ألبرت أوست ماير: القراء تلك الجثة الممدة
صدر أخيرا عمل شعري جديد للشاعر الألماني ألبرت أوست ماير الذي يعدّ أحد أهم الأسماء الشعرية في الحياة الشعرية الألمانية وألمعها منذ أول ظهور له في تسعينات القرن الماضي، وينتمي الى جيل قدّم الى الشعر الألماني توماس كلينغ الذي صار علامة محفورة في تاريخ الشعر الألماني الحديث. واذا اعتبرنا كلينغ استثناء خاصا وشاعرا فذا وخارج المنافسة، إلاّ اننا لا نستطيع أن نغض النظر عن بقية أسماء هذا الجيل وفي مقدمهم أوست ماير، الذين ضخوا دماء جديدة في عروق الشعر الألماني وذهبوا به إلى مناطق لغوية شائقة. دليلنا الجديد، الديوان الذي نحن في صدده اليوم.
العنوان "بولار"، وهو الاسم الذي حمله تيار أفلام الجريمة الفرنسية في الستينات والسبعينات، ويقترن بأسماء لا تُنسى في تاريخ السينما العالمية: ملفيل، جاك ديراي، والان كورنو. وكانت أفلام مثل "ملاك ببرودة الثلج" و"أربعة في دائرة حمراء"، وغيرهما، أسرت قلوب الكثيرين في ذلك الزمن، ولا يزال لها عشاقها حتى وقتنا الراهن.
من خلال مشاهد وصور ولقطات سينمائية، في تركيبات بصرية خاصة، وبإضاءة معتمة لامعة يختلط فيها الأزرق بالرمادي في صقيع باريسي قاس، يجعلنا البرت أوست ماير نعيش مع قصائده، وفيها، في الوقت ذاته، فنرى جثة ممددة على سجادة فارسية، وسيجارة تلتهم نفسها في مطفأة كريستالية، الى سطور مكتوبة في خطاب مثبت على آلة كاتبة، فكأننا جالسون في عدسة كاميرا تشيّد مشاهدها بتفاصيل تجريدية منمنمة.
تحضنا القصائد على التنقل من مشهد إلى مشهد، من صورة إلى صورة، ومن مدار إلى مدار، حتى ليبدو الشعر حجرة فلكية ثلاثية البعد (بلانيتاريوم)، فيها ينبت العدم بسرعة طوفان، ويشيع الصمت، واللاشيء، والموت، والحرية، فالتملص من ثقل الصواب والخطأ. فكأن القصائد أمكنة للإقامة في هذه الحيوات الموازية، داخل هذه الحجرة الكونية التي تبزغ من مقابر القلوب وغابات الحب الجليدية، حتى لنتحد مع رغباتنا في التعاطف والتحالف مع الشر، ومع اللاأخلاقي والجريمة الناجحة. وهو التعاطف نفسه الذي نشعر به مع أبطال الأفلام لدى ملفيل وهم يخططون لجرائمهم وينفذونها.
إلا أن الشاعر ليس معنياً بالقتل والدم والقسوة، إنما يمتطي الذاكرة خلال الموت – الحرية - انقشاع الزرقة الضبابية، حيث سطوع الشمس من حقيبة المال المسروقة في نهاية جريمة كاملة، وحيث البرودة تسري في أطرافنا، وتتسارع ضربات القلب أمام مرأى "سيارة في التفافات وعرة/ القاتل في انتظار حرارة الفرامل/ فحرية السقوط/ كل شيء هلامي/ هو وحده بقي ملموسا بنعومة بشرته الشائكة/ ممسكا بزمام الخسارة".
بين الجانب المظلم ورجفة الحياة، يسأل القارىء نفسه: لماذا سينما البولار؟ ليجيب بما يشبه اليقين، أن القراء هم الجثة الممددة، والسيجارة المتآكلة في مطفأة كريستالية، والقاتل الأجير، وحرارة الفرامل على وجه الأرض. فالقصيدة – المشهد ليست رحلة عقلية وروحية في التاريخ، لالتقاط سويعات ننفصل فيها عن هم عيشنا، إنما هي لحظات تفضح واقع الانسان الغربي ومجتمعه في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث العنف والتمرد والقسوة ورؤية البطل المضاد، أدوات هذه اللحظات وبراهينها. هذا التطرف في تقديم العنف والقسوة والإنحلال الأخلاقي، قد يكون محاولة لخلق عالم موازٍ يشخص الجانب المظلم للبشر وساديتهم وحاجتهم الى تحطيم كل عرف أو قانون. يلتقط أوست ماير هذا الخيط، ويوجّه بمكر عينين شاعرتين، نظرة زجاجية باردة الى العالم، فتسري الرجفة في الصدر. نعثر أيضاً في الأبيات على نفحة حميمية شخصية، حيث نقرأ ما خلّفته الأهوال في العقل الباطن للإنسان الغربي، كا في وجدان الشاعر وقرائه. ألسنا نحن هؤلاء البشر الذين ننشدّ، أكثر ما ننشدّ، الى برامج القتل وأفلام الجريمة وأخبار الحروب، التي هي محض خيال، وتسلية، وليس لها علاقة بالواقع.
الديوان فيلم خام، لكننا نشاهد صوره ومشاهده على الورق، بضوء بارد وألوان رزينة، على خلفية زرقاء تحتضن رمادية باريسية. وثمة خلف السكين، في فوهة المسدس، حول كشّاف العربة، عينا الشاعر تبثان صقيعاً من شأن الضوء الذي يلمع فيه أن يوقظ في داخلنا مقامرة مثيرة وحماسة غريبة حيال الموت.
ولد ألبرت أوست ماير عام 1967 في ميونيخ. درس الألمانية والأدب ونشر ديوانه الأول عام 1988، ثم تنوع نشاطه الأدبي بين المسرح والشعر والقصة، إلا أن نجمه لمع كشاعر وكاتب مسرحي ذو لغة خاصة. وقد احتفت به الصحف ووسائل الإعلام في الكثير من المناسبات، باعتباره أحد ألمع الأسماء الشعرية في جيله.
نال العديد من الجوائز، وله سبع عشرة مسرحية وثمانية دواوين شعرية، بالإضافة الى مجموعة قصصية وبعض الدراسات الأدبية.
من أهم اعماله: "جسم غريب في قرب الجلد" و"ليس في البندقية" (شعر)، "بين نارين" و"99 درجة" (مسرح).
أمير علام
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد