«الإخوان المسلمون» بين «الريع العربي» و«الربيع العربي»
ترافق «الربيع العربي» مع صعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى مقاعد السلطة في مصر وتونس، بحيث أصبح مقترناً في أذهان الكثيرين داخل المنطقة وخارجها بوصف «الشتاء الإسلامي»، وهو الوصف المسكون بحمولة سلبية واضحة. وراح بعض المحللين ينظر لما أسماه «المؤامرة الأميركية» لتسهيل الصعود الإخواني، وكأن مبارك وبن علي قادا مشروعاً ديموقراطياً تقدمياً يناهض الإمبريالية الأميركية ويقدم بدائل مجتمعية واقتصادية للسياسات التي تتبنى أميركا تصديرها إلى العالم! والحال أن «الإخوان المسلمين» فوجئوا بالانتفاضات الشعبية العربية مثل الأنظمة الساقطة تماماً، وتحركوا في الحالتين المصرية والتونسية على خلفية التظاهرات، وليس في مقدمتها. ومع تمكن التظاهرات من الشارعين المصري والتونسي، وسقوط الطاغيتين بالضغط الشعبي، كان «الإخوان المسلمون» بفضل تنظيمهم الكبير، الأقدر على المزاحمة وانتزاع المكاسب السياسية في المرحلة الانتقالية. هنا يمكن القول أن «الربيع العربي» دخل مرحلته الإخوانية منذ البدء في تنظيم انتخابات سريعة لا تسمح للتيارات السياسية الأخرى برص صفوفها، ومنذ نجاح الاتصالات التي لم تنقطع بين «الجماعة» التواقة إلى السلطة والإدارة الأميركية الساعية إلى حفظ مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية في المنطقة، وهو ما تكلل أخيراً بوصول «الإخوان المسلمين» إلى مقاعد السلطة. هنا لم ينته التاريخ ولم يبلغ «الربيع العربي» خاتمته، بل إنه يفتتح راهناً فصلاً جديداً يتكشف فيه اهتراء التصورات الاقتصادية والمجتمعية لجماعة «الإخوان المسلمين»، العاجزة حتى الآن عن تقديم البدائل الحقيقية للأنظمة الساقطة بفعل ارتباطها العضوي والتاريخي بقيم «الريع العربي».
يتكشف يوماً بعد يوم في مصر خواء «مشروع النهضة»، الذي بشّر به «الإخوان المسلمون» إبان الانتخابات الرئاسية المصرية، لادعاء قدرتهم على إقالة مصر من عثراتها الاقتصادية في حال فوزهم بالانتخابات. ومع انتهاء الانتخابات بنتيجتها المعلومة وفوز محمد مرسي بها، فقد أثبتت الأيام والشهور الماضية أن الجماعة لا تملك مشروعاً نهضوياً ولا اقتصادياً يتجاوز الانخراط في عملية التجارة بالبيع والشراء. يعكس ذلك الخواء قصوراً فادحاً في الذهنية الإخوانية، وبدوره يتأسس هذا القصور على عدم قدرة «الإخوان المسلمين» على التمييز بين التنمية الاقتصادية بمعناها الشامل، وبين عمليات التجارة بوصفها تبادلاً سطحياً للسلع والخدمات، وهو تبادل غير قادر على تغيير عميق للسياسات الاقتصادية بغرض التأسيس لمشروع نهضوي. هنا تتجاوز المسألة للإنصاف جماعة «الإخوان المسلمين» لتطال غالبية تيارات الإسلام السياسي العربي، التي تمحورت أطروحاتها في مرحلة التمكين حول قضايا الهوية لاستقطاب التأييد الشعبي، في حين تبلغ أزمة هذا التيار مداها مع الوصول إلى مقاعد السلطة ووقوفه أمام محك تقديم البدائل والمشروعات المجتمعية للسياسات التي أسقطتها الانتفاضات الشعبية.
