زكريا تامر : اعترافات الضاحكين في الجنازات
نكذب ونحن نمدح, نكذب ونحن نذم ونهجو, نكذب ونحن نصفق, فكل ما في حياتنا مزوّر ملفق كاذب ما عدا أرصدتنا المتزايدة في البنوك.
نجلس إلى مائدة الوطن ونأكل اللحم والعظم والملاعق والشوك والسكاكين والصحون والطناجر والطهاة, ونتجشأ حالمين بالمزيد.
نتجرع ما هو معتق مستورد ونترنح سكارى ونعربد حريصين على ألا نقول ما نتوق إلى قوله, فحتى الحيطان لا يؤمن لها.
نحني رؤوسنا لكل من امتلك سيفاً أو هراوة متصنعين أننا مفعمون بالحب الممزوج بالاحترام.
نبحث عن سندان مدعين أننا الحديد البارد الذي يحافظ على شكله وصلابته متحدياً كل المطارق.
نتذمر من الربيع والخريف والصيف والشتاء تذمراً يحير الفصول الأربعة ويربكها. نحفر الحفر لخصومنا ونقع فيها.
نزرع الشعير متوقعين أن نحصد قمحاً.
نطوف في الحقول متظاهرين بأننا منتشون ببهائها ومسحورون بلونها الأخضر بينما أيدينا تقطع الأشجار بحماسة غير مبالين بمن يتهمنا بأننا جراد.
نهدم البيوت العتيقة ونمحو الأزقة الضيقة باسم إنقاذها من ظلمات التخلف والجهل.
نحملق بحسرة إلى الرايات الملطخة بدماء أجدادنا وآبائنا متلهفين على الخلاص منها.
نعشق كل من يعاملنا كأننا جياد تمتطى بغير سروج ولا تحتاج إلى مهاميز.
نسعى إلى مجد غير زائف, والمجد المنشود هو نفوذ وامتلاك أموال.
نخجل من زوجاتنا حين يكتشفن أننا نرتشي بالآلاف لا بالملايين متجاهلات أن المرتشين مقامات.
نرى دائماً في نومنا أننا موشكون على الغرق والسفن ترانا وتسمع أصواتنا المستغيثة ولا تبادر إلى نجدتنا وتبتعد عنا شامتة.
نشهر سيوفنا الغاضبة أيام السلم, ونسارع إلى دفنها في قبورنا أيام الخطر.
نكتب أسماءنا على رمال الصحارى والشواطىء حتى يستطيع أحفادنا التفاخر بأجدادهم.
نتوسل إلى السحب أن تمطر فوق أراضينا الظمأى, فتمطر السحب فوق البحار أو تمطر فوقنا أمطارَ من يرغب في أن يميتنا غرقاً.
ننتحب سراً مرتجفين فزعين ونختال علانية كالطواويس متباهين بجرأتنا وشجاعتنا وبسالتنا.
نواظب على الصلاة والصوم والزكاة والحج متضرعين إلى خالقنا الكريم أن يهبنا في الدنيا حصصنا من الجنة.
نستورد الأفكار والمبادىء ونصدّر الجوارب والفواكه المجففة.
نزدري المنافقين والنفاق ونسمي نفاقنا الزاحف نحو عتبة كل ذي نفوذ تهذيباً ورقة ولطفاً.
ننسى أبطالنا خشية انتشار الغيرة والحسد, ومن مات لا يحق له أن يزاحم الأحياء.
ننصت لكل الأوامر المباشرة والأوامر غير المباشرة والأوامر المتخيلة, ونسارع إلى تنفيذها بغير تسويف أو تأجيل قائلين إن من يحصي عدد اللطمات ليس كمن يُلطم.
نضيع ونتيه ونضل, ولا تعيدنا إلى حظائر الأمان إلا أغلى السيارات وأفخم الفيلات.
نزعم أننا نبصر ما حولنا من دون أوهام أو خدع مؤمنين بأن أغصان الأشجار قد تتحول في أي لحظة عصياً.
نغضب على من لا يرد على تحيتنا بأحسن منها, ولا نغضب على أقدام تطأ حناجرنا.
نتكلم ليل نهار من غير ملل كأن الكلمات هي التي ستبني وحدها المستشفيات والمدارس والحدائق, وهي التي ستمنح الناس كل ما يصبون إليه.
نخرج في الصباح من بيوتنا رماحاً تبحث عن فرائس ونعود إليها في المساء رماداً وغباراً.
نهزم جبالاً من الهم لنتخبط في بحار من الغم, فالاستيلاء على الغنائم والحفاظ عليها يتلفان الجسد وينهكان الروح.
نحكي لأطفالنا عن بطولاتنا جرأتنا شجاعتنا صدقنا زهدنا بغضنا للمال رؤوسنا المرفوعة بشموخ ,تقديسنا للحرية تبرعاتنا السخية السرية للأسر المحتاجة ,ورعنا الذي سيتكفل بالتطويح بنا إلى الجنان بغير حساب, ولا نخشى من افتضاح أكاذيبنا بعد موتنا.
نشكر بحرارة وصدق كل من استأجرنا لقاء أجر, فالدنيا سوق والناس هم سلعها المعروضة للبيع أو الإيجار.
ندهش لحظة يشنق أطفالنا القطط مطلقين الضحكات المرحة, ونتحير ونخنق شهيق الإعجاب بتلك الرجولة المبكرة.
نشتري بسعر رخيص ونبيع بسعر غال مقتنعين بأن ما نفعله هو أبلغ تلخيص للحياة.
نحاول رشوة عزرائيل, ونموت مغتاظين من سذاجة لا تفيد ولا تستفيد.
نضحك أولاً غير مبالين بمن سيضحك أخيراً
زكريا تامر
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد