«إيواء» لفايز قزق... سفينة نوح السورية
ثمة مختبر مسرحي ينمو بهدوء وكتمان داخل جدران المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مختبر كان من الصعب عليه أن يزدهر ويترعرع على مسارح العاصمة السورية؛ أولاً من جهة المحرّمات الدينية والسياسية التي ستواجهه، وثانياً من جهة طبيعة العروض التي يديرها أساتذة ومخرجو الأكاديمية المسرحية الأعرق في البلاد. هكذا على الأقل سيقدم فايز قزق عرضه «إيواء واء واء» (استوديو شريف شاكر13- 15 أيار) كحلقة من سلسلة عروض كان قزق قد بدأها مع طلاب التمثيل، فمن «وعكة عابرة» (2008) إلى «حكاية السيدة روزالين» (2011) وصولاً إلى المشروع الأخير؛ يبرهن بطل مسرحية «ريتشارد الثالث» تجربةً إثر أخرى أن البروفة هي الزمن الأصلي لصياغة العرض المسرحي؛ سواء من حيث اشتغاله على الارتجال كمسوّدة دائمة الكتابة مع الممثل، أو حتى من خلال تلك الرغبة في نبش خفايا الممثل وزعزعة كيانه الداخلي؛ دافعاً إياه إلى أقصى ما يمكن من البذل والسخاء على الخشبة.
الممثل المعروف واللهبي الحضور في عروض قزق غني بتلك الطاقة والحيوية الفريدة، فلا هوادة ولا مناص من استثمار كل قطرة عرق، كل خيط من حباله الصوتية. هنا كل خلية في جسد هذا الممثل تصبح مُستفزة ومتوقدة، فتتحرك الدورة الدموية للعبة المسرحية بأسرها، تصبح هيّنة ومطواعة وليّنة؛ رشيقة وحارّة ومتداعية. هذا على الأقل ما يمكن التقاطه من التجربة التي كرّسها قزق سنةً بعد أخرى مع طلابه في قسم التمثيل المسرحي؛ خارجاً بهم لا سيما في (إيواء واء واء) إلى براح التأمل الجماعي والبحث وفقاً للفرضية التي وضع المخرج السوري طلاب السنة الثالثة تمثيل فيها؛ لتكون وجهاً لوجه مع الحرب الدائرة في بلادهم. حكاية الشخصيات الثماني عشرة في العرض تكاد تبدو مزدحمة بحضورها وأفكارها باضطراباتها الموحشة، وتعويلها على (الغروتيسك) كشكل مرح وباطن مأساوي، الأطفال في لحظة التناسخ العجيب نحو القتل والتآمر، دار الإيواء التي تحولت إلى ماخور، المواجهة الصادمة بين الدين والمدنية، قصة الحب الكردية في عيد النوروز؛ قارب الموت المزدحم بدوره كسفينة نوح سوريّة؛ يكاد الدم يحفُّ بها من كل جهات الأرض الأربع، الملاكم ورجل الدين، الديوث والعاقر؛ الخادم والسيدة..الخ. متتالية لا منتهية من غثيانات منفلتة بوحشية على خشبة العرض؛ جعلها (قزق) تبدو كصورة مصغّرة عن بلادٍ ترقص في حفلة تعذيب جماعي؛ حيث لا يهدأ سعير المواجهة حتى يعود ويشتعل وفق ثنائيات متحاربة، سعير لا ينجو منه حتى الأموات في أكفانهم وفق توزيع أدوار مختلفة للجوقة الحركية، والتي تصير في لحظة كتلة واحدة تتماوج على إيقاع محتدم ومتصاعد باستمرار؛ فيقترب أحياناً من «مونوتون» الصراخ والولولة أو التشفي من همجية المتقاتلين ودمويتهم، وصولاً إلى ترداد ما يشبه ترنيمة سريانية قديمة (نسي أمسو) بمعنى (معجزة الخلق) الثيمة التي اعتمدها العرض للدلالة على عمقٍ سوري حضاري قادر في النهاية على مجابهة قوافل الموتى بأسراب من ولادات جديدة، قد لا تكون بيولوجية وحسب، بل ولادات قيصرية لشعبٍ يعيد ترتيب بيته الداخلي وإصلاح ذات البين.
هذا الأسلوب الكورالي ـ إن صح التعبيرـ في تنغيم الصراع المسرحي وتلحينه على مقام الحرب بين الأخوة أنفسهم، لم يخلُ هو الآخر من محاولة فهم تلك العلاقة بين الأجيال؛ وترجيعها فرويدياً إلى علاقة الأبناء بالأمهات والآباء والأجداد؛ وربما في كثير من الأحيان جعل الجسد فاتحة هطول لفحص دم السلالة الملعونة التي أنجبت كل هذه الحشود من القتلة والمجرمين والعشاق والضحايا وعاثري الحظ وشذاذ الآفاق، ففي عرضٍ مسرحي واحد استمر أكثر من ساعتين يصعب على الجمهور التمييز بين كل هذه المتنقاضات؛ لكنه في النهاية سيعرف أن المسرح الجديد في سوريا يمكن له أن ينمو بعيداً عن مغريات التلفزيون، فتحت ضغط مشاريع التخرج وتحقيق عبودية الممثل للمخرج - المشرف؛ يصير بالإمكان حشد كل هذا الكم من الممثلين لجمهور ذي احتياجات مسرحية خاصة جداً.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد