تنام معها في غرفتها..! قصةٌ تتنافى مع نهاية الحكاية ! ..نعم ..علها ارادت ان تحتفظ فقط بطيف حبيب كان يكتب لها ويبثها الشوق..
لعلها ..لاتريد ان تتذكر انه هجرها وخانها..فأقصت وجوده الفيزيائي عن عالمها...وهما اللذان عاشا معا ست سنوات
وهجرها سبعا..وعاد اليها جسدا حقيقيا لخمس دقائق فقط عند الباب .! واكل من ذكراه الغياب بعدها.. خمسة عشر عاما .
يلازمني التفكير بين الحين والاخر..
ترى..! ماذا راى ذاك الرجل في عيني المراة حتى احجم عن الدخول وراءها وهو العائد لحبيبة قديمة ..! اي لغة تخاطبا بها في الدقائق الخمس تلك...؟!
أثرت بمكنوني الحكاية حتى اليوم.
ولا انسَ اني حين انتقلت من منزلها لحي "السنترو Centro" الذي يبعد عدة كيلو مترات، كنت اتقصد بين الحين والاخر العودة لفلامنغو والتأرجح على مرجوحة مقابل الشاطئ وجبل السكر. كنت ارغم نفسي على الوصول لباب مبنى "مارتا"... واقطع الطريق لأتمرجح على الارجوحة في الحديقة ..
كله لأرغم نفسي على التذكر بأن هناك قرارت كان يجب أن تتخذ وان اترك كل شيىء عند الباب، وان ادعو ما يؤذيني ليغادر حياتي بنظرة "مارتا" الصامتة المخمورة.. كنت آتي "فلامنغو" لأتذكر "مارتا" ولأغذي روحي بذكرى الشباك العاشق..
-----------
كلنا اليوم محتاجون "فلامنغو" ..
بأرجوحة نتأرجح عليها..
ونتأرجح..
ومع صعود السلاسل بنا ..
نتنهد باصرار لاتخاذ قرار
وبهبوط مقعد الارجوحة..
لابد ان يتغير قدر و مسار ...
أما عن نافذتها ... "مارتا"..
دعها تعانق الذكرى بظلٍ ملقى على جدار..
إضافة تعليق جديد