«مارسيل بروست» . . إضاءة من الداخل
(هل سيتسنى لي الوقت كي أنجز مؤلفي. لا أريد أن يمتلئ قبري، قبل أن أبني عمارتي) هذه العبارة القلقة، التي قالها يوماً الأديب الفرنسي مارسيل بروست، تختزل مخاوفه التي لم تفارقه طوال حياته، فوسيلته الوحيدة للقضاء على الزمن المدمر هي الكتابة، فاعتزل العالم ليكرس حاله لإنتاجه، ويقضي ما تبقى له من عمر مع ذكرياته ينسج منها مادة رائعته الضخمة، التي هي رواية الرواية: «البحث عن الزمن الضائع» حيث عانى من صعوبات المسلك الوعر الذي اخترقه، والصراع المرير الذي خاضه حتى تمكّن أخيراً من صوغها، والعثور لحياته الفائتة على معنى.
الناقد سمير الحاج شاهين، يعتبر أن «الشهوانية» قوام عبقرية الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست، وذلك في كتابه الصادر حديثاً عن دار الجمل بعنوان «مارسيل بروست عبقري الطفولة». ألم يصرح بروست: «لقد تركت في الماخور جزءاً من كياني الخلقي». لا يخفى ذلك أبداً سواء على القارئ أو الناقد، من خلال النافذة التي يختبئ خلفها الراوي ليتلصص لمدة طويلة على المشهد الخلاعي بين الآنسة فانتوي وصاحبتها، أو وهو يفتعل العطش ليدخل إلى فندق يتحول بصورة سحرية إلى مبغى للرجال. هكذا بروست حطم كل القيود ليسير حرّاً، ليروي ما يعتمل في داخله وخياله ووجدانه، من دون مخططات مسبقة.
بروست المولود في العاشر من تموز العام 1871 في احدى ضواحي باريس، ظنوه أضعف من أن يستمر في الحياة. وقد عزا وهنه إلى حرمان أمه إبّان حصار الألمان للعاصمة الفرنسية، التي دخلوها بعد أن انقطعت عن العالم الخارجي، خلال أربعة شهور تجويعية شحّت فيها المواد الغذائية. وعندما كان في التاسعة أصابته أول نوبة ربو، أثناء نزهة مع العائلة في غابة بولونيا. وكاد يموت تحت عين والده المرتاع. وهذه العلة تسبب اوجاعاً مبرحة ستلازمه حتى رمقه الأخير، فرئته تتهيج لعبير زهرة، أو أي عطر آخر، وتلزمه باتخاذ احتياطات صارمة، في غرفته، وخلال رحلاته، التي تناقصت بعد فترة، وتعطيه ملاذاً في وجه الإكراهات الاجتماعية، ما يسمح له بالانسحاب من العالم للتفرّغ لقلمه، وذريعة لالتماس الحنان، في حجرته المطلة على الحديقة المطلة على الحديقة المزروعة بأشجار الكستناء العملاقة.
المؤلف يخصص فصولاً متعددة لمكونات النص البروستي مثل «نشوات الحاضر، حضورات الماضي، سرابات الهوى، تناوبات القلب، ندوات المجتمع». يستعرض التأثيرات الكبيرة لأدب بروست التي تفشّت في كل تيارات الأدب المعاصر.
فالملحمي ساد في عصر هوميروس، والمأسوي في عهد شكسبير و«اليومي» في جيل بروست، الذي لا ينتج أعمالاً خالدة إلا إذا ابتكرها على صورة سرمدية كامنة فيه، لا يعيش إلا بها، والذي ألف أول رواية بدون عرض وذروة وحل للعقدة. وبذلك استطاع تحويل الواقع اليومي إلى عمل فني لا يمكن تلخيصه، اسمه «البحث عن الزمن الضائع»، يتألف من سبعة أجزاء آخرها، معنون بـ«الزمن المستعاد»، لأنه نوع من التأمل في الستة السابقة. مثبتاً يقينه بأن الأديب لا يبدع إلا من خلال الغنى الروحي الكامن فيه، أي عندما يتعالى إلى مناخ الأبدية، ومع أعماله، عاد الفكر ليتصور الحياة اليومية، ويصفها، ليعكسها على مرآته، ويشوّهها، ليتجذر فيها، ويتفوق عليها، لأنه لا يكتفي بأن يستنسخها ويجمع جمالها الجاهز، بل يخلقه. ولقد جاء إلى العالم لذلك، ولا ينقلها آلياً، بل يفهمها روحياً، حتى ليستدرك بروست من خلال مشاهدته فيدر راسين، نظرية حول الفن الدرامي، ويصعد من أدنى الوقائع إلى أعلى الماهيات وأعمق المحاضرات المزوّدة بكل تجهيزات البرهنة. إنه لا يراقب الأشياء من الخارج لأنه عندئذ لن يراها. بل يضيئها من الداخل بمصباح فلسفي وشعري طفولي وصعب لفرط شبهه بالحياة.
لينا هويان الحسن
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد