فوكوياما والوباء: عودة الدولة ضرورة

30-05-2020

فوكوياما والوباء: عودة الدولة ضرورة

 سعدون يخلف:

ارتبط اسم فرانسيس فوكوياما (1952)، المفكر الأمريكي الشهير، بأطروحة «نهاية التاريخ». هي، في الأصل، مقالة قام بتطوير أفكارها، في ما بعد، إلى كتاب بعنوان «نهاية التاريخ والرجل الأخير» (1992)، يقدم فيها قراءة للحدث الأبرز، الذي جرى في أواخر القرن المنصرم، سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتداعي نظامه الشيوعي، تتلخص هذه الفكرة، كما يقول، في «أننا بلغنا النقطة الأخيرة للتطور الأيديولوجي للبشرية، ووصلنا إلى المرحلة التي عُمِمت فيها الديمقراطية الغربية، باعتبارها الشكل النهائي الأخير للحكم في التاريخ البشري»، بالتالي، فإن الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، في التحليل الأخير، هي النظام المفضل للبشرية، به تتحقق الرفاهية للشعوب، ويتحقق السلام العالمي.
هذه النظرةُ الموغلة في التفاؤل، جعلت من مفكر آخر هو صموئيل هنتنغتون (1927- 2008) يدق ناقوس الخطر، معلناً، في الوقت ذاته، في مقالة له بعنوان «صدام الحضارات» (1993) بعدها، يوسع أفكارها هو الآخر، ناشراً إياها في كتاب تحت عنوان «صدام الحضارات: وإعادة بناء النظام العالمي»، بأن الصراع هو العلامة المميزة لما بعد نهاية الشيوعية، صحيح أن الصراع الأيديولوجي انتهى، غير أن صراعاً آخر في طور التشكل من جديد، وهو الصراع بين الحضارات، بمعنى أن النموذج الغربي، ليس كما أدعى فوكوياما، انتصر وقُضي الأمر، بل ما زال في مواجهة حضارية مع بقية العالم، ولعل أبرز هذه الحضارات، التي تهدد قيم الغرب، وتكبح هيمنتها على العالم، حضارة الإسلام والكونفوشيوسية الصينية.
لقد كانت لفوكوياما مراجعات عدة حول فكرة النهاية هذه، إلا أنها كانت، في الحقيقة، مراجعات شكلية لا تمس عمق الأطروحة وجوهرها، بما أنها تنحاز إلى الغرب وتفوقه، وإلى الليبرالية كنموذج وحيد صالح للعالم، مأزق كورونا فيروس جعل فوكوياما، على ما يبدو، أكثر جرأة في الطرح، وأكثر صرامة في مراجعة أفكاره، إلا أنها، كما أشرنا سابقاً، هي مراجعات، وإن كانت مهمة في الظاهر، إلا أنها تحافظ على جوهر فكرته النهائية.

1 ـ الثقة في الحكومة هي الخط الفاصل

في البداية، ينفي فوكوياما في مقال له بعنوان «الفيروس التاجي (كورونا) ما الشيء الذي يحدد مقاومة بلد ما؟» أن يكون الخط الفاصل في القدرة على الاستجابة الفعالة لأزمة كورونا هو الأنظمة الديكتاتورية في مقابل الأنظمة الديمقراطية، كما جادل البعض عندما قالوا إن الحكومات الديكتاتورية أظهرت كفاءة عالية في الأداء، في حين أظهرت الحكومات الديمقراطية فشلا كارثيا، في الحقيقة، هناك أنظمة ديمقراطية نجحت في اختبار جائحة (كوفيد -19)، ككوريا الجنوبية، وألمانيا، كما نجح كذلك النظام التسلطي في الصين، مع أنه يرسم العديد من علامات الاستفهام أمام حقيقة قدرة الصين في مجابهة الفيروس، كونها لم تتعامل مع الأزمة بشفافية، وقدمت، في كثير من الأحيان، معلومات غير صحيحة ومزيفة، وإنما خط الانقسام الحقيقي، في اعتقاده، يتمثل في قدرة الدولة، وفي الحكومة القوية، والسياسة الصحية الفعالة، إذ يقول: «لن يكون المحدد الأساسي هو نوع النظام، ولكن قدرة الدولة، وقبل كل شيء، الثقة في الحكومة»، من ثم، فإن الناس بعد السيطرة على الجائحة، لا يسألون عن نوعية النظام، ما إذا كان ديمقراطياً أم ديكتاتورياً، بقدر ما يكون سؤالهم، هل استطاعت حكومتهم أن تسيطر على الوباء بكفاءة عالية أم لا؟ لذلك يتأسف على الثقة المفقودة في الحكومة الأمريكية الحالية، لأن الثقة، في مثل ظروف كهذه، هي العملة المهمة، التي تُمكن من الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، يقول: «والثقة، للأسف، هي بالضبط ما تفتقده أمريكا اليوم».

في هذا السياق، يرفض تلك الجدلية التي تجادل بأن الديمقراطية الليبرالية لها حكومات ضعيفـة «لأنها يجب أن تحترم الاختيار الشعبي، والإجراءات القانونية»، بعكس الأنظمة التسلطية القادرة على إخضاع شعوبها بالانضباط والقهر، عندما تستجد أزمة من هذا القبيل، مؤكداً، في الوقت ذاته، بأن «ما يميز الديمقراطية الليبرالية عن النظام الاستبدادي هو الـ«توازن بين سلطة الدولة ومؤسسات التقييد، أي حكم القانون والمساءلة القانونية»، المفتقدة، بطبيعة الحال، في الأنظمة الاستبدادية.

2 ـ انتكاسة العولمة وعودة الدولة

تعيش العولمة منذ فترة انتكاسة كبيرة، حتى قبل مجيء هذه الجائحة، وما يحدث الآن هو تأكيد لهذه الانتكاسة ليس إلا، «لقد وصلت العولمة أصلا إلى حدودها قبل الجائحة، وكان هناك تفكير في كبحها»، وما تقوم به هذه الجائحة، حسب فوكوياما، هو «تسريع هذا التفكير» حتى يتحقق على أرض الواقع، لكن مع ذلك يشير إلى أن هذه الانتكاسة مؤقتة، فسرعان ما تعود العولمة إلى سابق عهدها، وإلى ذلك الحين، يجب على العالم أن يتأقلم مع هذا الوضع المستجد، لأنه ليس من المعقول «الاعتقاد بأن المجال الاقتصادي سيعاود نشاطه للوصول إلى الاكتفاء» بعد هذه الأزمة، وما صاحبها من إجراءات، كالحجر العام وإغلاق الدول لحدودها، لهذا يُلح فوكوياما على ضرورة أن يعيد العالم في طريقة تفكيره في التنمية، لأن مستواها سيتراجع بشكل كبير «إلى المستوى الذي كان عليه قبل 50 سنة».
أما عن السبيل الذي يسلكه العالم حتى يخرج من هذه الأزمة، فينبغي، كما يرى فوكوياما، العودة إلى «الليبرالية التي وجدت سنوات 1950 و1960»، في هذه الفترة تعايش كل من «اقتصاد السوق، واحترام الملكية الخاصة، ودولة فعالة»، بمعنى يجب أن تتدخل الدولة من جديد من أجل «تقليص التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية»، وهنا، تظهر الحاجة إلى «دولة قوية»، في رفض صريح للنيوليبرالية، كونها ترفض تدخل الدولة، بأي شكل من الأشكال، كما أنها تعمل على ترسيخ التفاوتات، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية، على هذا الأساس، يعتبر فوكوياما بأن النيوليبرالية كفكرة تكون انتهت، بل «ماتت أصلا».

3 ـ هل هي عودة للتاريخ من جديد؟

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو: هل نحن أمام بداية جديدة للتاريخ؟ يرى فوكوياما أن هذه التطورات التاريخية، طبيعية وحالة صحية في النظام الغربي، وبالتالي، فهي لا تدل على بداية جديدة للتاريخ، أو على عودة للتاريخ، كما يرافع البعض، لأن ذلك معناه الارتماء في أحضان الديكتاتورية، و«الاستسلام لصفارات أنظمة أكثر ديكتاتورية»، ولكنها، في الواقع، إصلاح لليبرالية أو تنقيتها من التشوهات، التي أصابتها، بفعل الممارسات المتطرفة من طرف النيوليبراليين، وذلك بـ«تعديل التوازن بين الليبرالية، الحماية الاجتماعية، وتدخل الدولة مهما كان الثمن».
في المحصلة، كأن فوكوياما يرد على أولئك الذين يعتقدون بأن هذه التصحيحات في مسار النظام الليبرالي، ما هي إلا دلالة على رفض البشرية له، مرافعين، في الوقت نفسه، بضرورة عودة الاشتراكية وأخلاقياتها، لتسيير شؤون العالم، بحيث يراها، على العكس من ذلك، عملية صحية، لا تدل، بأي حال من الأحوال، على رفض البشرية لليبرالية، بقدر ما تدل على مدى مرونتها وحيويتها في تصحيح أخطائها، وفي إصلاح تشوهاتها.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...