«غبار الطلع» لعماد شيحا
ألحّت عليَّ بعض الأسئلة، وربما ستلحّ على الكثيرات والكثيرين: ما الذي قد يكتبه معتقل سياسي مثل عماد شيحة أمضى حوالى ثلاثين عاماً في السجون؟ دخل وهو لم يتجاوز الحادية والعشرين وخرج قبل عامين أقرب إلى الخمسين. ما هي العوالم التي سيخلقها معتقل مثله في رواية، وقد سُفحت سنوات نضجه ومعرفته بالحياة وتجاربها وراء القضبان؟ وهل يستطيع الكاتب أن يعيش اللغة في مخيلته فحسب، أي من دون أن يكون هناك منها على أرض الواقع سوى ذاكرة حاضرة وجدران الزنازين؟!
كثيرون، وخصوصاً معتنقي البنيوية، يعتقدون أن النص ينبغي أن يُدرس ويُحلل بعيداً عن الكاتب، حيث يغدو، أي النص، كياناً منفصلاً لا يمت الى شخص كاتبه ولا الى تجاربه بصلة. لكن الأمر بدا واضحاً في رواية عماد شيحة الأولى "موت مشتهى"، التي سرعان ما ألحقها بثانية، "غبار الطلع"، صدرت أخيرا عن "المركز الثقافي العربي" في بيروت، وكلتاهما كتبت من وراء القضبان. هذه الجديدة مبنية، هي أيضاً، على التخييل، وتروي حياة متخيلة على الورق. كأن شيحة يجسّد بكتابته قول ابن عربي: "فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس إلا خيال... فالوجود كله خيال في خيال".
على طول صفحات الرواية، التي تكاد تبلغ الخمسمئة صفحة، ينعى عماد شيحة، بانتحاب سردي جارح، جيلاً كاملاً رزح تحت بطش الديكتاتورية، ثم أتت الحياة بعد ذلك لتبدل مصيره وتحرفه على هواها وفق تراجيديا أقرب إلى التشفي. المصائر المتبدلة التي تحكم ذاك الجيل، تبدو في الرواية أقرب إلى أدب الفضح، فضح كل ما حدث وظل خبيء النسيان، ليتكشف بشكل واضح أن الديكتاتورية نجحت في تشويه الجيل بكامله، حتى بات يشكّ في نفسه.
في استكمال للنعي تنقسم الشخصيات في غبار الطلع قسمين، جماعة تختار الهرب لينجو أصحابها بما تبقّى من عمرهم، ويحموا أنفسهم من عفن السجون التي كانت ستطول أرواحهم في الدرجة الأولى. لكنهم يخسرون الوطن، والأهم يخسرون احترامهم لذواتهم. أما الجماعة الثانية فيدفع أصحابها أعمارهم ثمناً لخيارهم، وتُهرَق سنوات طويلة في غياهب المعتقلات، ثم يخرج كل منهم ليتشظى على طريقته الخاصة. من خلال الشخصيات الكثيرة المتقاطعة والمتداخلة، يستطيع شيحة أن يتمثل مقولة فلوبير، التي بعثها في إحدى رسائله إلى صديقته كولي، وفيها أن على الكاتب أن يكون مثل الله تجاه الكون، حاضراً في كل مكان ولا يُرى في أي موضع. نجح شيحة في نقل شخصيات متشظية حتى الأقاصي، كل منها يلعق جروحه وحده. وعلى الرغم من أنها شخصيات مختلفة في كل شيء، ألا أن روحاً واحدة توحدها، هي روح بروميثيوسية بنسب متفاوتة، مع تصلب سيزيفي.
تتماوج الحكايات زمنياً لتروي حيوات جماعة الداخل، وتجعل القارئ مجبراً على المشاركة في الحوادث، وعلى لملمتها بتسلسلها التقليدي، فيتبدى الأبطال أمامه، إما منكفئين على أنفسهم، خارجين على الزمان والذاكرة ليحموا ما تبقّى من أرواحهم، وإما مختارين التعامل مع السلطة وأجهزتها الأمنية، ليصبحوا مجرد جواسيس ومخبرين، ضد الذين كانوا يوماً رفاقهم. سيبدو ذلك واضحاً في شخصية فريال، الشخصية النسائية الأكثر تماسكاً في الرواية، والتي تبرر تعاملها مع الأمن في مونولوغات طويلة وحوارات أطول، لكنها في النهاية تفعل ذلك بشكل هو غاية في الإنسانية. وهي إذ تقوم بتسليم جميل، أحد الهاربين الذين عادوا إلى الوطن، واعتقل فور وصوله، فإنها تبرر ذلك بقولها: "ما الذي تنصحني بفعله؟ أواصل دفن نفسي بعد انهيار صرح السماء - الحلم وتناثر زرقتها شظايا جارحة على أديم الأرض". وفي موضع آخر تقول جملة ذات دلالة: "فقدنا أرواحنا بعدما دفنوا أحلامنا في مدافن مجهولة كنفايات سامة وما أبقوا لنا سوى تلك الأجساد. لِمَ لا نمنحها حقها بعد طول حرمان؟".
الارتكاس هذا سيمثله أيضاً الفنان المتصعلك إبرهيم، لكن عبر معاشرته المومسات لاهياً عما كان، سافحاً أوقاته بلا اكتراث، وستمثله أيضاً نوال الشابة بوهب جسدها وتشردها في الشوارع. الارتكاس نفسه ستمثله شخصيات اخرى، وإن في شكل مغاير، وهو التقوقع على الذات والاكتفاء بالانتظار: رحاب التي تربّي جنان وتنتظر أدهم، وصفاء التي تربّي ولديها وتنتظر جميل! هذا التقسيم يجعل الشخصيات النسائية في الرواية تنوس بين عاهرة، حتى لو كان هناك ما يبرر فعلها، وقديسة لها ما يبرر فعلها أيضاً. ضفتان لا ثالثة لهما، الأمر الذي يجعل هذه الثنائية الحادة تطغى على شخصيات الرواية عموما.
خلال القرون الماضية تنافس اتجاهان متعارضان في الأدب، اتجاه يحاول جعل اللغة عنصراً بلا ثقل، يرفّ فوق الأشياء كغيمة، واتجاه آخر يحاول إعطاء اللغة كثافة وثقلاً وملمساً للأشياء والأجساد والأحاسيس. يتبنى عماد شيحة الخيار الثاني، بما يؤدي إلى جعل لغة السرد ثقيلة، وجملها منهكة بالتشابيه والاستعارات وما إلى ذلك، فتنوء الرواية تحت أثقالها وينوء القارئ معها، وتستحيل القراءة كقدّ في الصخر. ذلك كله سيفضي إلى فكرة، أعتقد أن شيحة متأكد منها تماماً، هي عدم قدرة الرواية على جذب جموع من القراء، فقارئ "غبار الطلع" هو قارئ عن سابق الإصرار، قارئ يقرر القراءة مهما يكن الثمن.
تزيد الحوارات من صعوبة السرد، وهي لا تقل أهمية عنه، لكنها تجعل الشخصيات في بعض المواقع تبدو أقرب إلى ثلة من الممثلين على مسرح. حوارات بلغة عالية، الجميع فيها شعراء أو فلاسفة، لا يخونهم لسانهم، ولا أعرف إن كان هذا التماسك المبالغ فيه ضرورياً بين شخصيات تتحاور في نص ينبغي أن يُقرأ في أوائل القرن الحادي والعشرين وليس نصاً كُتب في القرن الثامن عشر مثلاً.
لكن التيمة الأساسية التي تهب التنوع في الرواية، هي التبدل في ضمائر السرد، ويستخدمه شيحة سلساً وغير واضح، الأمر الذي يجعل الحكاية تتدور بين عيون متعددة في الصلب نفسه، ويضفي غموضاً على غموض، وخصوصاً إذا عرفنا أن الروائي لا يحدد لا الزمان ولا المكان، ولا يسمّي الأشياء بمسمياتها، ولا الشخصيات، وتظل الإحالة الوحيدة هي الذاكرة، الذاكرة فحسب، والتي تتوفز في كل صفحة من صفحات الرواية.
مصير الحكاية المركبة سيتحدد بشكل جذري حين يؤوب القيادي الفار أدهم الجبيلي إلى الوطن، ليضع النقاط على الحروف، فيقتل فريال المخبرة، كأنه يتطهّر ويطهّر الرفاق من وصمة عار. يضرب مالك الشاب المعربد الذي غرر بربيبة حبيبته رحاب، ويحاول ثني رحاب عن قرارها عدم السفر معه من جديد، رغم أنه أتى من أجلها فقط، وأخيراً لا يسلّم نفسه الى السلطات الأمنية رغم أنه يعرف أن رفيق عمره جميل سلّم نفسه بدلاً منه ومات هناك في المعتقل. سيأتي أدهم ليضع النقاط على الحروف، لكن كقيادي ولّى زمانه، وفقد كل ما كان يكنّه له رفاقه. وكما قالت له فريال قبل أن تُقتل: لم يعد هناك مكان للعقل بل للقبضة، يجيء أدهم ليحسم الأمور بمنطق الزمان الحالي: بالقبضة، حيث لا مكان للمنطق والحق والعدل.
يشكل التناوب السردي في القسم الأخير من الرواية دلالة موحية، حين يجعل الكاتب الفقرات السردية تتناوب بين جميل المريض الذي يتلقى العذاب في فرع الأمن بدلاً من أدهم، وأدهم وهو يتلقى العاهرات بين ذراعيه ويتلظى في نار اللذة. هذا التناوب الدال بامتياز، سيُختم أيضاً بمشهد دال حين تضم الزنزانة، في آخر الرواية، كل الشخصيات التي سبق ونأى بعضها عن بعض في الوطن: صفاء وأولادها، حنان، رحاب، وفيقة وزوجها وأولادها، وابرهيم. شخصيات كأنها تبحث بانفرادها عن نسيان تلك التجارب الأليمة التي أُجبرت على المرور بها، ونسيان الأثمان التي دفعتها قسراً. في تلك الزنزانة اجتمعوا، أو أجبروا على الاجتماع، كي يتعرفوا الى المعتقل الذي بدا أشبه بحامل لصليبه. المفاجئ أن الجميع تواطأ معه في انتحاله شخصية أدهم، ولم يعترفوا بهويته الحقيقية التي يعرفونها جميعاً. الشخصيات في الزنزانة أمام خوف حقيقي يهزها طويلاً: أن تكون في طريقها الى استبدال عزلتها الداخلية الفردية بعزلة خارجية جماعية. ويتبدّى الأمر جلياً في تلك الزنزانة الخاتمة. العزلة معناها أنهم سهّلوا عمل الذي يدفعهم الى ذلك من غير مقاومة تكبح مخططاته.
أعتقد، ختاماً، أن الأدب ممهور بثلاث تيمات أساسية: الأولى إثارة الجمال في نفس القارئ، وجعله يعي ما دُفن في أعماق روحه، وأعتقد أن شيحة أستطاع جعلنا ننظر إلى دواخلنا. الثانية هي إثارة الأسئلة ودفع القارئ إلى إعادة إنتاج النص، وبهذه أيضاً وفق شيحة بامتياز. أما الثالثة فهي المتعة، التيمة الأكثر مضاء، وهذا ما تفتقر اليه رواية عماد شيحة. لكني أعتقد أن هناك ما قد يشفع له في رواية ضخمة كـ"غبار الطلع"، مشغولة بعناية زائدة على اللزوم، وتزخر بعوالم وحيوات غاية في الغنى والتنوع، كأنها وثيقة تكشف انكساراتنا وهزائمنا وكل ما اقترفته يد البطش والديكتاتورية في أرواحنا وأعمارنا.
روزا ياسين حسن
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد