جورجيو أغامبين: ضرورة التفكير في كورونا

05-06-2020

جورجيو أغامبين: ضرورة التفكير في كورونا

سعدون يخلف:

يواصل جورجيو أغامبين (1942)، الفيلسوف الإيطالي، انتقاده لسياسات بلاده التي أقرت الحجر الصحي، وفرضت الإغلاق العام على المدن والمطارات والموانئ، واعتمدت التباعد الاجتماعي بين الأفراد، كاستراتيجية وعقيدة، لكبح جماح هذا القاتل المتسلل، وتوقيف هذا العدو غير المرئي، (كوفيد -19)، معتبراً أن كل هذه الإجراءات، حتى إن بدت بأنها ذات أهداف إنسانية، إلا أنها تخفي، في الحقيقة، هدفها الأساسي، ألا وهو الحد من حرية الناس، الذي ينتج عنه، في نهاية المطاف، نشوء مجتمع شمولي، لكن هذه المرة، بخلاف المرات السابقة، توجد قابلية من طرف هؤلاء الناس أنفسهم في التفريط في حريتهم بسهولة، إذْ يقول: «فرط مواطنو الديمقراطيات الليبرالية بحرياتهم، بين عشية وضحاها، وعلى الرغم من التناقض الظاهري، فإن عقيدة التباعد الاجتماعي الجديدة، تؤدي إلى نشوء مجتمع شمولي من الأشخاص غير الفاعلين».
يمكن الإشارة هنا إلى أن أغامبين لا ينفي وجود المرض، أو يقلل من خطورته، بل ينتقد الإجراءات الوقائية المبالغ فيها، مدللا على ذلك بما حدث في التاريخ، بحيث «انتشرت أوبئة أكثر خطورة في الماضي، ولكن أحداً لم يفكر وقتها في إعلان حالة طوارئ، مثل التي نشهدها اليوم».

استثمار الخوف

استغلال الوباء بهذه الطريقة المسعورة والمتطرفة، يبرز، مرة أخرى، كيفية استثمار الحكومات للكوارث والأزمات من أجل تمرير مشاريع جديدة، هي بالطبع ليست في مصلحة المجتمعات، بقدر ما تخدم الطبقة الحاكمة، وتزيد من سطوتها وجبروتها. لا شك في أن الكوارث، من هذا القبيل، تتسبب في إطلاق موجة من الذعر، تجعل الناس في حيرة من أمرهم، لا يستطيعون تحديد خياراتهم، ولا ترتيب أولوياتهم، أقصى أمانيهم أن يبقوا أحياء، لأن الخوف، كما يقول أغامبين، «مستشار سيئ»، لاسيما بعد الإجراءات التي تتخذها الحكومات، لأجل مواجهة هذا الوباء كـ»حالة الاستثناء»، حظر التجول والطوارئ والإغلاق العام، التي، مع مرور الوقت، تغدو قاعدة، والدليل على ذلك أن مثل هذه الإجراءات، كما تدل وقائع التاريخ القريبة، تُسن لكي تبقى، حيث يقول: «ما يُثير القلق ليس الحاضر بالدرجة الأولى، أو ليس الحاضر فقط، وإنما ما يحمله المستقبل، مثلما تُخَلفُ الحروب لأوقات السلم سلسلة من التقنيات المشؤومة، فمن المرجح أيضاً استمرار التجارب والإجراءات الناتجة عن الأزمة الصحية الطارئة، التي لم تكن الحكومات من قبل قادرةً على فرضها، سواء تمثلت بإغلاق الجامعات والمدارس، وإعطاء المحاضرات والدروس حصراً، عن طريق الإنترنت، أو حظر التجمعات واللقاءات لنقاش أي موضوع، سياسياً كان أم ثقافياً، أو إلزامنا بالرسائل الإلكترونية وسيلة تواصل وحيدة، في ما بيننا، وجعل الآلة بديلاً لكل لقاء- عدوى بين الناس»، تكون النتيجة، في التحليل الأخير، هو تضحية المجتمع بحريته لأجل البقاء.