استطاعت جماعة «الإخوان المسلمين» طيلة المرحلة الانتقالية، منذ سقوط مبارك وحتى انتخاب محمد مرسي، استعمال «مسألة الهوية» كمحور للجدال السياسي وأداة للحشد التنظيمي، فربحت وقتاً ثميناً في مرحلة ما قبل الصعود إلى السلطة. وفق ذلك المقتضى أسست الجماعة واجهاتها الحزبية: «النهضة» في تونس و«الحرية والعدالة» في مصر على أرضية محافظة، عبر بناء حزب اليمين الكلاسيكي سياسياً، القادر على تمييع الاستقطاب الحقيقي في المجتمعات بين «اليمين واليسار»، ليتحول الحراك السياسي إلى استقطاب «إسلامي ـ علماني». ومع وصول الجماعة إلى السلطة في مصر، لم تعد «مسألة الهوية» كافية للإجابة على تساؤلات العدالة الاجتماعية، التي كانت الشعار المؤسس للانتفاضة الشعبية المصرية 2011. ويقود تقليب النظر في المشهد المصري إلى أن أطروحات «الإخوان المسلمين» لا تتصادم بأي شكل من الأشكال مع الخطوط الأساسية لسياسات مبارك الاقتصادية، إذ أن عمودها الأساس هو تغييب العدالة الاجتماعية وتشريع الأبواب أمام السياسات النيو ـ ليبرالية والاندماج الطوعي في رأس المال العالمي.
لا تملك غالبية التيارات الإسلامية العربية القدرة على تقديم البدائل الاقتصادية والدولتية لمجتمعاتنا، إذ سريعاً ما تتكشف عبثية المقارنة بين هذه التيارات ومثيلاتها غير العربية للحصول على قدر من الشرعية وكسب بعض الوقت؛ عبر استظهار «تجارب إسلامية ناجحة» في ماليزيا وإندونيسيا وتركيا. لا تصمد هذه المقايسة أمام التحليل المدقق، لأن تيارات الإسلام السياسي في هذه المجتمعات غير العربية شهدت تطوراً تاريخياً وبنيوياً مغايراً، ما يفضي بدوره إلى تكون ذهنية اقتصادية ودولتية مختلفة تماماً عن مثيلاتها العربية عموماً والإخوانية خصوصاً. ربما يكمن موطن الخلل الأساسي في إشكالية الطفور التاريخي المرتبط أشد الارتباط بقيم «الريع العربي» الخليجية، وهنا يختلف تيار الإسلام السياسي العربي بوضوح عن التيار الإسلامي في الدول غير العربية: ماليزيا وإندونيسيا وتركيا. تبدو مهمة «الإخوان المسلمين» صعبة للغاية بعد وصولهم إلى السلطة في أعقاب «الربيع العربي» وفي مرحلتيه الأولى والثانية. ومرد الصعوبة عوامل متباينة يتقدمها طبيعة رأس المال الداعم لـ«الإخوان»، حيث راكم رأس المال الداعم لتيارات وأحزاب الإسلام السياسي في تركيا وماليزيا وإندونيسيا بالمقابل فوائضه من عمليات إنتاجية كلاسيكية في قطاعي الزراعة والصناعة أولاً. بالمقابل فقد ترافق الطفور التاريخي لتيار الإسلام السياسي في الدول العربية بمنتصف سبعينيات القرن الماضي مع فورات أسعار النفط والغاز في منطقة الخليج، وما تفرّع عنهما من قدرة مالية متعاظمة لدول «الريع العربي» النفطية. وهذه القدرات المتعاظمة تم ـ ويتم حتى الآن بأشكال متفاوتة ـ تدوير بعضها لصالح تيارات الإسلام السياسي العربية وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» لمواجهة التيارات السياسية والفكرية المخالفة، فارتبط الاثنان: هذه التيارات وتلك القدرات برباط لا ينفصم. وبغض النظر عن تخوفات دول خليجية مثل السعودية والإمارات من «المشروع الإخواني» بعد تمكنه من السلطة في تونس ومصر بسبب تداعياته المحتملة على موازين القوى داخل المجتمعات الخليجية، فإن التكون التاريخي لرأس المال الإخواني كان ـ ولا يزال ـ ريعياً وخليجياً بامتياز. وأدى ذلك التكوّن التاريخي إلى تثبيت تصورات قروسطية حول ماهية الدين ومقاصده لدى الكثير من تيارات الإسلام السياسي العربي، وهي التصورات المتبلورة على خلفية التحالفات العشائرية ـ الدولية للتحكم بموارد الطاقة الريعية. وكان أن خلقت هذه التصورات بالنهاية ما يمكن الاصطلاح عليه بـ «فقه النفط» و«فقه الغاز»؛ والأخير يهيمن بوضوح على أطروحات «الإخوان المسلمين» خصوصاً بعد «الربيع العربي»، وبروز الدور القطري في مرحلتيه الأولى والثانية.
تختلف التيارات الإسلامية غير العربية عن مثيلاتها في الحالات العربية اختلافاً بيّناً من حيث غلبة الطابع التنموي في الحالات الماليزية والإندونيسية والتركية، و«الريعي» الصافي في الحالة العربية عموماً والإخوانية خصوصاً. وإذ ترتكز قيم «الريع العربي» المهيمنة على الذهنية الإسلامية العربية على موروثات عشائرية وقبلية مغرقة في خصوصيتها الخليجية المحلية، فإنها تعود لترتبط بالاقتصاد العالمي على نحو طفيلي لا يرتبط بعمليات إنتاجية محلية؛ وإنما بسياسات تسعير موارد الطاقة دولياً. وإذ ترتفع أطروحات الإسلام السياسي في المنطقة العربية على موروثات غير عربية تعود إلى أبو الأعلى المودودي كعمود لخيمتها، فقد تأثر «الإخوان المسلمون» في العقود الماضية بالسلفية إلى الحد الذي أعد فيه الراحل العظيم حسام تمام أطروحته الشهيرة: «تسلف الإخوان». ويظهر يوماً بعد يوم أن النخبة الاقتصادية الفاسدة من عصر مبارك قد تم إيداع بعض رموزها الأبرز في السجون ـ أحمد عز ـ، في حين هرب قسم صغير منها إلى الخارج بأمواله، مقابل الجسم الأبرز لهذه النخبة الذي يتفاوض معه «الإخوان» الآن لمشاركته كعكة مصر الاقتصادية. تتقدم الرموز الإخوانية، وأبرزها خيرت الشاطر وحسن مالك، نحو شغل مواقع الصدارة في عالم المال والأعمال في مصر، وفقاً لنفس الآليات وتحت مظلة السياسات النيو ـ ليبرالية ذاتها التي أفقرت عشرات الملايين من المصريين.
يتجلى بوضوح أن السلوك السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين» منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في 25 يناير/كانون الثاني 2011 لم يتجاوز استعمال كتلة التنظيم التي تقارب مليون صوت في مكاسرات انتخابية على قاعدة «صراع هوية»، وليس على قاعدة العدالة الاجتماعية وهي الشعار المؤسس لانتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 الشعبية. أظهرت «الجماعة» مهارات عالية في التفاوض مع الإدارة الأميركية لتقديم الضمانات الخاصة بإدامة التوجه النيو ـ ليبرالي للسياسات الاقتصادية المصرية، والتعهدات الخاصة باستمرار التعاون الأمني والإقليمي مع واشنطن، فضلاً عن ضمانات سياسية تتعلق باحترام «معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية» وعدم المساس بها. ومع تراجع احتياطات النقد الأجنبي وهروب رؤوس الأموال من مصر، بالتوازي مع عدم قدرة أو رغبة «الإخوان المسلمين» في انتهاج سياسات اقتصادية ـ اجتماعية بديلة تعبئ الموارد المصرية وفقاً لأولويات التنمية والعدالة الاجتماعية، لا يتبقى أمام محمد مرسي وجماعته، منعاً لانهيار اقتصادي وشيك، سوى التوجه للاقتراض من صندوق النقد الدولي. سيعقد مرسي وجماعته البارعة في التكتيك اتفاق القرض بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة وليس قبلها، لضمان عدم تأثيره على النتيجة، ولكنه سيدخل وجماعته بالرغم من ذلك ـ ومع التسليم بالبراعة في التكتيك ـ في نفق سبق أن دخله مبارك واستمرأ البقاء فيه. فالمؤسسات الدولية المانحة ليست مؤسسات للعمل الخيري أو للضمان الاجتماعي، وإنما مؤسسات تجسّد إرادات دولية وتتطلب ضمانات وشروطاً للتقيد بتنفيذ سياساتها المعادية حكماً لمقتضيات للعدالة الاجتماعية.
سيتلاشى وقت إبرام اتفاق القرض الجديد لصندوق النقد الدولي ذلك الفارق الافتراضي بين «الكومبرادوري الحليق» و«الكومبرادوري الملتحي»، وسيظهر لكل ذي عينين أن «مشروع النهضة» الإخواني لا يعدو أن يكون فقاعة إعلامية وسياسية ستنفجر في وجه مطلقيها. سيشتعل الغضب الشعبي مجدداً، ولكن هذه المرة ضد القوى السياسية التي سرقت «الربيع العربي» في مرحلته الأولى وعجزت عن تحقيق أمنياته في مرحلته الثانية، وتحاول عبثاً في مرحلته الراهنة التغطية على سرقتها ببيع «وهم النهضة» لعموم المصريين
مصطفى اللباد
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية ـ القاهرة.
إضافة تعليق جديد