رودلف بلتمان ونزع الطابع الأسطوري
يعد رودلف بُلتمان واحدًا من كبار اللاهوتيين البروتستانت في القرن العشرين، ورغم أن اسمه يقترن غالبًا بمشروع «نزع الطابع الأسطوري أو الصبغة الأسطورية من الكتاب المقدس» Demythologzing، والذي كان وما يزال محل خلاف، فإن شهرته كباحثٍ كبير في «العهد الجديد» New Testament كانت راسخة قبل أن يصدر مقاله الشهير «يسوع المسيح والميثولوجيا» عام ١٩٤١م، والحق أنه خطا خطواته الأولى في اتجاه النزعة الوجودية في اللاهوت في زمنٍ مبكرٍ يعود إلى عام ١٩٢٦م حين أصدر كتابه «يسوع»، ومنذ ذلك الحين جعلت الخطوط الرئيسية لفكره تتحدد تباعًا وتشكل محاولةً جادةً لمواجهةٍ أكثر معقوليةً لمشكلة تأويل العهد الجديد تأويلًا ملائمًا لإنسان القرن العشرين.
قلنا إن اسم بُلتمان يقترن عادةً بمشروع «نزع الأسطورية»، وهو مصطلح غير موفق لأنه يولِّد تصورًا خاطئًا عن عمل بُلتمان؛ إذ يوحي بأن «العهد الجديد» بالوضع الذي هو عليه يُعتبر خرافيًّا أو أسطوريًّا أو غير حقيقي ويلزمه من ثم تكييف وتعديل لكي يلائم نظرتنا الحالية للعالم، ويتعجل برسم صورة للاهوتي عبقري متهيئ لإقصاء العناصر الأسطورية من الأناجيل بوصفها خاليةً من المعنى، وتقديم إنجيلٍ مختزلٍ لا يبقي إلا على العناصر المقنعة التي يقبلها العقل. هذا التصور عن عمل بلتمان هو تصورٌ خاطئٌ فاحش الخطأ، فنزع الأسطورة لا يفترض مطلقًا حذف العناصر الأسطورية من الأناجيل أو تجاوزها وغض الطرف عنها، بل يؤكد فيها المعنى الأصلي والمكنون، إن نزع الأسطورة لا يعني بحالٍ تطويع الأناجيل لكي تلائم طرائق الرؤية الحديثة، إنما هو موجهٌ ضد نزعة الفهم الحرفية السطحية الثاوية في الأسلوب الحديث في النظر إلى الأمور، ضد ميل عامة الناس (وحتى اللاهوتيين) إلى اعتبار اللغةٍ مجرد معلوماتٍ بدلًا من النظر إليها كوسيطٍ من خلاله يواجه الله الإنسان بإمكانية فهمٍ ذاتي جديدٍ تمامًا، فهمٍ غير الفهم الإغريقي وغير الفهم الطبيعي وغير الفهم الحديث، و«نزع الأسطورية» ليس أداةً في يد النزعة العقلية لفضح التزييف وتحطيم الأوثان على طريقة فرويد ونيتشه وماركس (فهناك فرقٌ بين «نزع الأسطورية» Demythologizing و«نزع التزييف» Demystification كما أوضح ريكور)، ذلك أن «نزع الأسطورية» لا يرمي إلى الإطاحة بالرمز الأسطوري وتحطيمه، بل يعتبر الرمز الأسطوري نافذةً لنا على «المُقدس»، فأن نؤول الرمز يعني أن «نتذكر» معناه الأصلي الحقيقي وإن توارى الآن واحتجب.
من الوضح أن «نزع الأسطورة» عند بلتمان يرمي إلى إحداث تحولٍ في الفهم الذاتي للمرء، ومن الواضح أن بلتمان، في مسألة الفهم الذاتي الوجودي، مدينٌ بالشيء الكثير لهيدجر الذي كان على صلةٍ وثيقة به في أواسط العشرينيات في جامعة ماربورج حيث كان هيدجر يُدَبِّج كتابه «الوجود والزمان»، ودون تورط في المبالغة في تأثير هيدجر على بلتمان (الذي جعل البعض، مثل ماكوري، يضاهي بين مفاهيم بلتمان ومفاهيم هيدجر مضاهاة نقطةٍ لنقطة) فلا شك أن هيدجر كان من المؤثرات الحاسمة في فكر بلتمان حول المشكلة التأويلية، وأن هذا التأثير يتجلى بوضوح في مفهوم «نزع الأسطورية» الذي يعد في صميمه مشروعًا هرمنيوطيقيًّا في التأويل الوجودي.
هناك على سبيل المثال تصور بلتمان للإنسان على أنه كائنٌ مستقبلي التوجه وتاريخي الوجود، وهو تصورٌ جد قريبٍ من تصور هيدجر الذي صرح به في «الوجود والزمان»، بل إن هناك ثلاثة جوانب محددةٍ أخرى على أقل تقدير في لاهوت بلتمان يقتفي فيها أثر هيدجر: (١) هناك التمييز بين اللغة المستخدمة كمجرد معلومة ينبغي تفسيرها موضوعيًّا على أنها حقيقة واقعة وبين اللغة المفعمة بالمغزى الشخصي والسلطة الجديرة بالسمع والطاعة، والتي توازي مفهوم هيدجر عن الطابع الاشتقاقي لعبارات التقرير (وبخاصة المنطق). (٢) وهناك فكرة أن الإله (الموجود) يواجه الإنسان ﮐ «كلمة» Word، كلغة، وهي توازي الفكرة التي ألحَّ عليها هيدجر حول الطبيعة اللغوية للوجود كما يعرض نفسه للإنسان. (٣) وهناك أيضًا مفهوم «الرسالة المبلَّغة» Kerygma حيث «الإنجيل/كلمة الله» يتحدث في كلماتٍ إلى الفهم الذاتي الوجودي، يقول بلتمان إن العهد الجديد نفسه يتجه نحو فهمٍ ذاتي أصيلٍ جديد، والغاية من إعلان «العهد الجديد» هي غرس هذا الفهم الجديد في الإنسان الحديث الذي يخاطبه اليوم، «كلمة» العهد الجديد إذن هي شيءٌ شبيهٌ بتحقيق «نداء الضمير» الذي تحدث عنه هيدجر في «الوجود والزمان».
من المؤكد أن الدعوة إلى فهم ذاتي جديد هي تحدٍّ لطريقة المرء في «الوجود في العالم» في العصر الحاضر، إن بلتمان لا يود أن يمحو «فضائح» العهد الجديد بل أن يسلك «الفاضح» في نصابه ويضعه موضعه، وهو يفعل ذلك لا بالتوكيد الإيماني على أساطير تُؤخذ بمعناها الحرفي، ولا بالاعتقاد في معلومات كوزمولوجية واضحة البطلان، بل بالإهابة بالطاعة المطلقة والانفتاح على النعمة والغبطة والحرية في الإيمان.
تشير أطروحات بلتمان في مشكلة الهرمنيوطيقا بشكلٍ واضحٍ ومحددٍ إلى أنه يُعرِّفها دائمًا على أنها نظريةٌ في الفهم بما هو كذلك.
وفي كتابه «مشكلة الهرمنيوطيقا» (١٩٥٠م) يعيد بلتمان التوكيد على المبدأ البروتستانتي القائل بالحرية التامة في البحث، ويمضي إلى حد القول مرة ثانية بأن الإنجيل يخضع لشروط الفهم نفسها وللمبادئ الفيولوجية والتاريخية نفسها التي تُطَبَّق على أي كتاب آخر، ومن ثم فإن «مشكلة الهرمنيوطيقا» ليست وقفًا على اللاهوت بل هي قائمةٌ في كل تفسيرٍ سواء كان تفسير وثائق قانونية أو تفسير أعمال تاريخية أو أدبية أو تفسير الكتاب المقدس، وبطبيعة الحال يبقى لب المشكلة هو تحديد مكونات الفهم التاريخي بالنسبة لنص من النصوص، يرى بلتمان أن السؤال الهرمنيوطيقي هو: «كيف نفهم الوثائق التاريخية المنحدرة إلينا في التراث؟» وهو بدوره يقوم على سؤال: «ما هي طبيعة المعرفة التاريخية؟» لهذه المشكلة كرس بلتمان نصف «محاضرات جيفورد» (١٩٥٥م)، وإلى ذلك التحليل الذي قدمه في هذه المحاضرات على وجه التحديد وجه إميليو بِتي فيما بعد اعتراضًا عنيفًا.
يُبيِّن بلتمان أن كل تفسيرٍ للتاريخ أو لأي وثيقةٍ تاريخيةٍ يحدوه اهتمامٌ معين وتُوجهه مصلحةٌ معينة، هذا الاهتمام بدوره يرتكز على فهمٍ مبدئي معين للموضوع، من هذا الاهتمام وهذا الفهم يتشكل «السؤال» المطروح على النص، وبدون هذين الشرطين لن يمكن لسؤالٍ أن يطرح ولن يكون هناك أي تفسير، ومن ثم فما من تأويل إلا وهو مسترشدٌ ﺑ «الفهم المسبق» Pre-Understanding للمؤوِّل (مما يذكِّر مرة أخرى بتحديدات هيدجر عن البُنى المسبقة للفهم في «الوجود والزمان» بوصفها الشروط المسبقة للتأويل)، فإذا طبقنا ذلك على التاريخ فهو يعني أن المؤرخ يتخير دائمًا زاوية معينة للرؤية أو وجهةً معينةً من النظر، مما يعني بدوره أنه منفتح بالدرجة الأولى على ذلك الجانب من العملية التاريخية الذي ينكشف للأسئلة التي تُطرح من هذه الوجهة من الرؤية، ومهما تذرع المؤرخ بالموضوعية في استقصاء موضوعه فما هو بقادرٍ على أن يهرب من فهمه الخاص، يقول بلتمان: «بمجرد اختيار زاوية معينة للرؤية يكون قد بدأ عمله، ما يمكن أن أسميه التلاقي الوجودي مع التاريخ، فالتاريخ لا يتحلى بالمعنى إلا عندما يقف المؤرخ نفسه داخل التاريخ ويشارك في التاريخ.» ثم يستشهد بلتمان بكولنجوود في قوله بأن الأحداث يجب أن يُعاد تمثيلها في عقل المؤرخ، وهكذا لا تغدو موضوعيةً ومعروفة له إلا لأنها أيضًا ذاتية، وما دام المعنى لا يبزغ إلا من علاقة المؤوِّل بالمستقبل، فإنه يغدو مستحيلًا الحديث عن معنى موضوعي، أي بلا وجهة رأي، وما دمنا لم نعد نزعم معرفة نهاية التاريخ وغايته فإن «السؤال عن المعنى في التاريخ (ككل) قد أصبح سؤالًا بلا معنى».
والحق أن «مبدأ هيزنبرج» قد يسري هنا في صورةٍ أكثر جذريةً، أي إن الموضوع الملاحظ نفسه يتغير بعض الشيء بفعل حالة كونه يُلاحَظ. إن المؤرخ هو جزء من المجال نفسه الذي يلاحظه، والمعرفة التاريخية هي نفسها حدثٌ تاريخي، ومن ثم فإن الذات والموضوع في علم التاريخ لا ينفصلان ولا يوجد الواحد منهما بمعزل عن الآخر، ولهذه الحقيقة، في رأي بلتمان، متضمناتٌ تخص الإيمان المسيحي، وخاصة من حيث إن المسيحي خلال اللحظة الأخروية يرتفع فوق التاريخ ويعود فيدخله بمستقبل جديد ومن ثم بمعنى جديد يضفيه على التاريخ، وقد يقول قائل هنا إن بلتمان في فكرة الأخرويات هذه يريد أن يمضي خطوة أبعد من كولنجوود ليستخدم مدخلًا (تناولًا) لاهوتيًّا (أخرويًّا) للسؤال عن المعنى في التاريخ، إلا أن الفكرة المحورية التي يرتكز عليها بلتمان واضحة وصريحة (وهي نفس الفكرة التي هاجمها بِتي): وهي أننا لا يمكن أن نتحدث عن معنى موضوعي في التاريخ؛ وذلك لأن التاريخ لا يمكن أن يُعرف إلا من خلال «ذاتية» المؤرخ نفسه!
المصدر:فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر (٢٠٠٣)عادل مصطفى
إضافة تعليق جديد