ضرورة التفكير

يدعو أغامبين الناس إلى تدريب عقولهم على تمرين التفكير الجاد، فبدلا من القلق المفرط الناتج عن الذعر من كورونا، ينبغي الاحتكام إلى منطق التفكير، لفهم ما وراء القصة، بحسب ما أشار إليه من خلال عنوان مقاله: «عن كورونا: علينا أن نقلق أقل ونفكر أكثر»، حيث دعا فيه إلى ضرورة التفكير بجدية في ما يجري، لأن آثاره المترتبة ستكون عميقة في المستقبل المنظور، لا على الأفراد فحسب، إنما على المجتمع ككل، من حيث علاقة الناس بعضهم ببعض، وعلاقة الفرد مع نفسه أيضاً، على أن التساؤل الذي يطرح وفقاً لأغامبين هو: كيف وصلت الأمور إلى الحد الذي تسممت فيه حياة الناس، وتلوثت العلاقات بينهم بسبب مواجهة المرض؟

إن شعور «مجتمع بأكمله بأنهُ مسمومٌ وملوثٌ في مواجهة المرض»، أمرٌ مرعب، وغير مبرر على الإطلاق، ولمواجهة هذا المرض يتحتم على الجميع أن يعزلوا أنفسهم في المنازل، ويعطلوا سير حياتهم الطبيعية كـ»العمل والصداقة وعلاقات الحب، وحتى المعتقدات الدينية والسياسية»، والأفظع، من كل هذا، هو الشك في النفس أو في الآخرين، باعتبارهم، هم الجحيم، أو مصدر الخطر المحدق، أي ناقلين للعدوى، «فجأةً ينظر إلى الآخرين، وإلى نفسه، على أنهم، أنه، مجرد ناشرين للعدوى، يتوجب تغطية وجوههم بالأقنعة، والابتعاد عنهم مسافة أمان لا تقل عن مترين». يبدو أن «الحاجة إلى الأمن» في زمن الإرهاب، استبدلت اليوم في ظل الوباء بـ»الرغبة في السلامة». هل كل هذه الأمور طبيعية ومعقولة ومبررة؟ ينبغي إعمال التفكير بجدية في هذا الموضوع، كما يقول أغامبين.

الحاجة إلى الدين

يُظهر مثل هذا الوضع المأساوي حاجة البشر إلى الدين، يتجلى ذلك في «الاستخدام المتكرر والمهووس للمفردات والاستعارات الأخروية»، بحيث يتصدر الحديث عن «نهاية العالم والقيامة»، كلام الناس ووسائل الإعلام، وبما أن الكنيسة (رمز الدين) عاجزة عن إشباع هذه الحاجة، وإرواء هذه الرغبة، يبحث الناس عما يخفف من قلقهم، ويقلل من معاناتهم، في مواطن أخرى، لعلهم يجدون الترياق، الذي قد يشفيهم من هذا القلق والمعاناة؛ فيلجأون إلى العلم، الديانة الجديدة، إذْ «وجدته (البشرية) في ما بات منذ زمن الدين الحقيقي في عصرنا: العلم»، غير أن العلم كأي دين آخر، ينتج هو الآخر «الخرافات والمخاوف المألوفة في الأديان أوقات الأزمات، وما تجلبه من آراء وقوانين مختلفة ومتضاربة»، بحيث تتعدد الآراء بين «أقلية مهرطقة» و»خطاب أرثوذكسي سائد»، الأولى تنكر خطورة المرض، بينما الثاني؛ يؤكد نقيض ذلك، ما يؤدي، والحال هذه، إلى الاختلاف في الآراء حول «كيفية مكافحة المرض».
ليس رجال الدين (الكنيسة) وحسب، من تخلوا عن دورهم الإنساني في مساعدة الضحايا، وجبر خواطرهم في هذا الوضع المأساوي؛ فكذلك رجال القانون، إذ باتوا، بين عشية وضحاها، مجرد خدم لرجال المصالح، يشرعون حالات الاستثناء والطوارئ في البلاد، من دون أي مبرر معقول أو مقبول.

الحياةُ العارية

ثمة ظاهرة أخرى، بحسب أغامبين، تستدعي إعمال التفكير فيها، ففي وضع كهذا، تتفكك القناعات، ويهتز الإيمان واليقين، وتقل الخيارات المتاحة، فتجد الناس لا يؤمنون إلا بالحياة البيولوجية العارية، التي من شأنها أن تبقيهم أحياءً، «إن أول ما يظهره بوضوح موجة الذعر التي شلت البلد هو أن مجتمعنا لم يعد يؤمن بأي شيء سوى الحياة العارية»، هذا الخوف من فقدان الحياة لا يؤدي، في الأخير، إلا إلى تأسيس سلطة الاستبداد والطغيان، والدولة هي الكيان الوحيد، القادر على القيام بهذه المهمة، يؤكد ذلك بالقول: «فقط (ليفياتان) المتوحش»، من يستطيع «بسيفه المشهر» إخضاع من يريد الخروج عن السيطرة.

التباعد الاجتماعي

إن التباعد الاجتماعي، بحسب أغامبين، هو لفظة ملطفة، وكلمة مخففة، للمصطلح القاسي المتمثل في «ترسيم الحدود»، بمعنى أن العلاقة بين الأفراد لا يحكمها قانون إنساني قائم على التعايش والاحترام، بل قانون يعمل على إنتاج العداوة والخوف، هو قانون الفصل يفرق لا يجمع، هنا يثير سؤالا في غاية الأهمية: «ما نوع النظام السياسي الذي قد يترتب عن هذا المفهوم؟». ربما تكون عقيدة التباعد الاجتماعي إستراتيجية صحية مفيدة، غير أن ذلك لا ينفي استغلالها من طرف جماعات المصالح لغاياتٍ أخرى، بعيدة كل البعد، عن غايتها السامية المعلنة، فهي، كغيرها من الإجراءات الأخرى، «مختبر تجرّب فيه حالات وأوضاع سياسية واجتماعية جديدة، تنتظر الإنسانية في المستقبل»، من هنا، ينشأ الخوف من ضياع المعنى الحقيقي للاجتماع الإنساني، لافتاً النظر، إلى أن المجتمع القائم على التباعد الاجتماعي هو، في واقع الأمر، مجتمع غير صالح سياسياً وإنسانياً.

الجماعية الجديدة: الحشود

على ضوء ما سبق، تغدو الجماعية، أي الجماهير، الجديدة، التي خلقها الذعر وتدابير التباعد الاجتماعي، على شكل حشود، تتميز بالسلبية والركود، وتفتقد إلى القدرة على اتخاذ القرار، ببساطة، هي جماهير أكثر انضباطاً وخضوعاً، تنتظر في كل اختبار إلى من يوجهها، ويلهمها بالأفكار الصحيحة، يقول أغامبين مستشهداً بكلام إلياس كانيتي:»الحشود الراكدة تنتظر، تنتظر رأساً يمنح لها»، حتى لو كانوا مجتمعين، في الظاهر، فإنهم سيرفضون القيام بأي فعل، نتيجة سلبيتهم، «يرفضون، وهم مجتمعون معاً، القيام بأفعال كانوا يقومون بها أفراداً حتى تلك اللحظة، الحظر يأتي مفاجئاً، يقومون بفرضه على أنفسهم، بكل الأحوال، فإن الحظر يضرب بأقصى قوة، يملك طبيعة أمر مطلق لا مشروط، إلا أن الشيء المميز له هو طابعه السلبي» (إلياس كانيتي).
تجدر الإشارة، في الأخير، إلى أن هناك فرقاً بين المجتمع القائم على التباعد الاجتماعي والفردانية، لهذا ينفي أغامبين أي علاقة بين المجتمع القائم على التباعد، وذاك الذي يقوم على الفردانية، التي يحتفي بها البعض؛ فالفردانية تنتج أفراداً فاعلين إيجابيين، بينما المجتمع القائم على التباعد ما هو، في الأخير، سوى «حشود مميعة، مبنية على أساس حظر، وهي لهذا السبب بالذات متراصة وسلبية بشكل خاص».

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...