هشام الدجاني ينحاز إلى الصحافة الورقية
يتأثر الرأي العام في بلادنا، كما في أي بلد نام، بطبيعة النظام السياسي ومدى تسهيله أو إعاقته لحرية التعبير. والمشكلة في البلدان النامية بشكل خاص أن احتكار السلطة والمعلومات في يد حزب أو فئات محدودة يحجب عن الرأي العام على نحو مقصود في الغالب حقيقة ما يجرى من أحداث وكيفية تفسير هذه الأحداث. ومما يزيد مشكلة التلقي لدى الرأي العام صعوبة، أن الصحافة المكتوبة التي ما تزال من أهم وسائل الإعلام، تصطدم بمشكلة الأمية الواسعة، وهذا ما جعل جماهير الأميين أو أشباه المتعلمين أو المثقفين تتجه إلى الوسائل المرئية والسمعية، والتي تخضع بدورها إلى درجة من الرقابة بنسب أقل، وتخرج عن إطار حصار البلد الواحد.
جاءت وسائل الإعلام المرئية من تلفزة وانترنت لتحدثا ثورة في عالم سعة الانتشار من جهة، وفي التخلص من الرقابة المقيتة المحلية من جهة أخرى. وأسقط في يد الأخيرة بحيث أصبحت صحفها بسبب رتابتها وتوجيهها الأيديولوجي المكرور تستخدم لأي شيء غير القراءة، اللهم إلا ما يتصل بالشؤون الحياتية للمواطن.
هل باتت الصحافة المكتوبة في آخر السلم بالنسبة لوسائل الإعلام؟! وهل سنشهد تراجعاً متزايداً لها في توجيه الرأي العام في ظل ثورة المعلوماتية الرقمية والمرئية؟!
من حسن الحظ، بالنسبة لأبناء جيلنا على الأقل، أن الصحافة الحصيفة والذكية ما تزال موضع تقديرنا، وما تزال تحتل حيزاً كبيراً من اهتمامنا، بحكم العادة إلى حد ما وبحكم قدرتها على توصيل التحليل الهادئ والمعمق إلى دخولنا بطريقة عقلانية ورصينة. من هنا فإن الصحيفة التي تحترم ذكاء قارئها واهتمامه، ولا تحاول أن توجهه بشكل فظ ومباشر – على طريقة صحف الأنظمة التوتاليتارية، ما تزال تحظى بالتقدير والاهتمام، ونراها أكثر ثراء، أو على الأقل لا تغني عن التلفزة والانترنيت ولكنها تزيدهما ثراءً وتنوعاً.
لعل هذا ينفي السؤال المطروح في هذا المجال اليوم: هل انتهى عهد الصحافة أو أوشك؟ أو أصبحت في آخر سلم وسائل الإعلام؟! في تقديري لا، لأن جيل الصحافة ما يزال الأوسع انتشاراً. فالصحافة الجادة والرصينة أقدر على تقديم التحليل المعمق والرصين، وأقدر على توجيه وجهات نظر هادئة، بدلاً من الغوغائية التي تصل إلى حد الصياح كما نشاهد في بعض الندوات الفكرية التلفزيونية. هناك شعور بالخصوصية بينك وبين الجريدة التي تحترمها تكاد لا تلمسه في توجهك إلى التلفزة أو الانترنت على أهمية ما ينشرانه. نعم هذا الشعور بالحميمية بيننا وبين الكتاب الذين نحترمهم ونحترم طريقة معالجتهم للأمور نكاد لا نستشعره بالقوة ذاتها في ندوات التلفزة. وبالمقارنة ما بين التلفزة والانترنت نجد أن الأخير أقرب إلينا لأنه ينقل إلينا مقالات مختارة من الصحف، قد لا نستطيع الوصول لأسباب كثيرة إليها، لعل أهمها الرقابة أو لعدم وصولها أو توفرها في بلد ما.
لهذه الأسباب أجدني مضـطـــراً بل منحازاً – إذا جاز التعبير – إلى الصحافة، الصحافة الجادة الرصينة التــــي تحترم نفسها وتحترم قارئها، ولا تخضـــع لعقلية الرقيب الجامدة والتسلطية. أنــــا أفاخر بين أصدقائي بأنني من جيل الورق، أي جيل الصحافة. نعم أنا أشعر بنكهة خاصة وأنا أقلّب أوراق الجريدة وأشم رائحتها. أمــــا التلفزة والانتــــرنت، رغم الاختراق العلمي الذي حققاه في عصرنا، فما زلت أشعر نفسياَ أنهما بعيدان عني بعض الشيء، ولكنهما قريبان علمياً وعملياً.
لذلك فإنني لا أتفق مع القائل إن الصحافة المكتوبة قد تراجع دورها في توجيه الرأي العام، أو في إعطاء الرأي والتحليل السليمين. صحيح أنها لم تعد الوسيلة الوحيدة منذ اختراع المذياع والتلفزة والوسائل الحديثة إلا أنها تبقى هي الأصل، وعنها تأخذ بقية المصادر الكثير.
من هنا نستطيع القول إن تراجع الصحافة هو تراجع ضئيل من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. فتأثير الصحافة المكتوبة ما يزال قوياً، وهي تأخذ منحى التحليل الهادئ والتفسير للأحداث، كما أخذت منحى الاستشراف والتنبؤ بالتطورات بدلاً من الجري وراء التقاط الأخبار ونقلها. وهذا ما يجعل مكانة الصحافة المكتوبة بين الجمهور الواعي مكانة راقية لأن النخبة العالية التفكير والمؤثرة في المجتمع هي التي تطلب التحليل والتغير العقلاني الهادئ للأحداث.
ثمة نقطة لابد من الإشارة إليها باهتمام. إنها ظاهرة ملحوظة في البلدان المتقدمة، وهي ظاهرة العودة إلى القراءة، بعد أن طغت الوسائل السمعية – البصرية فترة من الوقت، ربما من بداية الخمسينات وحتى السبعينات. إنها ردة إلى القراءة والقراءة المتعمقة التي لا نراها إلا في الكتب والمجلات الاختصاصية. لم يعد الخبر، مهما أحيط حوله من تهويلات، هو الثقافة. إنه العلم بالشيء، ولكن التحليل المعمق للخبر وحيثياته هوالذي يهم القارئ المثقف. وقراءة فنجان القهوة الصباحي ليس ثقافة. إنها اطلاع سريع. أما القراءة المعمقة فلا نجدها إلا في الكتب الرصينة أو المجلات المتخصصة. وهذه الظاهرة هي التي بدأت تستعيد أهميتها في المجتمعات الأوروبية المتقدمة، بحيث لم تعد الثقافة السطحية تشغل بالهم. في حين نجد أن المجتمعات النامية ما زالت مشغولة بالثقافة السطحية أو القراءة السريعة، وهذا ما يدعونا إلى أن نقرع الأجراس في وجه المثقفين – أو من يعتبرون أنفسهم كذلك -.
أخيراً أود أن أتجـــرأ وأقول إن الصحافة في بلادنا – وأعني سورية وبعض بلدان أخرى – لم تنطلق بعـد الانطلاقـــــة القوية التي توصلها إلى عتبة الصحافة الجادة الرصينة. فهي ما تزال أسيرة الملكية الحكومية أو شبه الحكومية لها مما يجعلها أسيرة لمالكيها بدرجات مختلفة. الصحافة السورية التي كانت في فترة الفترات في طليعة الصحافة العربية، تحتاج إلى ثورة تنزع عنها رتابتها ولغتها الطنانة. وهذا ما يتطلب بالطبع عدة إجراءات سريعة وحاسمة حتى تصبح مواكبة لروح العصر، مواكبة لصحافة بعض الدول العربية على الأقل، ولا سيما اللبنانية.
وهذا ما يتطلب توسيع هامش حرية الرأي والتعبير، والتقدم في عملية الديموقراطية، والأهم من ذلك المكاشفة الصريحة ضمن إطار شرعي واع.
هشام الدجاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد