ألبير كامو: الفارق بين الإدراك والاسقاط

04-10-2021

ألبير كامو: الفارق بين الإدراك والاسقاط

هناك طريقتان للتعامل مع الواقع :

 " الإدراك" و " الإسقاط ". 

الإدراك:  هو رؤية الأشياء (كما هي) 

أما الإسقاط: فهو رؤية الأشياء كما (تراها أنت أو كما تريد أن تراها ). في الإدراك أنت تستقبل ما تراه وتتعامل معه( كما هو) ، أما في الإسقاط فأنت " ترسل" - وبشكل لا شعوري - أشعتك الداخلية على شيء ما أو شخص ما بحيث تعتقد أن هذه الأشعة تصدر من الشخص نفسه .

الإدراك عكس الإسقاط، في عملية الإسقاط أنت تضيف شيئاً ما( كامن فيك) - أو تحذف شيئاً ما - على شخص آخر فتراه "بصورة معينة" وغالباً ما تكون بعيدة عن الواقع تماماً ومسرفة في تقديسه أو تحقيره . عادةً نحن نضخم أو نقزم الآخرين . 


هذا يحدث يومياً في العلاقات البشرية. 

في علم النفس يقولون :

" كل شيء لم يندمج تماماً في شخصيتك الداخلية يتم إسقاطه على الخارج ".

وأكبر عملية إسقاط مخادع ومراوغ هو ما يسمونه" الحب من أول نظرة ". 

هذا وهم خرافي سينمائي روائي خيالي وليس حقيقي، وهو مجرد سراب جميل لروح متعطشة فقدت توهج روحها الداخلي فأخذت تقوم بإسقاطه على شخص آخر . الآخر يكون تقريباً مثل" وسيط التفاعل " بينك وبين نفسك من جهة لأنك تبدأ بالنظر لنفسك بطريقة جديدة وغالباً ماتكون" وهمية" ، وبينك وبينه من جهة أخرى ومرة أخرى بطريقة وهمية . "الحب" هو الأرض الأخصب لنمو الإسقاطات . فتصبح فتاة عادية جداً بالنسبة لك " ملكة السماء" و "آلهة الحب والجمال" ويصبح رجل عادي جداً " فارس الأحلام النبيل". 

هذا كله مُختلق وتم صناعته وحياكته في الداخل ثم لصقه على الآخر. بداخل كل منا "معمل لايكف عن الإنتاج" - إنتاج نفسك وإنتاج غيرك . لأننا فقط نقوم بإسقاط صورتنا نحن عن "المرأة المثالية" و"الرجل المثالي" .

كأن كل طرف كان يضع على وجه الآخر "قناعاً" فيخلط بين القناع والوجه الحقيقي. كلاهما يتبادلان لعبة الإسقاطات وبدون أن يشعرا، حيث يرى كل طرف الآخر حسب( إسقاطه) وليس حسب( حقيقته).  انها " حفلة تنكرية" لا شعورية.. ومن هنا تبدأ "التوقعات العالية " بحيث يتوهم العاشقان أن هذا السحر اللذيذ سيدوم للأبد .وتزداد هذه الإسقاطات خطورة، كلما استمرت بالعمل من وراء الكواليس.

لأن الإسقاط يحل محل الإدراك حتى لدرجة أنه قد يعدل ويبدل في الشخص الذي نتعامل معه فنراه إما (الشيطان الأكبر)  أو ( الملاك العذب الناعم) وكلاهما مجرد إسقاطان قمنا بهما لأننا لاشعورياً نرفع كثيراً من حجم من نحب ونضخمه لدرجة أسطورية، ونقلل ونحتقر من شأن من نكره ولدرجات خيالية أيضاً.. في كلا الحالتين نحن نكذب على أنفسنا ونكذب على الآخر، وهو أيضا يقوم بنفس اللعبة وبكل "صدق وبراءة " لأن الإسقاطات المتبادلة "لا شعورية"  تحدث رغماً عنا وبدون قصدنا الواعي. 

وتبعا لذلك نحن قمنا بسجن "الآخر" بهذه الصورة المُسقطة عليه، وهو أيضاً يسجننا بنفس الطريقة .

قد يتقبل هو هذا في البداية لأنه يغازل وهمه الجميل عن نفسه ويغازل أوهام الآخر . في الواقع تصبح " الصور" أهم من "الحقائق " ويصبح "الحب الكبير" مجرد تمثيلية " صادقة" ولكنها ليست حقيقية . 

نحن مجرد كائنات بشرية لنا عيوبنا ولنا" أمراضنا الخفية"  والكل يحتفظ بانكساراته وجروحه واخفاقاته وعقده وتطلعاته في داخله . والدماغ البشري "للعاشقين" يتأثر بكل هذا. 

تصبح " صورنا" و "خيالاتنا " هي المركز وليس حقيقة الأشخاص . هذا هو السبب في فشل معظم العلاقات البشرية وفشل الكثير من حالات الزواج الآن. 

لابد من فهم وضع الكائن البشري المُبتلى بداء الإسقاط . هذا فينا جميعاً. عندها نحن لا نحب "الآخر" كما هو، بل كما نحب "أن نراه-نراها "، وبذلك نحن نبحث عن أنفسنا في" الآخر ".. نحب أنفسنا من خلال الآخر.. نبحث عن ذلك الشيء الضائع فينا والذي كان علينا أن نجده "داخلنا" وليس في "الآخر ". 

ومع الحياة اليومية الواقعية تبدأ الاسقاطات بالتراجع شيئاً فشيئاً.. وتبدأ الحقائق القاسية بالظهور.. فـ "ملكة السماء" ماهي إلا فتاة عادية جداً ولها "عقدها النفسية" اللامرئية الخاصة بها و " روميو" هو مجرد رجل عادي جداً وربما مبتذل أيضاً.

يزول الطلاء الذهبي بالتدريج عن "العاشقين" ويبدأ كل طرف بتحميل الآخر مسؤولية تبديد حلمه الجميل ويحمله مسؤولية هذه الخيبة الكبيرة، بينما كان على كل طرف أن يلوم نفسه بما يصدر عنها من إسقاطات لاشعورية.

لا طرف يستطيع التخلي عن "إسقاطاته" وتبدأ دكتاتورية الإسقاط بالعمل من جديد ، ولكن هذه المرة كل طرف ضد الآخر.. تبدأ لعبة الانتقام بعد زوال لعبة الحب، وكلما كان "الحب" أكبر، كان "الثأر" أقسى. 

وتبدأ الحرب الباردة و الساخنة بين الطرفين.

لقد خدع العاشق نفسه، ويعتقد أن "الآخر" هو الذي خدعه ! إنها صدمة للكثيرين، خصوصاً الذين اعتادوا على التغذية من الإسقاطات المتبادلة. 

لم نكن نعيش (مع) الآخر، بل كنا نعيش (على) الآخر .

 


ألبير كامو

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...