«كابوس مكيف الهواء» لهنري ميللر.. النموذج الأميركي
فكرة تأليف كتاب عن أميركا، راودت الكاتب هنري ميللر أثناء فترة تواجده في باريس. في ذلك الوقت بدت إمكانية تحقيق حلمه بعيدة المنال، ذلك انه لكي يؤلف الكتاب يجب أن يعود إلى أميركا، وأن يسافر كثيراً، وأن يتوفر له الكثير من المال. وبما انه لم يكن يمتلك الوسائل كافة للكتابة عن أميركا، وجب عليه أن يعايش روايته عنها، في مخيلته، وهو الأمر الذي فعله في أوقات متفرقة، وانتهى إلى رواية ناجزة بين يديه سمّاها «كابوس مكيّف الهواء»، صدرت حديثاً عن «دار المدى»، ترجمها أسامة منزلجي.
رواية على طريق اكتشاف أميركا وأرشفتها، تكتشف أيضاً الحياة الداخلية للإنسان الأميركي. النص مراوغ في فهمه لأدق التفاصيل اليومية الأميركية، فلا شيء يفلت من الكاتب الذي يبدو هنا، أكثر وضوحاً، وأكثر واقعية، وأكثر مادية من أي من نصوص كتاباته اللاحقة. كل حزن الحياة يكمن في تلك الحقائق التي يكتبها. إن حواس النظر والسمع والشم (بوعي أو بغير وعي) لدى الكاتب، تسجل حشداً من الأحداث، وموكباً من الأحاسيس والأفكار التي تعبر رأسه، وكل لحظة منها تمثل كوناً صغيراً. نجح ميكروسكوب ميللر العظيم في إيقاف اللحظات الهاربة، والإمساك بها، وجعلنا نراها ونمعن التحديق بها. عند ميللر، عالم الإنسان الداخلي يحتوي على معجزة لا نهائية لا تتوقف عن إدهاشنا، لكن ليس ذلك ما يدهشه هو نفسه. فهو يسأل في كتابه سؤالاً يختلف جذرياً: ما هي الإمكانيات الباقية للإنسان في عالم أصبحت فيه الحدود الخارجية غالبة لدرجة ان الدوافع الداخلية لم تعد تحمل أي وزن؟ يقول ميللر في معرض نقده الملحّ الحياة الأميركية برمتها: لم أجد متنزهاً في أميركا ملأني بأي شيء آخر غير الحزن والضجر، ثم إن المتنزه الأميركي هو فراغ مطوق ببلهاء مصابين بالتخشب. يلمس ميللر في المشاهد الأميركية التي يتناولها في: «كابوس مكيف الهواء» تلك الأكوام الإنسانية التي تحاول ان ترتقي بالعقل وإن لم يكن هناك أي عقل. القاذورات والنفايات التي تجرفها مياه المجرور داخل وخارج كنائس العالم المسيحي، والمعابد الروزيكروشية، وصالونات التنجيم، والمستوصفات المجانية، واجتماعات الإنجيليين، ومكاتب الاعلانات، ووكالات التشغيل، والمنازل رخيصة الإيجار وما إلى ذلك. يكتب ميللر في النموذج الأميركي بامتياز، المستعد دائماً لتصديق كل ما يكتب في الصحف، والمترقب دائماً لمجيء المسيح فيخلص إلى انه لم تتبق ذرة واحدة من الإنسانية، وان الإنسان الأميركي هو الدودة البيضاء التي تشق طريقها ملتوية في ملزمة الاحترام.
نص هنري ميللر هو فوضى كاملة يستمد منها تلك الإيحاءات المفترسة التي تثبت أميركا في خانة الفضيلة، في حالة تأجيل دائم. اللغة عند ميللر مجمدة تتعيش من ذاتها ومن معايناتها في نفس الوقت، وليس منوطاً بها ان تودع في ديمومتها الخاصة سلسلة متحركة من المعاني التقريبية، بل تسعى، نقيض ذلك، إلى ان تفرض بوساطة وحدة إشاراتها وظلها، صورة كلام تم تكوينه قبل أن يبتكر. تتبدى لغة ميللر رمزية في أحيان، منكفئة، متجهة جهاراً صوب منحدر سرّي، فيما هي في الحقيقة ديمومة من الإشارات الواضحة ذات الحركات الدلالية. كل الوصف والإشارات إلى المجتمع الأميركي، يستهلك له الكاتب لغة دافقة تعمل بوضوح وكأنها افتراس لجسد أميركا المنخور، وهي متجذرة دائماً في وضوحها، وهي تبدي جوهراً وتفشي أسراراً.
في زاوية «كابوس مكيف الهواء» ليس كرهاً ما يظهره ميللر نحو أميركا، بل هو الخوف والحرص، والحب الذي يتطلب منه تعبئة كل قواه وحروفه، ضد رغبة أميركا بالسقوط في فخ «الآلة». يكتب ميللر في نشوة الضعيف، واعياً بضعفه، فيقرر أن يقاومه بدل أن يستسلم له، وهذا ما احتواه نصه، وما احتوته روايته من نقد لأميركا، ولأهلها الذين هم أهله.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد