عندما يحترق الألماس
لم يكن «سوبرمان» يمارس الخيمياء عندما يلتقط قطعة من الفحم فيضغطها بين يديه حتى تتحول الى ألماس. بل ان حركته الاسطورية تلك مبنية على فهم علمي لحقيقة الألماس الذي هو كالفحم، من الكربون الصافي، تحول الى ما هو عليه بسبب آلاف السنين من الضغط تحت سطح الارض.
المعرفة العلمية الاكاديمية قد تخالف الكثير من المسلمات وتفاجئ الانسان العادي. فهل من السهل التفكير مثلا بأن الألماس، اصلب المواد المعروفة للانسان، يحترق؟ بالفعل! فعندما ينتقل الذهن البشري المثقل بالمسلمات الخاطئة الى الحالة العلمية، فإن الكثير من المستحيلات ستبدو ممكنات. فأي متخصص في الكيمياء يعرف أن الكربون يحتاج الى الأوكسيجين ليتحولا معاً الى ديوكسايد الكربون، وهو تماماً ما قام به أحد الهواة العلميين عندما وضع ألماسة في الاوكسجين السائل ليحصل على اشتعال للألماس هو أقرب للأنفجار (راجع Popular Science 10/2009).
عزيزي القارئ، ليس هذا المقال عن القصص المصورة ولا عن الفيزياء المسلية، بل هو عن أعمق الأزمات الفكرية التي تمنع أمتنا عن اللحاق بالعصر. هو عن عقلنا الجمعي، عن مستواه وعن أزماته.
[[[
في 25 حزيران/يونيو 2012 كتبت الصحافية رشا ابو زكي في جريدة «الأخبار» مقالاً بعنوان «لبنان بلا عقل»، وهو عنوان موفق، وإن كان يصلح اكثر لأن يكون عنوانه «العرب بلا عقل أكاديمي». ويتناول المقال وضع البحث العلمي العربي بالأرقام، مشيراً الى ضحالة هذا الانتاج. والواقع هو أسوأ من ذلك بكثير، فمعظم المقالات العلمية التي تنشرها الجامعات العربية إنما هي من بقايا الأبحاث التي قام بها الأساتذة العرب خلال دراستهم في جامعات الغرب.
والعقل هنا هو تعبير دقيق عن العقل الجمعي لمجتمع ما، وهو ما يسميه الفيلسوف الالماني يورغان هابرماس بالفضاء العام public sphere ويعرّفه بأنه مساحة النقاش حول مشاكل المجتمع من أفراد لآرائهم تأثيرها على قرارات السلطات (التي هي عضلات المجتمع) وسياساتها. وفي بلادنا يتألف الفضاء العام، للأسف، من السياسيين والصحافيين الذين بمعظمهم ليسوا ببعديين عن اجندات السياسة الضيقة. أما القطاع الأكاديمي، الذي هو أعمق القطاعات الفكرية وأرقاها وهو الوريث الحقيقي للعلم، فإنه غائب تماماً عن أي تأثير فعلي، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في أي من الشؤون العامة الأخرى التي كلها قطاعات علمية أكاديمية بامتياز.
[[[
موضوعنا هنا هو البحث العلمي في العلوم الطبيعية (غير الاجتماعية)، حيث لا تكمن المشكلة كما تظن أبو زكي، في عدد الأبحاث المنشورة، بل في الفصام التام ما بين العلم والحياة في بلادنا. فكل هذه الابحاث العلمية المنشورة لها تأثير يقارب الصفر على يوميات حياتنا. لا بل يمكن الادّعاء انه باستثناء قطاع الهندسة المدنية فإن استخدام المعارف العلمية التي تدّرس في الجامعات هو أمر غير موجود في مجتمعاتنا. فالزراعة ما زالت المعلومات الشفهية المتوارثة هي التي تديرها، ولا يختلف الأمر في الصناعات التي يحكمها عقل حرفي يعتمد المنقول الشفهي والتعلم على أيدي «المعلّم». علماً أنه حتى في الغرب، فإن معيار كمية النشر العلمي قد خف تأثيره ليستبدل بما يسمى بمعيار التأثير الاقتصادي economic impact وهو مقياس يعتمد القيمة الاقتصادية التي انتجها البحث العلمي للمجتمع المحلي للجامعة.
[[[
في أرياف بلاد الشام، وحتى في بعض مدنه، يعتمد معظم الناس على مدفأة تسمى «الصوبا» أو «الصوبيا». و«الصوبا» هي جهاز شديد البساطة، يصنع في ورش الحدادة المحلية، وهي عبارة عن علبة حديدية مع وعاء للمازوت. الصوبا التي تحرق المازوت ما زالت اليوم الجهاز نفسه منذ عشرات السنين، مع تطور بسيط في الشكل الجمالي. لم تعرف هذه الأرياف اي شيء قبل الصوبا للتدفئة (إلا الفحم ربما)... ولم تعرف شيئاً بعد غيرها كأداة مقبولة الكلفة للتدفئة.
الصوبا فاكهة الشتاء اللذيذة عندما تعمل بشكل جيد، ولكنها سريعاً ما يمكن أن تتحول الى كابوس مخيف. فغالباً، بعد وقت من الاستعمال، تحدث ظاهرة «النفخ» التي تحدث عندما تقرر الصوبا ان تخرج ما في أحشائها من رماد (الشحبار بالتعبير العامي) ودخان الى داخل الغرفة عبر انفجار صغير غالباً ما يؤدي الى اسوداد وجوه المتدفئين (حرفياً بسبب الشحبار). والنظريات القروية متعددة في اسباب «النفخ»: من نوعية الصوبا، الى طريقة وضع المدخنة وأنابيب الانبعاثات، وغيره مما لا دليل على صحته. لكن الأكيد أن هذا الجهاز البدائي لا يقوم بعملية احتراق كاملة مما يؤدي الى تراكم الرماد وبالتالي الاختناق ثم النفخ.
ترى لماذا فشل مجتمعنا في إيجاد اي بديل عن الصوبا أو حتى إحداث أي تطوير ملحوظ على جهاز بسيط لكنه شديد الحيوية؟ ففاتورة المحروقات تضغط بشدة على البيئة والاقتصاد الوطني، على ميزانية العائلات وحتى على مستوى الهجرة من الريف الى المدينة؟ لماذا لا تزال المعرفة الشفهية والحرفية هي وحدها من لها تأثير على الواقع؟ وأين ذهب كل التقدم على مستوى التعليم والجامعات خلال الخمسين سنة الماضية؟
[[[
لكثرة ما عانيت من الصوبا، توجهت لطلب المساعدة من صديقي وجاري سليم. رجع سليم (اسم مستعار لشخص حقيقي) صاحب الدكتوراه بالهندسة الميكانيكية من إحدى أرقى الجامعات الاميركية الى بلدته في ريف لبنان، بعد عشرين سنة قضاها في شركة GM الأميركية كواحد من كبار مصممي الشركة، لا سيما في مجال تصميم الوسادات الهوائية.
ذهبت الى الدكتور سليم وهو أيضاً يتدفأ على الصوبا لأسأله عن تفسير لمشكلة النفخ. سرّه السؤال واشتعلت عيناه بالبريق وهو يشـرح فيزياء الاحتراق، وكأنه كهل يروي مغامرات الصبا. الأمور واضحة عنده، وصل بشرحه الى ما يحدث بين الذرات خلال عملية الاحتراق. لكن عندما سألته عما يلزم حتى نصنع مدفأة أفضل من الصوبا، انطفأ البريق من عينه وتنهد. الجواب كنت أعرفه: نحتاج لجامعة فيها مختبر بسيط وطلاب دراسات عليا. غيرت الموضوع لأني اعرف معانـاة الدكـتور سلـيم مع جامعـاتنا، فالدكـتور ما زال يفكر بالامـيركاني، ما زال يشتري الجريدة ويتوقـع ان يجد فيها إعلاناً من جامعة أو شركة عن وظائف شاغرة تناسب كفاءته، وهو يتوقع، انه بعد ذلك، سيجري مقابلة لا يسأل فيها إلا عن كفاءته، وبعدها سيُقدم له عرض يفاوض عليه ويحسن شروطه كما يفـعل في بلاد العم سام. لكن سليم بعد سنين طويـلة من عـودته من تلك البلاد، ما زال عاجزاً عـن تأمين ساعة تعليم في جامعة، لأنه لا زال يصر أن لا يعتمد إلا على كفاءته.
[[[
يُؤخذ علينا نحن الذين نكتب، بأننا نوّصف واقعاً ولا نقدم حلاً. الحل واضح وكذلك المسؤولية التي تقع على جامعتنا الوطنية ومركز البحوث الصناعية اللذين لا ينقصهما المال ولا الصلاحيات. كما في كل البلاد المتطورة، تقع على مؤسسات الدولة كالتي ذكرنا، مهمة تطوير وتوجيه الاختصاصات التعليمية والبحثية نحو تقديم الحلول للمشاكل التي يواجهها البلد. فما المانع ان يكون هناك «مركز علوم الاحتراق» ويعمل فيه اصحاب الكفاءة في بلادنا (وما اكثرهم) مثل الدكتور سليم. فسليم، على ما يدّعي، قادر على ان يرفع كفاءة الصوبا من عشرين في المئة ليضاعفها الى أربعين في المئة من خلال تأمين عملية احتراق كامل. وهذا الاحتراق الكامل لا يقتطع نصف الفاتورة الاقتصادية فقط بل أيضا ثمانين في المئة من الفاتورة البيئية للغازات المنبعثة. فعلى حدّ تعبيره، نحن في «صوبتنا» البدائية لا نحرق المازوت بل نتلفه (ربما كان يجب أن يكون العنوان: عندما يحترق الألماس بالعلم ولا يحترق المازوت بالجهل).
[[[
الشتاء على الأبواب ... ابتدأت التشارين وبعدها تأتي الكوانين ومعها «الصوبا» التي نحب ونكره، ولكن عنها ما من بديل. وغداً سأقف لأعلم تلاميذي قي كلية العلوم،ما علمني إياه استاذي المرحوم، وأشرح لهم كيف يتحرك الالكترون... في شريحة السيليكون. وجنبي سيعلم أستاذ آخر معادلات الاحتراق... وحركة النجوم في الآفاق. ثم نرجع أنا وهو الى بيوتنا لنتحلق حول «الصوبا» متدفئين، كما تحلق حولها أجدادنا الأميون، وندعو الله ألا تنفخ علينا... آمين يا رب العالمين.
هذه السنة كما كل سنة... ما من جديد، لكنني اتطلع الى تلميذي العنيد، هل سيقف كما وقفت؟ ويعلم كما علمت؟ ثم يرجع الى بيته في الشتاء ليعاني كما عانيت؟ هكذا ينتقل العلم كالوديعة، من جيل الى جيل ثابتاً كالشريعة، بينما الواقع تحكمه خبرات الأجداد وأصحاب الصنيعة، في عالمين لا يلتقيان كأن بينهما جدران منيعة. أم أن «مركز علوم الاحتراق» سيصمم أول مدفأة وطنية، ويحول الدولاب ذو الثروة الحرارية، الى طاقة صافية ونقية، فتتحول النفايات الى وقود بدل أن تكون... أزمة بيئية!
إياد زيعور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد